ونواصل مسيرتنا مع السيد جعفر الحلي, اذ يذكر الشيخ محمد السماوي, اخذت مسبحة (يسر) من السيد جعفر, أعطاه اياها بعض الحجاج, فكتب السيد الي مطالبا بها, وشاعرنا التزم في جميع ابياتها بالجناس قائلا:
محمد يا أخا ودي وأنسي ويا من فيه هم القلب يسرى
تسيّر نحوكم غرر القوافي فيدلج بالثناء لكم ويسرى
اذا ما الممحل استجدى نداكم تيقن ان بعد العسر يسرى
اعد لي يا فداك ابي وكفر يمينك سبحة سوداء يسرا
وما تبغي بسودا همت فيها وكم قلبتها يمنى ويسرى!
انها سوداء زنجية, ولعبت بها يميني ويساري, فماذا تبتغي منها ايها الشيخ! وارسل شاعرنا الى السيد محمد القزويني مضمنا بعض شطور من قصيدة السيد حيدر الحلي, على سبيل الهزل, وهي في ديوانه المطبوع سوى البيتين الرابع الخامس في أعيان الشيعة (24)
لي زوجة كان اخو امها يحسن في حالي وفي حالها
يهدي لنا العنبر من رزه والجوع لا يخطر في بالها
والعام نالت زرعة جمرة فاحترق العنبر من خالها!
لما رأت قوتي لما يكفها فرّت لاهليها بأطفالها
كتبتُ ان زوري عليا فما ردت جوابي وهي في آلها
اذا درت انك واصلتني زارت على رقبة عذالها
فأجابه السيد القزويني بقوله:
اكتب لها تقبل على سرعة واقتبل العمر باقبالها
ما شية تطرب من مشيها لكن على رنة خلخالها
والكل منا لك يحبو غنى فاستغن من مالي ومن مالها
والسيد مع كبر حجمه, وسعة حريته, كان في ضيق مادي, فكتب هذه الابيات:
لي قلم اخرس لكنه ينطق عن معجم افكاري
بريته حبا ولكنه ما احسن الشكر الى الباري
حتى غدا رزقي به ضيقا كأنه من شقه جاري!
والحقيقة ان الشاعر قد عبّر عن واقعه الاليم منذ نعومة اظفاره قبل اتصاله بأمراء الحجاز وما درّت عليه مسابل العراق بقوله :
مَلكتْ فكرتي بكار المعاني والى الأن ما ملكتُ كتابا
و المهم قد سبقه (السري الرفاء) الى هذا المعنى عندما سأله صديق عن خبره وحاله في حرفته فأجابه
يكفيك من جملة اخباري يسري من الحب واعساري
في سوقة افضلهم مرتد نقصا ففضلي بينهم عاري
وكانت الابرة فيما مضى صائنة وجهي واشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا كأنه من ثقبها جاري! (25)
القلم والابره كلاهما سواء بسواء, وربما الابرة ارحم من القلم, فللابرة حرفة, والقلم حرفة من لا حرفة له!!
يذكر صاحب (البابليات) الشيخ علي الخانقاني من مداعبات السيد الشاعر مع شخص يبدو ان اسمه محسن. قد حل السيد جعفر ضيفا عليه :
انت يا محسن عندي احسن الناس جميعا
فاذا جاءك ضيف مات في دارك جوعا
كن مطيعا فاذا ما شئت رخمنا مطيعا ! (26)
وترخيم (مطيعا) لمن لا يعرف هذا الترخيم العجيب: (مطيا), و(المطي), لمن لا يعرف لهجة اهل العراق هو (الحمار), وبلغة العرب كل ما يمتطى من الدواب. على ذكر الحيوانات رأى السيد جعفر ان ديوكا اهديت لجار له من العلماء الاعلام, وكان العالم ذا مسجد وجماعة, فكتب اليه على سبيل الهزل:
أحب بأن اصلي كل يوم وراءك في العشي وفي الغداة!
ولكن ليس لي في البيت ديك ينبهني لاوقات الصلاة !!
ولابد ان السيد قد حصل على المقسوم من الديوك بلا اخذ ورد.
ويسرد (هكذا عرفتهم) عدة طرائف للسيد جعفر, منها: كان بعض اصدقاء السيد جعفر الحلي ينسبونه (للكشفية), وكان الحلي يهيج ويشتم ويتنصل من الكشفية (كل عادة جديدة دخيلة على المجتمع ينبذها بداية) ويرميهم مقابل ذلك بما يجري على لسانه فيضحكون وقرأ مرة الشيخ جواد الشبيبي ابياتا كان يزمع ارسالها الى السيد جعفر, فدس فيها الشيخ عبد الكريم الجزائري هذا البيت:
لئن اكشف غطاء الهجو يوما لساءك جعفر الحلي (كشفي)
وهي تورية مقصودة, ولابد ان الشبيبي اشار للسيد جعفر ان البيت مدسوس من الشيخ الجزائري, وهو لا يتحمل تبعته, ولكن بعد ايام تلقى الشبيبي من السيد جعفر البيتين التاليين:
نح عبد الكريم عن حلبة الشعر فعار على ذوي الالباب
اعليك الخيول ويحك قلت فشددت السروج فوق الكلاب
ولم ينتشر هذا البيتان الا عن لسان الشيخ عبد الكريم الجزائري نفسه (27) والشيخ الجزائري, كما هو معلوم. من رجالات ثورة العشرين الكبار سياسي ماهر وعلامة مقتدر, وشخصية رفيعة, قد عين وزيرا للمعارف, ورفض المباشرة واستلام المنصب لمدة ثلاثة اشهر, ولكن الشعر النجفي الخاص, قد يسلك اقسى انواع الهجاء المقذع دعابة, ويتقبله المهجو برحابة صدر, ويصفق له, كأن لم يكن شيئا مذكورا, وربما يردده المهجو في مجالسه الخاصة, فالعقول كبيرة والحياة حلوة والدنيا بخير! والحقيقة قد عكفت عن ذكر الطرائف الاقسى ورميت ذمتها للكاتب.
وهناك قصة اخرى للسيد جعفر مع السيد ابراهيم بحر العلوم الشاعر النجفي المشهور ايضا يرويها لنا هذه المرة صاحب الاعيان (28), اذ كان السيد ابراهيم في محفل من الادباء يلقي شعرا, والسيد جعفر الحلي من ضمنهم, فطلب (سيكارة) من بعض الجالسين, وقال معرضا بالسيد ابراهيم:
ألا من يقتل البق فان البق اذاني
اذا طنطن في الجو يصم الصوت آذاني
ففطن لذلك السيد ابراهيم وقطع الانشاد وقال:
فقل زمجرة الليث بها وقز اذاني
ودع طنطة البق لكابي الشعر خزيان
وقبض على يد السيد جعفر واراد صفعه, فارتجل السيد جعفر:
رأيت ابراهيم رؤيا بها اضحى كاسماعيل يا جعفر
ها انذا جئتك مستسلما يا ابت افعل بي ما تؤمر!
فضحك لحسن اعتذاره وسري عنه:
وللحب في مذهب السيد جعفر منزلة كبيرة, لذا نرى سيدنا بكثر من التهنئة القلبية للمتزوجين حتى ولو بأرملة لو مطلقة قد جاوزت الاربعين, ثم ماذا؟!
واليك هذه الابيات من قصديته التي وصف فيها عروسا لصديق له تزوج بامرأة ثيب (29):
بشراك في لؤلؤة قد ثقبت انفع من لؤلؤة لم تثقب!
ومهرة وطأ شخص ظهرها أحسن من جامحة لم تركب
وقد وجدنا في الكتاب آية قدم فيها الله ذكر الثيب
اسم العجوز في المقال طيب لانه وصف لبنت العنب
مرت عليها اربعون حجة فهي اذا كالصارم المجرب
عرفها الدهر تقلباته فاستصفها عارفة التقلب!
بك الاثافي كملت ثلاثة ففز بها كالرجل المنصب.
وختاما انقل هذه الامسة النجفية قبل قرن ونيف من الزمان, فالاثافي الثلاثة قد نصبت فعلا هذه المرة في حوش الدخلاني, والعبد الحبشي منهمك في تنظيف السمك, وغسل الرز والكشمش وتنظيفهما, والعطور الطيبة والروائح الشهية تعج بأجواء (الحوش), والنار تشعل لاعداد هذه الوليمة (العزيمة) في بيت الشيخ مرتضى كاشف الغطاء على أغلب الظن حيث لم يشر المؤرخون لذلك, المهم قد اجتمع بضعة من الشيوخ والشعراء في (البراني), والفوانيس والشموع تنير الاجواء, والفرش مبسوطة, والوسائد متوضعة للاتكاء, والشعراء في سجال يتسابقون ويتسامرون فاذا بالخبر الصاعقة قد نزل عليهم, الهر قد سطا على غنيمته, والعبد المنكود في صراع مع هذا اللعين, والسيد جعفر الحلي قد وجد فرصته لوصف وقائع هذه الليلة الليلاء, فنظم هذه القصيدة الهزلية, ارتجالا يرثي بها العشاء وارسلها الى الشيخ علي كاشف الغطاء المرجع الديني الكبير في عصره وهي من مجزوء الرجز(مستفعلن مستفعلن.. مستفعلن مستفعلن) (30):
وأسفا على العشا مطبقا مكشمشا
قد ظفر الهر به ونال منه ما يشا
ولم يدع الا طبيـ خاً ماشه ما جرشا
فكيف يرجى أمنه وهو سروقٌ يختشى
يختلُ ان امكنه الـ ختلُ والا نتشا
ما حاجةٌ ينظرها الا لها قد خمشا
لمّا اتى العبد رأى طبيخه مخربشا
من بعد ماكملهُ نضجاً لهُ ونشنشا
وأتعب النفس به من الصباح للعشا
بكى عليه وغدا يمسح طرفا اعمشا
وقال ويلُ الهر لا يعلمُ فيمن بلشا
وجسمه من عزمه جميعه قد رعشا
جر العصا واستفزع الـ نوب له والحبشا
وصاح فيهم صيحة منها الورى قد دهشا
فزمجر العبدُ وجيـ ـش الهر فيه احتوشا
وانتفخ الهر ومد ذيله وانتفشا
والعبد من سورته لمنخريه فرشا
فالتقيا واعتركا واصطدما واهتوشا
هذا بذا قد بطشا وذا لذا قد خرمشا
فافترقا والقتل ما بين الفريقين فشا
وجعفر الحلي عن قريضه قد دهشا
ومذ رأوا عبدهم بوجهه محنفشا
لاشمعةٌ اوقدها ولا فراشاً فرشا
فقال مولاه الرضا ياعبد جئنا بالعشا
متنا من الجوع فقم وأت به لننعشا
وقلبه من وجل فر كموسى ومشى
والجاهل المغرور من بالعبد قد تحرشا
كم اسود بسيد من قبله قد بطشا
خلاصة الامر بان العبد ولى ومشى
ابا حسين طالما الـ الحافي لديك انتعشى
ياابن الذين فضلهم في كل مصر قد فشا
والكاشفين كرماً عن الورى ماغطشا (31)
هم معشر في بيتهم طير الهدى قد عششا
ونورهم يحلو لنا ليل الخطوب اذ غشا
كم بائس في ردفهم من بؤسه قد نعشا
ياذا الذي من بأسه ليث الثرى قد دهشا
سحاب كفيك بعا ـم المحل يروي العطشا
نموت جوعا كلنا ان لم تغثنا بالعشا
صورة رائعة للندوات الادبية والمجالس الاجتماعية التي كانت تسود اجواء النجف في أواخر القرن التاسع عشر, اما الصور الكاركتيرية المتتالية لاحداث المعركة بشخوصها وأدواتها نتركها لذهن القارئ الكريم واتساع خياله ولله في خلقه شؤون.
الهوامش:
24- الاعيان م4 ص97.98
25- معجم الادباء/ياقوت الحموي ج11 ص 182-189/دار الكتب العلمية بيروت 1991
26- البابليات/الشيخ علي الخاقاني ج1 ص191
27- هكذا عرفتهم/ جعفر الخليلي ج1 ص383
28- الاعيان م2 ص129-131
29- الديوان ص71-72, نهضة العراق الادبية../د.مهدي البصير ص125
30- الديوان ص301-303
31- والكاشفين كرماً..فيه زحاف (الخبل) وهو مركب من الخبن والطي في تفعيلة واحدة تحذف سين وفاء مستفعلن فتصبح (متعلن) وينقل الى (فعلتن) وهو جائز ولكنه غير مستحسن وفي رأيي لو قال والكاشفين جودهم ربما لكان افضل
ملاحظة:
ترقبوا الحلقة الثالثة والاخيرة عن السيد جعفر الحلي وسنواصل الكتابه عن أعلام عراقية اخرى بأذن الله.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat