وجهه يتسم بالبشر والسرور، أكثر من كل يوم...كان على موعد مع حبيبته التي انتظرها وانتظرته على شوق...لم ينم ليلته لسروره بها ... سامر نجوم الليل.. أحصاها.. ترجى منها الأفول فموعد الصبح بعيدا عن مناه..الانتظار طويل وان كان لساعات...تسارعت دقات قلبه وهو ينتظر انبلاج الصباح...تراتيل صلاة الليل لم تهدأ لوعة انتظاره.. رسم قرآن الفجر الذي كان حليفه، صورة ذلك اللقاء المرتقب فكانت آية (((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))الأحزاب: 23.
تنفس الصعداء حينها واطمأن لهذا المصير....ودع والده الذي أنهكه المرض وفراق ولده الحبيب الدائم..طبع قبلة على يده المتعبة من عذابات السنين...كانت قبلة غريبة من نوع خاص تمازجت فيها نكهة الوداع الأخير مع شذا حنو الأب العطوف شم فيها مازن عطر سنوات عمره كلها، تراءت له صور اليوم الأول له في المدرسة التي رافقه فيها والده كانت يده قوية وغضة..وتذكر كيف كان يحمله ويلعب معه ويصطحبه إلى الأماكن التي يرتادها.. كيف كانت هذه اليد تلطم على الإمام الحسين عليه السلام.. وكيف كانت تطبخ طعام العزاء لمصابه...وكيف كانت تمسح عن عيونه دمعات الأحزان وتبدلها بابتسامات الفرح والسرور...أنها يد أبي (تمتم مازن) تلك اليد الحانية التي لم تمتد إلى الخيانة وتصافح يد الجبناء..يد لم تعرف إلا أن تصافح الأيادي الكريمة التي طهرها طيب المولد...يد والدي أنها نعمة السماء....
انتهت إجازته وها هو يعود إلى سواتر الطف ليخط عليها بعض من دروس عابس وزهير...كان قلبه يسابق السيارة فهو يجلس على جمر الشوق مع موعده..
وصل إلى هناك وكانت معارك التحرير قائمة والانتصارات تتوالى وهي تبشر بالخير والأمل لهذا البلد المنهك من جراحاته..
سكون رهيب يخيّم على المدينة المهجورة.. كل شيء فيها موحش من الأرض إلى الجدران التي تحكي قصة العدوان الأليمة، حتى الفضاء يعبق برائحة الخراب والدمار.. وككل المدن التي يستعدون لتحريرها، بدأ أبطال الجهد الهندسي بالمسح الميداني لهذه المدينة التي جعلها الدواعش الأنجاس مزرعة للعبوات والألغام...تقدم السيد مازن شبّر ليفكك ويبطل مفعول معظم العبوات فهو بارع في ذلك فقد فكك آلاف العبوات منذ بدأ العمليات..
نظر السيد مازن إلى الأرض التي خلت إلا من الجدب، خيّل إليه إن كل ذرة من ترابها تحكي له قصتها وتشتكي إليه ما شهدته من أفعال الأنجاس...كان يرفق بها وهو يدوس بأقدامه عليها ليطهرها..وجع عشق الأرض أكثر ألما، وأقسى من الوأد.. يده الكريمة تحنو عليها وهي تقلب ترابها لتزيل عنها مِغرز الغدر الذي أوجع العراق أيما وجع..
قارب الأبطال على الانتهاء من عملهم المقدس ولم يتبق إلا مبنى تابع لوزارة الإسكان والأعمار، مكون من 3 طوابق تم تلغيمها...عليهم معالجته..تقدم الأبطال لتطهير المبنى، وأتموا تفكيك عبوات الطابق الأول والطابق الثاني، وبقي الطابق الثالث الذي تقدم إليه بطلنا الذي قادته أقدامه إليه بحذر، فبحكم خبرته عليه أن يحسب لكل شيء غير متوقع حساب.. أحس بأنفاس غريبة تعبق بالمكان..أنفاس ليست مألوفة تزفر بشدة وبغيض تنفث معها سموم الحقد والظلام..هاهو يشعر بقربها..تسلل إلى صدره شعور غريب لم يعهده من قبل..فجأة ظهر أمامه وحش ادمي يرتدي حزاما ناسفا مغبر الشعر اشعثه..وجهه يحمل قبح الشياطين، نعم هذه صفاتهم..وهذا احدهم يقف أمامه بكل ما تحمله كلمة القبح من معنى، ملأ المكان بسواد وجوده..امسك بزر التفجير ليضغط عليه، لم يمهله بطلنا الفرصة لإلحاق الأذى بمجموعته، ألقى نفسه على هذا المسخ ليعلن إنها آخر عبوة سيعالجها في حياته، وان روحه أخر ما تبقى لديه ليفتدى بها إخوته والوطن....دوى انفجار رهيب تناثرت أشلائهما سوية لكن كانت أنوار القداسة تلملم ما تناثر من جسد سيد من ذرية الرسول (صلى الله عليه واله) وتزفها إلى الجنان بكل إجلال لتستقبلها أمه الزهراء ( عليها السلام).. كانت هي الحبيبة التي تنتظره على أبواب الجنان، فما أروعه من موعد وما أجملها من حبيبة.
تم تطهير المدينة ولملم الأبطال جراحاتهم وعزفوا من حزنهم على مازن ترنيمة حرصوا على تحفيظها لأولادهم.. وأمام والده المفجوع الذي عجزت أقدامه عن حمله عند سماع الخبر، فأقعدته مشلولا ينتظر اللحاق بابنه على أحر من الجمر.