ان المتتبع لكتب التاريخ التي تنقل لنا احوال نصارى وكنائس العراق ماقبل الاسلام ، ولبداية الفتح الاسلامي للعراق يجد ان نصارى العراق في تلك الحقبة كانوا يطلق عليهم بالاراميين ( 1)، وكانت لغتهم العربية ( 2) , وفي تلك الفترة الزمنية مابين ( 268 - 288 م ) انتشرت الديانة المسيحية اكثر بين سكان مابين النهرين ، وقد تحولت معظم القبائل العراقية الى نصارى ، ولاقت المضايقات والاضطهاد والتصفية ، والقتل ، والتنكيل ويمكن ان نحدد ان اول عملية اضطهاد على عهد الملك البارثي ( 3).
وهو احد ملوك كسرى ، وتوالت اكثر على يد الساسانيين وكان هذا السبب الرئيسي في تحالف الوثنيين والنصارى جميعا مع العرب ماقبل الفتح الاسلامي. ( 4), وفي تلك الفترة كان سكان مابين النهرين يحترمون الديانة المسيحية ، وكذلك الرهبان ، وكانوا يحسنون الى الكنائس والأديرة ، وهذه هي ثقافة اهل السواد قبل الفتح ، وهي احترام العيش المشترك والاستفادة من آثاره ، علما ان المناطق المحصورة بين الكوفة والنجف والحيرة وكربلاء وعين التمر كانت في تلك العصور تضم الكثير من الكنائس والأديرة التي كانت تدين بالديانة النصرانية النسطورية نسبة الى الراهب ( نسطوريوس nestorius) المتوفى 450 ميلادية , وان الشاعر والراهب الاديب العربي الكبير المشهور بعبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة , الذي ولد وترعرع في الحيرة الى توفي في مدينة الكوفة , وكان عمره 350 عاما , وقد التقى به خالد ابن الوليد اثناء دخوله في الحيرة من اجل فتحها عام 12 للهجرة وعندما فتح خالد بن الوليد العراق وزحف الى الحيرة ، وفتحها بالتصالح معهم وأخذ الجزية ، فما كان من أهلها النصارى إلا انزلوه منزلا كريما ، وقاموا بضيافته في تلك الكنائس والأديرة ( 5), ولهذا القران الكريم يرشد المسلم في منهج التعامل مع النصارى ومراعاتهم كما في قوله تعالى : ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ) .(6 ).
. الدين الإسلامي هو كسائر الأديان السماوية شعاره التسامح ، والرحمة والعطف على الآخرين ، بل أكثر من غيره من الأديان الأخرى ، فنجد حماية الإسلام للدور والكنائس والمدارس وجعلها مفتوحة ، شرط ان يدفعوا الجزية ليعيشوا تحت حمايتهم ورعايتهم.
ويحكى ان خالد بن الوليد لما نزل بظهر الحيرة , وتحصن منه أهلها أرسل اليهم : أبعثوا الي رجلا من عقلائكم , فيعثوا اليه بعبد المسيح , فأقبل يمشي حتى دنا من خالد , فقال عبد المسيح : أنعم صباحا أيها الملك ,فقال خالد بن الوليد : قد اغنانا الله عن تحيتك فمن أين أقصى اثرك أيها الشيخ ؟ قال عبد المسيح من ظهر أبي , قال خالد فمن أين خرجت؟ عبد المسيح : من بطن أمي , خالد : فعلام أنت ؟ عبد المسيح : على الأرض , خالد : ففيم أنت ؟ عبد المسيح : في ثيابي , خالد : أتعقل أنت ؟ عبد المسيح : أي والله وأقيد , خالد : ابن كم أنت ؟ , عبد المسيح : ابن رجل واحد , خالد : مارأيت كاليوم قط !! أسألك في شيء وتنحو في غيره ؟ عبد المسيح : ما أجبتك الاّ عمّا سألت , فاسأل عمّا بدا لك , خالد : أعرب انتم ام نبط ؟ عبد المسيح : عرب استنبطنا , , خالد : فحرب أنتم أم سلم ؟, عبد المسيح : بل سلم , خالد : فما هذي الحصون ؟ , عبد المسيح : بنيناها للسفيه ! نحذر منه حتى يجيء الحليم فينهاه , خالد كم أتى لك ؟ عبد المسيح : خمس وثلاثمائة سنة , خالد : فما أدركت ؟ عبد المسيح : أدركت سفن الهند والصين تمخر في هذا البحر ( وأشار بيده الى بحر النجف ) , ورأيت المرأة تخرج من الحيرة , وتضع مكتلها على رأسها لا تزود الا رغيفا حتى تأتي الشام , ثم قد اصبحت خرابا يبابا , وذلك دأب الله في العباد والبلاد )( 7 ) .
المصادر والهوامش :
1- الآراميين : هم من المسيحيين حيث ميزوا انفسهم عن الآراميين الوثنيين ، وبعد الفتح الإسلامي استخدم المسلمون لفظ النبط على أنهم من ولد نبيط بن باسور بن سام بن نوح ، وقيل أنهم سموا بهذه التسمية لأنهم قاموا باستنباط الأرض وإخراج المياه . انظر المسعودي ، التنبيه والإشراف ص 36 ابن الفقيه ، مختصر البلدان ، ص 8، وكذلك نصارى العراق والفتح الإسلامي ص 389 د. سهيل قاشا دار الرافدين للطباعة والتوزيع بيروت ط 1 عام 1431ه - 2010م 4.
2 - شعراء النصارى الذين عرفوا في العراق , في تلك الاونة عدي بن زيد وولداه زيد وعمرو وعبد المسيح بن بقيلة أحد أعيان الحيرة , الذي اشتهر في الجاهلية وصدر الاسلام , وقد انشدوا الشعر , ورفعوا قبابه , واصفين مادحين هاجين مفاخرين وغير ذلك . انظر النصرانية وأدابها ص2 , 326, 332, والاغاني ص2, 17 , 40 , شعراء النصرانية بعد الاسلام , الحيرة ص 19 , 25 , 58 , حضارة الاسلام ص 35 .
3 - ذخيرة الأذهان ج1 ، ص 49- 50 ، أحوال نصارى العراق ، ص 4 5
4 - تاريخ نصارى العراق ص 394 نقلا عن المستشرق بارتولد المستشرق الروسي ( 1860- 1930) ، له مقالات في دائرة المعارف الإسلامية ، ودراسات عن اسيا الوسطى
5 - انظر الطبري تاريخ ج4 ، ص 12 ، المتوفى 310 , ط 4 , سنه النشر 1403 وكذلك الكامل لابن الاثير ج2 ، ص 174، والى ، ص 150 , المتوفى 630 , تاريخ النشر 1966 م
6- سورة المائدة أية 82
7- أمالي السيد المرتضى ج 1 , ص 188, السيد المرتضى المتوفى 436 هجرية , الطبعة الاولى تحقيق : السيد محمد بدر الدين النعساني الحلبي تاريخ النشر 1907 م 1325 ه . وكذلك مختصر تأريخ دمشق ج5 , 107 , وبغية الطلب في تأريخ حلب ج3 , ص 273 , التذكرة الحمدونية اخبار المعمرين ج2 , 161 . وكذلك المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام ج5 , ص172 .