صفحة الكاتب : سعيد العذاري

دور الأمة في قرار القيادة عند الشهيد محمّد الصدر(قدّس سرّه)
سعيد العذاري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 المقدّمة
 من يتابع موسوعة الإمام المهدي عليه السلام التي ألفها الشهيد محمّد الصدر (قدّس سرّه) يرى منهجاً متكاملاً في جميع المجالات: السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصاديه، ويرى منهجاً متكاملاً في أساليب الدعوة والعمل الحركي يصلح أن يكون برنامج عمل في جميع مراحل الحياة الإنسانية.

ولعل الشهيد الصدر قد كتبه تحت عنوان مهدوي لابعاد السلطات عن مراقبة ومتابعة مخططاته أو منع كتبه كما منعت مئات الكتب الواعية والاصلاحية في السبعينات، ولذا نجد أنّ ما تطرّق اليه من أفكار وآراء يمكن العمل بها والأخذ بها، ولم تكن مقتصرة على عصر الإمام المهدي.

فعنوان شرائط الظهور التي ذكرها عبّر عنها بالقول: «الدعوة الإلهية على طول الخط كانت تدور مدار وجود هذه الشرائط وعدمها».

وقد حدّد هذه الشروط بما يلي:

1 ـ وجود الأطروحة العادلة الكاملة.

2 ـ وجود القائد المحنّك.

3 ـ وجود الناصرين المؤازرين المنفذين.

4 ـ وجود قواعد شعبية كافية(1) .

وعلى ذلك فانّ نجاح الدعوة بكل مجالاتها يتوقف على هذه الشرائط، فلا ينجح أيّ قرار أو أي برنامج أو أيّ نشاط إلا باعتماد القائد على الناصرين وعلى القواعد الشعبية، أيّ الاعتماد على النخبة والطليعة والاعتماد على القاعدة الشعبية، والتي تندرج تحت عنوان الأمة، ولولا الأمة لا ينجح القائد بمفرده في حركته.

 

شروط النخبة والقاعدة الشعبية

شروط النخبة والقاعدة الشعبية تعبير آخر عن الشروط التي ينبغي توفّرها في الأمة لنجاح الأعمال والنشاطات والممارسات العملية المتوجهة نحو تطبيق وتجسيد الأطروحة في واقع الحياة، ومن أهم الشروط:

«الأوّل:  الوعي والشعور الحقيقي بأهمية وعدالة الهدف الذي يُسعى اليه والأطروحة التي يُسعى الى تطبيقها.

الثاني: الاستعداد للتضحية في سيبل هدفه على أي مستوى إقتضته مصلحة ذلك الهدف»(2) .

وهذه الشروط مطردة في جميع مراحل حياة المسلمين أو حياة الإنسانية.

فبالوعي تحدد الأمة الأولويات، وتميز بين المصالح والمفاسد، فتختار الأصلح لها، وبالتضحية بستطيع القائد النهوض بالأمّة لتحقيق أهدافها.

 

 

دور الأمة في تحقيق أهداف القيادة

تتمثل القيادة الإسلامية بالنبي(ص) والأئمة والفقيه الجامع للشرائط، والتي تسعى لتحقيق هدف واحد لا يختلف من عصر الى عصر.

والأئمة باعتبارهم إمتداداً لرسول الله(ص) يهدفون الى ما هدف اليه رسول الله(ص) وهو «تأسيس المجتمع الإسلامي العادل الواعي الذي يطبق تعاليم الإسلام بتفاصيله، ويتعاون أفراده في إنجاح التجربة الإسلامية»(3).

وهذا الهدف إنّما يتحقق بعد وجود عنصرين، وكلاهما يعتمد على دور الأمة:

أوّلهما: «وجود الخلافة الإسلامية بالشكل الذي كان يؤمن به الأئمة عليهم السلام، وهو توليهم بأنفسهم منصب الإمامة ورئاسة الدولة الإسلامية، أو من يعينونه ويختارونه لذلك»(4).

وللخلافة دور ملموس في بناء المجتمع الإسلامي العادل، والمنع من جميع ألوان الانحراف والفساد، هذا ما أشار إليه الإمام علي الرضا(ع): «إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف، ويدعو الى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة»(5).

وفي حديث آخر عنه(ع) أنّه قال: «... يحقن الله عزّ وجلّ به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويلمّ به الشعث، ويشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف، ويرحم به العباد»(6).

ثانيهما: «وجود المجتمع الذي يملك أكثرية كبيرة،... لو تحقق، من الأفراد الواعين المتشبعين بفهم الإسلام نصّاً وروحاً، ومستعدين للتضحية في سبيله، ولقول الحقّ ولو على أنفسهم، ورفض مصالهم الضيقة تجاهه، والذين يبذلون ـ نتيجة لذلك ـ الطاعة المطلقة للحاكم الإسلامي الحقّ»(7).

والمقصود بالمجتمع هو المجتمع الإسلامي الذي يؤدي دوره بقيادة الإمام أو مطلق القائد الإسلامي; لاصلاح وتغيير الجتمع الإنساني، ابتداءً باصطلاح الإنحراف والفساد داخل كيانه، ومن شروط هذا المجتمع هي:

1 ـ الكثرة العددية.

2 ـ الوعي.

3 ـ الإستعداد للتضحية.

4 ـ الإنصاف والإيثار.

5 ـ التعالي على المصالح الضيّقة.

6 ـ الطاعة المطلقة للحاكم والقائد الإسلامي الحقّ.

والكثرة العددية المتصفة بهذه الصفات لها دور أساس في حماية الإمام أو مطلق القائد، كما ورد في قول السيد الشهيد:

«والإمـــام(ع) بشخصــه، بصفته الرئيس الفعلي لقواعد شعبية كبيرة،; يكون
 ـ على كل حال ـ في حصانة جزئية عن التنكيل الفعلي المكشوف من قبل الحاكمين، لئلا يثيروا عليهم الرأي العام والشعب بأكمله آخذين بنظر الاعتبار نظر التقديس والإجلال الذي كان ينظره الناس الى أئمة الهدى»(8).

وهذا المقدار من الحماية الذي وفّر الحصانة للإمام(ع) يكفي في حرية الإمام(ع) ليتحرك تحركاً سلمياً في نشر مفاهيم العقيدة وقيم الشريعة التي تستند الى منهج أهل البيت عليهم السلام، ومواجهة التيارات الفكرية والعقائدية المنحرفة.

ولكن هذا المدار غير كاف للتغيير الشامل ومنه إسترداد الخلافة; لأن الحكومة التي تتمتع بقدرات مالية وسياسية وعسكرية تستطيع التغلب على أنصار الإمام(ع) وتحسم الموقف لصالحها، ولذا جاء في قول السيد الشهيد:

«لم يكن الأئمة عليهم السلام، يرون المصلحة في تولّي رئاسة الدولة الإسلامية في المجتمع المنحرف، الذي أدّى بمن تولّى هذا المنصب منهم الى المتاعب المضاعفة، والى القتل في نهاية المطاف»(9).

فتولي الرئاسة في تلك الظروف لا يحقق مصلحة إسلامية لعدم وجود الأمة المطيعة والقادرة على إسقاط الحكومة; ولذا فان تولي السلطة قد يؤدّي الى فشل التجربة الإسلامية في التطبيق، ولهذا نرى أنّ الإمام الرضا(ع) رفض تولّي الخلافة ورفض تولّي ولاية العهد الى أن قبلها مكرهاً.

وقد يؤدي تولّيها مباشرة الى التآمر على الإمام(ع) من قبل قادة الكثرة المنحرفة وبالتالي الى قتله كما حدث في قتل جمع من الأئمة عليهم السلام، بل أنّ أغلب الأئمة قُتلوا لمجرد التحرك السلمي والثقافي والدعوتي داخل الأمة، أو لمجرد وجودهم كشخصيات لها مكانة واحترام ومودّة لدى المسلمين، فمن الأولى قتلهم أن تحركوا من أجل تسلم زمام الحكم.

ويستعرض (قدّس سرّه) سيرة بعض المعصومين في تطرقه الى دور الأمة في إنجاح أو عدم إنجاح المسيرة الإسلامية بصورتها الكلية والتي تعني إقامة الحكومة الإسلامية أو التصدي لقيادتها.

 

سيرة رسول الله(ص)

بعث رسول الله(ص) الى الإنسانية جمعاء، وكان يهدف الى بناء المجتمع الإسلامي عقائدياً وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، باستخدام جميع الوسائل والأساليب والمقدّمات التي توصله الى هدفه النهائي، وهي تعتمد على الأئمة وجهوده فيها، ولذا قال: «الدعوة الإلهية على طول الخط كانت تدور مدار وجود هذه الشرائط وعدمها.

ويتجلى ذلك بكل وضوح في التاريخ الإسلامي، حيث نرى النبي(ص) كان ملتزماً في أول دعوته بالسرية والتكتّم أو التقية حينما لم يكن الشرطان الأخيران: الأنصار والمؤيدين متوفرين لديه.

ولم يبدأ دعوته إلا بعد أن أحرز من محتوى الشرطين ما يكفي لضمان البقاء»(10).

وهذا ما أشارت اليه كتب المؤرخين، فكان(ص) «يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سراً الى من يطمئن إليه من أهله»(11).

وكان أول من فاتحهم بالإسلام زوجته خديجة وابن عمّه عليّ بن أبي طالب، ففي ذات مرة شاهدهم عفيف بن قيس الكندي يصلون تجاه الكعبة، فقال للعباس بن عبدالمطلب: ياعباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا محمد بن عبدالله يزعم أنّ الله أرسله، وان كنوز كسرى وقيصر ستفتح له، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام إبن عمّه عليّ بن أبي طالب آمن به(12).

وفي السنين الثلاث كان مستتراً بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به، فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى الشعاب فاستخفوا(13).

فالدعوة كانت سريّة بجميع أبعادها ومنها:

1 ـ سرية الدعوة الى الدين الجديد.

2 ـ الاقتصار على عدد قليل من الناس.

3 ـ سرية الأفراد.

4 ـ سرية الأعمال والنشاطات.

5 ـ سرية مكان الاجتماع واللقاء.

وإعتماد السرية يستند الى قلة المنتمين للإسلام والذين لا يستطيعون الحركة العلنية لأنهم سيعرضون أنفسهم للابادة، فلا يبقى مسلم في مكة.

وحينما إزداد عدد المسلمين وتسربت الأخبار لقريش بظهور دين جديد جاء الأمر الإلهي لرسول الله(ص) ليعلن الدعوة، بعد أن وجد الحمايه الكاملة من أبي طالب، حيث قال له: «يا أبن أخي إذا أردت أن تدعو الى ربّك فاعلمنا حتى نخرج معك بالسلاح»(14).

وكان لدور الأمة المصغرة تأثيراً على إستمرار رسول الله (ص) بالدعوة، ومواجهة عقائد وعادات وتقاليد أهل مكة واثبات بطلانها، وتمثل هذا الدور بوجود:

1 ـ عدد لا بأس به من المسلمين.

2 ـ حماية أبي طالب والحمزة وبعض بني هاشم وبني عبدالمطلب.

 

البحث عن قاعدة خارج مكّة

حينما توفي أبو طالب نالت قريش من رسول الله(ص) من الأذى مالم تكن تنال منه في حياته، فخرج الى الطائف يلتمس النصر، وبدأ يأتي الناس في منازلهم، وكان لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب إلا تصدّى له ودعاه الى الله،وعرض عليه ما عنده(15).

وفي السنة الحادية عشر من البعثه دعا رهطاً من الخزرج الى الإسلام فأسلموا، وفي السنة الثانيه أسلم جماعة من الخزرج ومن الأوس من أهل المدينة، فبايعوه على الطاعة، وفي السنه الثالثة عشر وبعد إنتشار الإسلام في المدينة بايعه جمع منهم على السمع والطاعة وعلى النصرة.

وحنيما إشتد الأذى على المسلمين أمر رسول الله(ص) بالهجرة الى المدينة حفاظاً على أرواح المسلمين وخوفاً من تراجع بعضهم عن الإسلام، والبحث عن قوّة أخرى خارج مكة.

 

بدء الحرب ودور الأمة في الانتصارات

على الرغم من عدوان قريش على المسلمين واضطهادهم إلا أن رسول الله(ص) لم يأمر بالحرب ضدّهم لأسباب موضوعية وهي قلة أنصاره بالقياس الى كثرة أنصار المشركين، بحيث تؤدّي الحرب الى إستئصالهم، فكان يدعو الى الصبر والتحمّل.

فبعد بيعة العقبة جاءت قريش لمحاصرة المسلمين، فقال العباس بن عبادة: يار سول الله والذي بعثك بالحقّ إن شئت لنملينّ على أهل منى غداً بأسيافنا.

فقال(ص): «لم نؤمر بذلك ولكن إرجعوا الى رحالكم»(16).

وبعد الهجرة وإقامة نواة الدولة الإسلامية وازدياد عدد المسلمين بدأت الحرب، وهذا ما أشار إليه السيد الشهيد (قدّس سرّه):

«ولم يبدأ بالحرب مع الأعداء في أول غزواته في بدر إلا عندما حصل على العدد الكافي من الناصرين المندفعين بالحرارة العاطفية الثورية... إنّها البديل عندهم عن الوعي والإخلاص الممحص، لعدم توفر التمحيص الكافي بالنسبة إليهم»(17).

فقد كان رسول الله(ص) يحتاج الى عدد من الأنصار الذين يحملون عاطفة ثورية وان لم يكونوا على مستوى من الوعي والالتزام بالمنهج الاسلامي بسبب رواسب الجاهلية، ولذا خاض بهم عدة حروب الى أن بلغ عددهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل فتوجه بهم الى مكة ففتحها، فكان النصر الأكبر للإسلام، والذي إعتمد على الأمة قاعدة ونخبة من حيث العدد اللازم للانتصار والاستعداد للتضحية والطاعة لرسول الله(ص).

واستمرت الانتصارات التي قادها الحكّام المسلمون وإن كانوا منحرفين إلا أنّ وجود أمة أو قاعدة مستعدة للجهاد والتضحية حقق الإنتصار للمسلمين لأنّ الله تعالى ينصر دينه ولو بالحاكم الجائر.

قال السيد الشهيد (قدّس سرّه): «وإستمر الفتح الإسلامي مبنياً على هذا الأساس، وإنّما بدأ الانحطاط والضمور مع الانحراف وقلة إخلاص المخلصين وعدم إندفاع المندفعين»(18).

فقد بدأ الانحطاط حينما تبدلت الأهداف والغايات وحينما تحولت الفتوحات الى وسيلة للسيطرة على الأراضي والأموال وإقتناء الجواري، إضافة الى قلة إخلاص المخلصين وعدم إندفاع المندفعين بسبب إنحراف الحاكم وأجهزته وممارساتهم الجائرة بحق المسلمين واضطهادهم وقتلهم للصالحين.

 

تصدّي الإمام علي(ع)

الإمام علي(ع) كان يتمتع بمؤهلات الخلافة وأولها وجود نصّ عليه من قبل رسول الله(ص) وقد بايعه المسلمون في غدير خم، إضافة الى مؤهلاته الشخصية كالعلم والتقوى والشجاعة والكفاءة وغير ذلك، وقد بويع غيره بغياب أغلب الصحابة وبني هاشم وفي مقدّمتهم الإمام(ع).

وقد طالب بحقه واحتج باحتجاجات مختلفة في أساليبها ووسائلها، وتحرك على المهاجرين والأنصار، إلا أنّه لم يجد تجاوباً، فترك هذه المطالبة لعدم وجود أُذن صاغية له قادرة على تنصيبه لموقعه الحقيقي، ولكن حينما استجدت الأمور بعد مقتل عثمان وبايعه أغلب المهاجرين والأنصار بيعة عامة تصدّى للخلافة لوجود الأنصار والمؤيدين، وهذا ما أشار إليه الشهيد:

«ونرى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، إنما يأخذ بزمام الإصلاح في الأمة الإسلامية، حيث يجد الناصرين المؤيدين، فيناجز الناكثين والقاسطين والمارقين من القتال، ولولا ذلك لم يكن الجهاد لازماً عليه، كما نفهمه من قوله(ع): «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم; لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز».

وإنما أخذ الله تعالى على العلماء ذلك عند قيام الحجّة بوجود الناصر، وهو عبارة عن توفر الشرط الثالث الذي لولاه لما وجب على القائد الإسلامي تكفل القيادة، ولاعتزل علي(ع) هذا المركز الهام، ولم يغرّه ما فيه من منزلة وشهره ومال»(19).

فقد وجد الإمام قاعدة وأنصاراً مستعدين لتحمّل المسؤولية وتنفيذ الأوامر والنهوض بالجهاد والعمل الجاد، فقادهم نحو إخماد التمردات العسكرية الرامية الى تفتيت الدولة فأطاعوه في الجمل وصفين والنهروان فقام بالأمر، وبدأ باصلاحاته الادارية والسياسية والاقتصادية، وبناء مؤسسات الدولة، وتثقيف وتوجيه الأمة على أساس المفاهيم والقيم والموازين الإسلامية السليمة.

وحينما تغيّرت الظروف وبدأ الضعف يدّب في صفوف جيشه وأتباعه بسبب كثرة القتلى والمعوّقين وبسبب الانحراف الطاري والمتأصل لدى بعضهم، وبسبب الخلل الذي حدث بسبب تمرد الخوارج، وتخطيط معاوية بمؤامرات دائمة، إضافة الى الاشاعات المغرضة، وكل ذلك أدى الى قلّة عدد أنصار الإمام(ع) والمطيعن له، وفي ذلك قال السيد الشهيد: «نراه في العهد الأخير من خلافته يخاطب أصحابه بأنّهم ملأوا قلبه قيحاً ويتمنى إبدالهم بخير من صرف الدينار بالدرهم، وهذا راجع في حقيقته والتأسف من ضعف الشرط الثالث يومئذ، وعدم توفره بالنحو المطلوب; للظروف التي كان يعيشها المجتمع يومئذ»(20).

فقد إستشهد الخيرة من أصحابه كعمار بن ياسر وخريمة بن ثابت وذي الشهادتين، فلم يبق معه إلا من هو أقل إيماناً وأقل إخلاصاً.

 

صلح الإمام الحسن(ع)

تصدّى الإمام الحسن(ع) للخلافة حينما بايعه المسلمون في الكوفة فوجد أنّ أنصاره مهيئين لمواجهة التمردات العسكرية والمخططات الرامية لتمزيق صفوف الدولة والكيان الإسلامي، حيث بايعهم على أن: «تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت»(21).

وكتب عدة رسائل الى معاوية يدعوه للطاعة والانقياد للحكومة المنتخبة ببيعة عامة في العاصمة وبعض الأمصار، إلا أنّ معاوية لم يستجب له وهدّده بالتوجه لقتاله.

فلما وصل كتاب معاوية إليه جهّز جيشاً قدره ستين ألفاً أو أكثر، إلا أنّ معاوية بدأ بالتآمر ببث الاشاعات وشراء الذمم وخصوصاً بعض قادة جيش الإمام(ع)، الذين خانوا الإمام(ع) والتحقوا بمعاوية مع مئات الجنود التابعين لهم، وكتب جماعة الى معاوية بالسمع والطاعة، وتعهدوا بتسليم الإمام إليه أو الفتك به(22).

فاضطر الى الصلح بعهود من معاوية، وهذا ما أشار إليه الشهيد الصدر (قدّس سرّه) في تحليله للصلح، فقال:

«وحينما يتولّى إبنه الإمام الحسن(ع) مركز الخلافة والقيادة، ويحاول مناجزة القتال للجهاز المنحرف الحاكم; يتفرق عنه جيشه، ويستطيع معاوية شراء ضمائر قادته واحداً بعد واحد، حتى لم يبق للإمام من جيشه ناصر; اضطر الى الصلح مع معاوية، وهذا في واقعه رجوع الى المحافظة على الدعوة المبدئية بعد إنخرام الشرط الثالث، أو الرجوع الى التقيّة بالمعنى الذي قلناه بعد عدم وجود الناصرين المؤيدين»(23).

وقد صالح معاوية بعد إستشارة البقية الباقية من جيشه فأجابوه الى الصلح ونادوه من كل جانب: «البقية البقية»(24).

فقد كان جيشه ليس مؤهلاً للاستمرار في إخماد تمرّد معاوية بعد التآمر عليه وخلخلة صفوفه، ومن أهم عوامل ومظاهر الخلل فيه:

1 ـ تعدد الآراء والأهواء والنوايا.

2 ـ تعدد الولاءات والانتماءات.

3 ـ عدم الاستعداد للتضحية.

4 ـ التفكير باغراءات معاوية.

5 ـ ضعف القدرة على الثبات والصمود.

6 ـ الاستعداد الفعلي للخيانة.

7 ـ التأثر بالاشاعات والحرب النفسية(25).

وأمام هذا الخلل كان قرار الإمام(ع) هو الصلح مع معاوية، وقد صرّح الإمام(ع) بالمصلحة من وراء الصلح، ومن أهمها قوله: «انّي لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلّمت الأمر; لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها، وكذلك نفسي وأنتم  لتبقى بينهم»(26).

وقوله: «ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض إلا قتل»(27).

فقد صالح الإمام(ع) لابقاء جماعته أحياء، لأهمية ودور الأنصار والمؤيدين في كل عمل وفعالية وقرار يتخذه القائد، فلولا هم لا يستطيع انجاح الأعمال بجهوده وحده، وفي ذلك قال السيد الشهيد:

«إنّ الفكرة القائلة بأنّ صلح الإمام الحسن (ع) كانت مقدّمة لثورة الحسين(ع)، بمعنى أنها وفرت لها الظروف الموضوعية; فكرة صحيحة من ناحية تخطيطية;  ; فإنّ الحفاظ على الجماعة المؤمنة من قبل الإمام الحسن(ع) مكّنها بعد بضع عشرات من السنين أن تقوم بالمهمة الثورية بين يدي الحسين(ع)»(28).

 

ثورة الإمام الحسين(ع)

بعد صلح الإمام الحسن(ع) تفرغ هو والإمام الحسين(ع) لتثقيف الأمة وتوعيتها وارشادها الى المنهج السليم، وتبيان دورها ومسؤوليتها، إضافة الى كشفهم للواقع الأموي المنحرف، وكان لهذا التثقيف وهذه التوعية إضافة الى ممارسات معاوية الانحرافية وسياسته في الترهيب والتجويع، وفي مخالفة التشريعات الإلهية الدور الأساسي في تغيير عقول وقلوب الكثير من المسلمين وخصوصاً أهل الكوفة حيث بدأت روح المعارضة تسري في جوانحهم، وكانوا ينتظرون الظروف المناسبة للتصدي للحكومة الأموية وإعلان المقاومة العسكرية لها، وكانت وفاة معاوية فرصة مناسبة للتحرك، وعلم أهل الكوفة برفض الإمام الحسين(ع) لبيعة يزيد، فراسلوه للقدوم اليهم مما دفعه للحركة، فاختار العراق أو الكوفة لوجود الأنصار والمؤيدين له، وقد طلبوا منه القدوم، فتوفرت له الحجة، كما جاء في قول السيد: «ويأتي دور الإمام الحسين بن عليّ(ع) بعد ذلك، فتأتيه مئات الكتب من العراق من الناصرين المؤيدين الثائرين على الحكم الأموي المنحرف، فتتوفر له «الحجّة بوجود الناصر».. فيشعر بوجوب قيامه بالدعوة الإلهية، والثورة لطلب الإصلاح في أمّة جدّه رسول الله(ص) كما قال (ع)»(29).

فقد كان لدعوة الكوفيين دور أساسي في تنجيز الوجوب، كما قال السيد الشهيد (قدّس سرّه): «تمامية الحكم الشرعي في نظره بوجوب إقامة حكم الله في الأرض، ولو على منطقة محدودة بعد تحقق موضوعه وهو دعوة الكوفيين له»(30).

فوجود الأنصار والمؤيدين من أهم مقومات الحركة الحسينية، فلو كانت الأوضاع طبيعية ولم تتدخل السلطة الأموية وتمارس شتى ألوان الترهيب والترغيب وبث الاشاعات، لكان النصر العسكري حليفاً للإمام(ع) ولكن الظروف أطبقت على عوام المؤيدين وبعض الزعماء فاستسلموا للأهواء والمغريات وركنوا لحب الدنيا وخوفاً من السلطة الحاكمة، فادّى ذلك الى إستشهاد الإمام(ع)، وفي ذلك أشار السيد الشهيد (قدّس سرّه) حيث قال: «وإذا ينحرف عنه هؤلاء الناصرون وينخرم الشرط الثالث، نجد ما يترتب عليه من مأساة دموية كبرى في كربلاء»(31).

 

حركة الأئمة بعد الحسين(ع)

توجه الأئمة بعد إستهاد الإمام الحسين(ع) الى الجهاد السلمي او المعارضة السلمية للحكومات القائمة، فلم يصدر منهم أي عمل مسلح أو لم يقودوا الحركات والثورات بصورة علنية ومكشوفة، وما يذكره المؤرخون من موقف ثوري يقتصر على التأييد والاسناد غير المباشر للحركات والثورات المسلحة، والاحتفاظ بالعمل الاصلاحي في تجسيد مفاهيم الإسلام وموازينه في الواقع، عن طريق تربية الأمة وتحصينها من الانحراف مع العمل على توسيع القاعدة الشعبية، لتعميق المنهج الإلهي في نفوسهم وواقعهم، وقد أشار السيّد الشهيد (قدّس سرّه) الى ما يسمّى بعصر الهدنة، فقال:

«ويأتي دور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) المتأخرين عن الإمام الحسين(ع) ، فيبدأ عصر الهدنة كما سمعنا تسميته بذلك من قبلهم، وذلك باعتبار عدم توفر الشرط الثالث وإنعدام الناصرين المخلصين، أو قلتهم عن المقدار الكافي للثورة»(32).

فللأمة دور ملحوظ وأساسي في إتخاذ قرار الهدنة من قبل الأئمة (عليهم السلام) لأنّ الأمة لم تكن بمستوى إسناد الأئمة أو التضحية من أجل تحقيق أهدافهم، فبعضها موالي للأئمة (ع) وبعضهم موالي للتيارات الفكرية الأخرى، وبعضهم بل أغلبهم يتبعون الحاكم ويمثلون يده الضاربة في المجتمع.

وكذلك حال الثورات والحركات المسلحة، فانها لم تنجح في إزاحة الحاكم الجائر عن السلطة، أو لم تنجح في الوصول الى الحكم بسبب فقدانها الضمان للنجاح، وفي مقدمته قلة الأنصار والمؤيدين بالقياس الى كثرة أنصار الحكم الجائر، ووجود قوة اشبه بالعظمى في ذلك الزمان.

قال (قدّس سرّه): «ثورات الثائرين في عصر الأمويين والعباسيين، فانّها جميعاً كانت تفقد الضمان للنجاح، فكان يكتب عليه الفشل، مهما قويت وإتسعت برهة من الزمن»(33).

وأضافة الى قلة العدد وخذلان الأمة بسكوتها، فهنالك عوامل أخرى يتصف بها الثوار وهي:

1 ـ عدم وضوح الأهداف العليا.

2 ـ التسرع وعدم التريث.

3 ـ عدم السريّة.

4 ـ محدودية الأهداف.

 

دور الأمة في ظهور وإنتصار الإمام المهدي(عليه السلام)

إنّ ظهور الإمام المهدي(ع) متوقف على وجود الأنصار والمؤيدين بالعدد المناسب، فهم يشكلون النخبة القيادية وكوادرها وقواعدها الشعبية، إضافة الى تطلع الأمة الإنسانية بأجمعها الى من ينقذها من الجور والظلم والعبودية والانحراف والقلق والاضطراب، بعد فشل جميع القيادات والتيارات عن إقامة القسط والعدل، وفقدان الدول العظمى والقائمة بالفعل للكثير من الأنصار والمؤيدين والمقاتلين بحيث تصبح متخلخلة من الداخل لا تقوى على المواجهة والصمود والثبات أمام التحديات التي تواجهها ومنها ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) الذي يمتلك النخبة الصالحة القائدة للعالم، وآلاف الأنصار والمؤيدين الذين يلتحقون به بأسرع الأوقات، قال السيد الشهيد:

«نصّت الروايات بشكل مستفيض يكاد يكون متواتراً، أنّ عددهم بمقدار جيش النبي (ص) في غزوة بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كما وردت روايات سمعناها تنصّ على أن أصحابه لا يقلون عن عشرة آلاف رجل».

ويستخلص السيد الشهيد عدة نتائج:

النتيجة الأولى: أن المخلصين الممحصين من الدرجة الأولى، منحصرون في ذلك الجيل الذي يظهر فيه الإمام المهدي(ع) بثلثمائة ثلاثة عشر رجلاً، على حين أن الناجحين الممحصين من الدرجة الثانية لا يقلّون عن عشرة آلاف شخص في العالم، إن لم يكونوا أكثر.

النتيجة الثانية: سرعة التحاقهم بالمهدي(ع).

النتيجة الثالثة: سرعة إيمانهم بالمهدي(ع) وسرعة مبايعتهم له.

النتيجة الرابعة: إنّ هؤلاء سيكونون أوّل من يدافع عنه.

النتيجة الخامسة: إختلاف أصحاب الإمام المهدي(ع) في الوظائف والأعمال التي توكل إليهم.

النتيجة السادسة: العدد الكافي لغزو العالم يتمثل في مثل هذا العدد من القوّاد(34).

وهؤلاء الأنصار الذين يتمتعون بالأخلاق والتمحيص قد مرّوا بمراحل عديدة من تربية وتهذيب النفس عن طريق الارتباط الدائم بالله تعالى بعد معرفته الحقّة; بالعبادة والدعاء وقراءة القرآن، وكذلك التعالي على المغريات وحبّ الدنيا والتعالى على الأهواء، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية.

ويمتازون بالاستعداد للتضحية في سبيل إقامة العدالة، وبالشجاعة المنقطعة النظير لأنّ مسؤوليتهم مسؤولية كبيرة وعظيمة تنسجم مع الأطروحة الإسلامية الشاملة والعالمية بقيادة المصلح المنتظر، وفي ذلك قال السيد الشهيد (قدّس سرّه): «نطقت الروايات التي سمعناها وغيرها بمدحهم والثناء عليهم فهم «رجال مؤمنون عرفوا الله حقّ معرفته»، وهم «رهبان بالليل ليوث بالنهار»، وهم «خير فوارس على ظهر الأرض، أو من خير فوارس أهل الأرض»، وهم أيضاً: «أبدال الشام وعصائب أهل العراق» و«النجباء من مصر».

وأما أهميتهم باعتبار ما يشاركون به تحت إمرة القائد المهدي(ع) من غزو العالم بالعدل، وإقامة الدولة العالمية العادلة، وممارسة الحكم في مناطق الأرض المختلفة»(35).

ويرى (قدّس سرّه): إنّ الدولة العالمية هي نتيجة لجهود «ذلك الموكب ـ موكب الأنبياء والأولياء والصالحين ـ كلّه، ولجهود الإنسانية كلّها في العصور السابقة عليها»(36).

الموضوع منشور سابقا باسم مستعار


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سعيد العذاري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2010/10/12



كتابة تعليق لموضوع : دور الأمة في قرار القيادة عند الشهيد محمّد الصدر(قدّس سرّه)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net