مع حُكّامِ بني العباس باتَ الناسُ لا يعرفونَ الليلَ من النهار؛ إذ خيّمَ الحُزنُ والفزعُ على كُلِّ زقاقٍ ودار، فإمامُهم العسكري (عليه السلام) يقبعُ لمراتٍ في السجونِ المُظلمة، والطواغيتُ يتربعون على العروشِ وتبرقُ عيونُهم دناءةً وغدرًا؛ لتُترجمَ ما حوتْه نفوسُهم الخبيثةُ وأرواحُهم الآثمة.
يُطلقونَ سراحَه بعدَ أنْ يدسّوا له السُمَّ، فيفتك به الألمُ، وتفرّ من وجهِه الدماءُ ليبدوَ كلوحةٍ صفراء.
آلامٌ لا يتحمّلُها كائنٌ بشري، ولكن الإنسان الذي سطعتْ في أعماقهِ الحقيقةُ وأضاءَ طيّاتِها الوعدُ الإلهي، يتحمّلُ بعزمٍ كُلَّ أنواعِ العذابِ الوحشي..
ويرحلُ العسكريُ (عليه السلام) شهيدًا، وتضجُّ سامراءُ لهولِ المصيبة، ويرتفعُ النعش فوقَ الأنامل، بعدَ أنْ يُصدِّعَ الحُزنُ القلوب، وتهزُّ الفاجعةُ الأرواح، وفي بيته الشريف كان المثوى الأخير، إذ شُقَّ اللِحدُ للمسموم وَوُرِيَ الثرى وتفرّقَ الجماهير، وأقفرَ المكانُ خلا طفلٍ صغير، يذرفُ الدموعَ بصمتٍ ويستعدُّ لإتمامِ الرسالةِ ومواصلة المسير، إنّه ولدُه المُنتظر الذي غابَ عن أعينِ الظالمين حتى حين...
فسُرعانَ ما سينفلقُ الصُبحُ البهيّ، وتتألقُ أنوارُ الحُجةِ المهدي، إذا اقتضتِ الحكمةُ الإلهيةُ أنْ تشهدَ البشريةُ ختامَ الأحزانِ والآلام، وبزوغَ فجرِ السعادة والسلام، وفي بيتِ الإمامِ كانَ انبثاقُ هذه الأنوار، وقد قامَ الوالدُ بإخفائه عن الأنظار، وكتمَ الأخبار، إلا عنِ المُقربين والأخيار، إذ أفصحَ عن ولادتِه، وأشهدهم على مجيئه وأراهم الحُجّةَ من بعده، وأعدَّه للآتي من أيامه التي ستأتي عن قريب، بعدَ أنْ يُلبّيَ الأبُ نداءَ الربِّ الحبيب، ويرحلَ مسمومًا كجدِّه السبطِ الغريب.
سجنٌ ومِحَنٌ، طواغيتُ وفتنٌ، أيامٌ ثِقالٌ أدّى فيها الإمامُ العسكري (عليه السلام) رسالته، ومهّدَ السُبُلَ أمامَ الناسِ لاستقبالِ ولده وفهمِ فلسفةِ غيبته؛ لتكتملَ اللوحة التي رسمتْها يدُ الغيب، ويتنفّسُ الصُبحُ عن قريب..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat