تذكرتُ ما قرأتُ في دراستي الابتدائية قصة (الحلاق الثرثار) , والزبون المحتار , إذ رسم الأول الخرائط على رأس الثاني المسكين , لتعيين مواقع المتحاربين , وتوضيح خطط السياسيين , وكشف تلاعب المتلاعبين , أبان الحرب العالمية الثانية , وفجأةً وبلا تردّد ضرب الحلاق بقبضة يده على يافوخ الرجل المستكين , وقال : هنا حدثت معركة برلين !! فهرع الزبون مخلوعاً , خائفاً مفزوعا , لاعناً الروس واليابانيين , والسياسة والسياسيين , والناس آجمعين !! والمغزى - على ما يبدو لي الآن - يا شباب الغد وشيوخه لا تتدخلوا في الشؤون السياسية , واتركوا الأمر لأولي الأمر! , والاّ تتكسر رؤوسكم , وتتحطم نفوسكم , فلا ينشغلُ بالكم بما قال الشيخ الشبيبي - رحمه الله - في الصفحات الآتية من القراءة اللاهية :
أنتـــمُ متعتــــــمُ بالســـؤددِ يا شبابَ اليوم ِأشياخَ الغدِ !
يا شباباً درســـوا فاجتهدوا لينالوا غـــــــاية َ المجتهدِ !
وعدَ اللهُ بكـــمْ أوطــــانكمْ ولقدْ آنَ نجـــــــازُ الموعدِ
أنتمُ جيلٌ جديـــدٌ خُـــــلقوا لعصـــور ٍمقبلاتٍ جُــــددِ !
كوّنوا الوحدة ََلا تنســـخها نزعــاتُ الــرأي والمعتقدِ !
أنا بايعتُ على أنْ لا أرى فرقة ً هاكمْ علـــى هذا يدي
علامات التعجب , وضعها كاتب هذه السطور , فالشاعر الشيخ محمد رضا الشبيبي عاش بين ( 1889 - 1965م ) , رأى ما رأى , ورأَيْنا ما رأَيْنا , ونواصل ... مرَّ الزمان , نشأتُُ وترعرتُ - كما يقال - ووقعتْ بين يدي ( لزوميات أبي العلاء ) من بعدُ ,وعند تصفحي الكتاب حينئذٍ ,وجدت أنّ السياسة لديه ليس كما نتخيلها نحن في رومانسياتنا الخائبة , بأنـّها فن الممكن في أطار الإمكانات المتاحة ,أو هي علم الدولة أوالسلطة وفق مفاهيم وأسس وقواعد , تبنى على القيم الدينية والأعراف الاجتماعية والعلاقات الدولية , لها خططها التكتيكية وأهدافها الاستراتيجية , وضوابطها الديمقراطية , وطرقها المتعقلة الواعية للوصول الى المصلحة الوطنية الراشدة , المهم السياسة الحقة علم وفن ومقدرة , تصل الى درجة الموهبة , لها رجالها المتخصصون القادرون , وأنا لست منهم بالتأكيد , أما ابو العلاء وأعني المعري ( توفي 449 هـ) ليس هكذا , وإنْ كان يميّز بين السياسة العلمية التي تبنى على العقول النيرة المتعلمة والسياسة العملية كتصرف وممارسة سلطوية , فهو لم يرّ الا وجهها الأخير في المجتمعات العربية السائدة في حينها , حيث الحاكم المترف الظالم الباطل العاطل الغانم غير الغارم , والمحكوم المظلوم البائس المصفـّّق المتحمس الجوعان التعبان , ونزيد الآن ... المجتمعات سيان في حاضرها وبائدها , وإن اختلفت نسبيا حسب الزمان والمكان ! :
يسوسون الأمور بغير عقلٍ فينفذ ُأمرهمْ ويُقال ساسـة
فأفُ من الحــياة وأفُ منّي ومنْ زمن ٍرياسته خساسة
لابد أنـّك ركزت على ( بغير عقل) , للتمييز بين السياسة المعقولة واللامعقولة التي تصل الى حدّ الخساسة , وأريد منك في البيتين التاليين أن تتأمل في التسلط , والتعميم ( في كل مصر) , والطباق المعنوي بين لفظتي (خمص) و ( مبطان) , وتعنيان الجوع والشبع :
ساس الأنامَ شيـــــــــاطينٌ مسلطة ٌ في كلّ مصر ٍمن الوالين شيطانُ
منْ ليس يحفلُ خمص الناس كلهمُ إنْ باتَ يشربُ خمراً وهو مبطانُ
وهل تطلب المزيد ؟ , إليك هذين البيتين , بجناسيهما الناقصين ,وصقرهما الـ ( أجدل) , ومكلومهما المجروح الجارح , ومظلومهما الظالم , والدنيا دول , والحياة تأثر لنفسها , ولو بعد حين ! إقرأ :
إنْ جارتْ الأمراءُ جاء مؤمرٌ أعتى وأجور يستضيمُ ويكلمُ
كحمائم ٍظلمتْ فنـــادى أجدلٌ إنْ كنت ظالمــة ً فأنـّي أظلمُ
ونقلب مارين على ابن الرومي ( توفي 283 هـ) , فهذا الرجل البائس المسكين الموسوس , يتحاشى قذع السلطان في أيامه خشية عقابه , ولا بعد ذهابه , لأنـّه يتأمل عودته فمثابه ! ثمّ يتعلل من اللؤم أنْ يعضّه , وقد فلتتْ الأيام من أنيابه , واخيرا يشهر خوفه من الشرِّ والمرهوب من أسبابه :
لا أقذع السلطانَِ في أيّامــــهِ خوفاً لسطوتهِ ومُرِّ عقـــابهِ
وإذا الزمانُ أصابهُ بصروفهِ حاذرتُ عودته ووشكَ مثابهِ
وأعدُّ لؤماً أنْ أهُمَّ بعضّـــــهِ إذْ فلـّتِ الأيّامَ منْ أنيابــــــهِ
فليعلم ِالرؤساءَأنـَي راهـــبٌ للشرِّ والمرهوب من أسبابهِ
هذا حال الناس المغلوبة على أمرها , لا تتعجب , ولا تتصنع العجب ! دعنا نرجع الى قراءتنا الابتدائية الرائعة قبل خمسة وخمسين عاماً , مادام شيخنا الشاعر الرومي البغدادي يتهيّب من تناول الزعماء والرؤساء , بل يَرهبهم و يُرهبنا منهم , ونتصرف كثيراَ بقصة قصيرة لها حكمتها الماضية الباقية , وضرورة أحكامنا المتجددة القاسية , يقال - والعهدة على الراوي !- كان هنالك تلٌّ من القمح اللذيذ , تقطنه مملكة من النمل اللطيف , فتأتي النملة الأولى , بخطوات واثقة , تأخذ قمحة , وترجع إليه كما تروم و تشتهي , وتتقدم الثانية تسحب قمحة , وتعود مراراًَ وتكراراً ولا تختشي , والثالثة أخذت حصتها مراراً , وتترقب وقتها الوفي الخفي , والرابعة المسكينة بالكاد تسل ُّ حبّتها تبكي وترتجي , والخامسة العرجاء العمياء , لا ماء ولا كهرباء , تنتحب وتبكي , صفر اليدين ولا ترتجي سوى الله داعية ً ...اللهم رحماك يا رب , أنّـّك تعلم السرَّ وأخفى , فإليك المشتكى , قصة الصراع لا تنتهي في أزمنة لا تستحي !!
.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat