السيد السيستاني قائد استثنائي يحمل روح الإبداع في مواقفه القيادية
السيد منير الخباز
السيد منير الخباز
الناس على قسمين: شخص نمطي وشخص ابداعي. فهناك شخص يميل في حركته وسلوكه الى ان يكون نمطيا، جاريا وفق العادات او التقاليد او الاجواء الاجتماعية التي تربى فيها وعاش فيها، وبالتالي قد يفارق الدنيا ولم يضع لمسة جديدة او مظهرا ابداعيا متميزا. وهناك شخص ابداعي، بمعنى انه يمتلك روح التغيير، وروح الابداع، وان يضع بعض اللمسات في مجال الفكر او مجال الثقافة او مجال العمل او مجال التخطيط قبل ان يغادر الدنيا، وقد قال تبارك وتعالى ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) وفي هذه الاية اشارة الى ان الانسان يمتلك قدرة ابداعية تغييرية اذا اراد استثمارها وتحريكها.
وكما ان الناس صنفان نمطي وابداعي، فان القادة ايضا صنفان: قائد استقائي وقائد استثنائي. فهناك قائد يستقي مساره ويستقي منهجه من القادة السابقين له او من المحيط او من الظروف التي يعيشها ويستفيد من تقلباتها ومن التجارب والمعاناة التي تمليها هذه الظروف عليه. وهناك قائد استثنائي، فالقائد الاستثنائي يختلف عن القائد الاستقائي، فان القائد الاستثنائي هو الذي يصنع الظروف، لا ان الظروف هي التي تصنعه، هو الذي يخلق الاجواء المعدة للقيادة، لا ان الاجواء هي التي تخلق منه قائدا.
ومن المعروف ان القيادة تختلف عن الرئاسة، فليس كل رئيس قائدا، ان الرئيس ربما يصل الى منصب الرئاسة عبر القوة، وربما يصل الى منصب الرئاسىة عبر الانتخاب، وربما يصل الى مركز الرئاسة عبر نظام وراثي، الا ان القائد بموقفه، فان القيادة تعني الموقف، اي ان المواقف الحكيمة هي التي تصنع القيادة، وهي التي تصنع شخصية القائد.
من هنا فان المواقف على نوعين: مواقف استقائية ومواقف استثانية، فالقائد الاستثنائي هو القائد الذي يحمل روح الابداع في مواقفه القيادية الاستثنائة. ومن هذا المنطلق نقول ليس السيد السيستاني (دام ظله) شخصا عاش في اطار المرجعية عشرين سنة او ثلاثين سنة وانتهى، كما عاش بعض المراجع في اطار محدد للافتاء و اطار محدد للزعامة والتصرف في شؤون المجتمع الامامي، بل السيد السيستاني يعبر عن منهج وعن مدرسة، ينبغي ان تتحول هذه المدرسة الى مقرر يحتذى به ويقتدى به في المرجعيات الاتية، وفي جميع المؤسسات العاملة والفاعلة في المجمع الاسلامي، بلاحظ ان هذا المنهج منهج ضروري يمثل لنا مواطن الابداع في القيادة الاستثناية للسيد السيستاني دام ظله الشريف. ومن اجل ان تتجلى لنا هذه القيادة الاستثنائية بشكل فعلي وعملي، ينبغي ان نقرأ عدة صفحات من هذه الشخصية العملاقة المباركة:
الصفحة الاولى: الروح القرانية في شخصية السيد السيستاني
السيد السيستاني وانطلاقا من عمق علاقته بالقران الكريم حفظا وتلاوة وتدبرا وتفسيرا على مدى سنين طوال، يمتلك خبرة قرانية واسعة الافاق، ومن مظاهر هذه العلاقة القرانية ان السيد السيستاني (دام ظله) في بحوثه الاصولية والفقهية تنعكس علاقته القرانية في حسن فهمه للايات وجودة تطبيقه للايات في مواردها، وهنا استشهد بشاهدين: شاهد فقهي وشاهد اصولي، على هذه العلاقة القرانية الوثيقة. اما الشاهد الفقهي: فان السيد السيستاني (دام ظله) عندما ياتي لاية الخمس وهي قوله عز وجل ((وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) فاننا نعرف ان هناك اشكالا ذكره بعض علماء المذاهب الاسلامية وهو ان هذه الاية تتحدث عن خمس غنائم الحرب، لان الاية ودرت في سياق ايات القتال، وقد اجاب كثير من علمائنا على هذ الاشكال بان خصوص المورد لا يخصص الوارد، اي ان الاية وان وردت في الايات القتال الا ان مدلولها عام لجميع موارد الاغتنام، باعتبار ان الغنيمة لغة هي ما يفوز به الانسان من ارباح ومكاسب سواء كانت في الحرب ام في غيرها، كما في قوله تعالى ((فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)) الا ن السيد السيستاني من خلال خبرته القرانية قرأ سورة الانفال التي وردة فيها اية الخمس قراءة سياقية استكثف منها انسجام اية الخمس مع سورة الانفال، فعندما نقرا سور الانفال نجد ان هذه السورة الشريفة لا تتحدث عن القتال بما هو قتال، وانما تتحدث السورة الشريفة عن دعم الكيان الاسلامي، فان الكيان الاسلامي في عصر النبي المصطفى (ص) المكون من دولة ومن جيش ومن مجتمع، كان هذا الكيان الاسلامي محتاجا الى الدعم، فجاءت سورة الانفال لتحشد انواع الدعم والوان الدعم الى تأسيس الكيان الاسلامي وبقائه وضمان استمراره. ((الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ))، والانفال هي المعادن والكنوز والاراضي الاستراتيجية، فان كل هذه الاموال والثروات يجب ان تتحول الى الله والرسول، اي يجب ان تتحول الى بيت مال الدولة لتكون دعما للدولة الاسلامية، ثم تحدثت سورة الانفال عن الانفاق كما في بعض اياتها حيث تأمر المسلمين بالانفاق على المجتمع الاسلامي، فان هذا لانفاق يشكل دعما اخر للكيان الاسلامي، وجاءت اية الخمس في هذا الصراط لتقول بان ما تغنمونه من الحرب او من غيرها فان الضريبة التي جعلها الله في ارباحكم عشرين بالمئة اي هي الخمس لتكون دعما للكيان الاسلامي. فاية الخمس وان وردت في سياق القتال الا اننا ينبغي ان نقرأ السياق العام لسورة الانفال وهو سياق دعم الكيان الاسلام، ودعم الدولة الاسلامية، لاجل ذلك فان المنسج مع دعم الكيان ودعم الدولة الاسلامية ان يكون المقصود بالغنيمة مطلق ما يربحه ويكتسبه الانسان لا خصوص غنيمة القتال. واما الشاهد الاصولي: فاننا نرى ان السيد السيستاني (دام ظله الشريف) يرى ان من شرائط حجية خبر الثقة ان لا يكون مخالفا للكتاب مخالفة روحية.
جميع علمائنا يقولون (لا يؤخذ خبر الثقة الخبر الذي او الرواية التي رواها الثقة على اطلاقها، انما بشرط ان لا تكون الرواية مخالفة للكتاب)، ولكن ما هو المقصود بمخالفة الكتاب؟ فهنا يقول السيد السيستاني المقصود بمخالفة الكتاب المخالفة الروحية للكتاب، والمقصود بالمخالفة الروحية ان لا يكون مضمون الخبر منافيا للمبادئ العامة المستفادة من القران الكريم، كما لو جاءنا خبر مثلا نستفيد منه تحليل الربا فان هذا يتنافى مع مبدء عام في القران الكريم ((َأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)) او عندما نطبق هذا المقصد على الرواية الواردة عن الامام امير المؤمنين عي (ع) (لا تزوجوا الاكراد فانهم حي من الجن كشف عنهم الغطاء) يقال بان هذه الرواية منافية لروح الكتاب فان المستفاد من الكتاب ان هناك مبدا وهو تساوي الانسانية في الحقوق واللوازم كما في قوله تعالى ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر)) وكمل في قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم))، فاطلاقا من الروح القرانية للسيد السيستاني (دام ظله) نقول ينبغي ان يكون من الخطوات العملية للمؤسسات العاملة سوءا كانت تحت مظلة السيد السيستاني ام غيرها ان يكون للقران دور في برامجها وان يكون لتعليم القران وتفسير القران ونشر علوم القران دور واضح في برامجها تجلية واظهارا لهذه الروح القرانية التي ورثها وجسدها السيد السيستاني امتدادا للائمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.
الصفحة الثانية: الروح الادارية للسيد السيستاني
كيف نستجلي ان للسيد السيستاني ذهنية ادارية نصل من خلالها الى خطوط عملية فاعلة ، هنا نتحدث عن امرين: الامر الاول الحكمة، والامر الثاني بعد المدى.
عندما نريد ان تحدث عن الامر الاول نجد ان الايات القرانية على نوعين: نوع يأمر بالعمل كما في قوله تعالى ((وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) وقسم اخر يجعل الهدف ليس مجرد العمل، بل حسن العمل بل احسنية العمل كا في قوله عز وجل ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) وكما في قوله تعالى ((إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)) فالمطلوب احسنية العمل، فهذه الاية مقيدة للاية الاولى، واحسنية العمل انما تتجلى عبر الحكمة، اي وضع الاشياء في مواضعها. قال تبارك وتعالى ((وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)) وقال تبارك وتعالى بشان نبيه المصطفى (ص) ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)) فالحكمة هي عبارة عن وضع الاشياء في مواضعها، وان من اوضح الصفات وابرز السمات التي تجلت في شخصية السيسد السيستاني (دام ظله) سمة الحكمة، والحكمة تعني ان تتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب بالاسلوب المناسب. لا يعني انك قائد بان تتخذ قرارا باي نحو، وفي اي وقت، وفي اي مكان، وباي اسلوب، وانما الحمة تقتضي ان لا تصدر شيئا حتى تدرس جميع الملابسات وجميع الظروف المحيطة، وهذا ما يظهر من شخصية السيد السيستاني (دام ظله) فانه كثير التأمل، كثير التروي، كثير التأني، حتى ييأس كثير من الناس من طول تأنيه وطول دراسته للامور من اجل ان يتوخى الحكمة في اروع صورها بحيث يصدر القرار المناسب في الوقت المناسب في الاسلوب المناسب.
عندما نرجع الى القرارات التي صدرت من السيد السيستاني في كيفية التعامل مع الموجود الامريكي في العراق وانه يجب ان يكون تعاملا ضمن قانون ملزم للطرفين، عندما نقرأ قراره فقي الانتخابات في بداية الامر عندما نقرا قرارا في حل ازمة النجف عندما نقرأ قراره في مواجهة المد الداعشي التكفيري فاننا نجد انها قارارت صدرت في الوقت المناسب بالاسلوب المناسب، وهذا هو مجلى الحكمة، فقد اوصى النبي (ص) ابا ذر الغفاري قال يا ابا ذر (إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته ، فإنْ يكُ رشداً فامضه ، وإن يكُ غيّاً فانتهِ عنه)، لذلك من الخطوط العملية للمؤسسات العاملة في الشرق والغرب ان تتعامل بمنطق الحكمة، اي لا يصد منها قرارا الا بعد ان تدرس عواقبه وتدرس الظروف الزمانية المكانية لهذا القرار، ويدرس الاسلوب والطريقة المناسبة لاصدار هذا القرار، ويدرس هل ان هذا القرار ينسجم المؤسسة وسمعتها وعنوانها ومهامها الاخرى ام لا ينسجم.
الامر الثاني الذي يدخل في اطار الذهنية الادارية للسيد السيستاني، بعد المدى.
ضرار ابن ضمرة عندما دخل على معاوية ابن ابي سفيان وقال له معاوية: حدثني عن علي بن ابي طالب، فقال: اعفني، فقال: لا اعفيك، فقال: اذا كان ولا بد فاسمع … وتحدث عن امير المؤمنين علي (ع) وكان من جملة حديثه ان قال (كان والله بعيد المدى، شديد القوى) فما هو المقصود ببعد المدى؟ بعد المدى الذي يفكر الى الامام، بعيد المدى اعظم من الحكيم، هناك انسان سفيه لكن هناك انسان رشيد، والرشيد قد يكون غير حكيم وقد يكون حكيم، والحكيم قد يكون بعيد المدى وقد لا يكون بعيد المدى، فبعد المدى درجة ارقى من درجة الحكمة، بعد المدى يعني ان يكون افق تفكيرك مستقبليا، ان تكون انسانا مخططا نحو المستقبل، ان تكون لك خطط خمسية، عشرية بحسب السنوات، ان تكون خططك محققة للمصالح العامة للمجتمع الذي تعيش فيه. السيد السيستاني بعيد المدى، بمعنى انه عندما يريد ان يصدر قرار يقرأ ما هي التفاعلات مع هذا القرار في المستقبل، السيد السيستاني مر بالعراق بظروف شائكة بين الشيعة والسنة، توخى دائما بان تكون قراراته ممهدة لعلاقة اخوية بين الشيعة والسنة مستقبلا وليس فعلا فقط، بمعنى ان لا يتخذ المغرضون بيانا او كلمة من منبر شيعي او من عالم شيعي يستفاد منها في المستقبل ولو عد خمسين سنة في الاعتداء على الشيعة الامامية، فمن اجل حفظ هذا الوجود ولو لسنين طويلة قادمة يجب ان تكون قرارتنا قرارات مبنية على اساس يحفظ هذا الوجود للمستقبل البعيد، وهذا هو معنى بعد المدى، وهذه هي وظيفة اخرى تتعين على العاملين والفاعلين من العلماء والمؤسسات في ان تكون قراراتهم ومواقفهم من الاحداث بعيدة المدى لكي تنسجم مع عمق المذهب الامامي وعمق واصالة قيم اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.
الصفحة الثالثة: الروح الاجتماعية في شخصية السيد السيستاني
كيف تعامل السيد السيستاني مع الاديان المختلفة، كيف تعامل مع المذاهب الاسلامية المختلفة التي هي جميعا في اطار الاسلام، كيف تعامل مع البيت الداخلي البيت الشيعي المختلفين في ضمن المظلة الولائية العلوية للامام امير المؤمنين علي (ع). اذا هنا عندنا ثلاث زوايا تتعلق بالروح الاجتماعية للسيد السيستاني (دام ظله الشريف).
الزاوية الاولى : علاقة المسلمين بالاديان الاخرى، علاقة المسلمين بابناء الملل الاخرى على اي اساس تكون وعلى اي اساس تبنى، فهنى نحن نلاحظ السيد السيستاني متميزا في هذا الجانب. هناك قاعة مذكورة في الفقه تسمى بقاعدة الالزام، حسب ما ورد في رواية علي بن ابي حمزة (الزموهم بما الزموا به انفسهم) وكما ورد في رواية محمد بن مسلم (خذوا منهم كما يأخذون منكم في سننهم وقضاياهم) وقد عبر عنها الفقهاء بقاعدة الالزام، اي يجوز لنا ان نلزم اهل كل دين بما الزموا به انفسهم من القوانين الدينية، ولكن السيد السيستاني (دام ظله) عندما ياتي لهذه القاعدة يعبر عنها بقاعدة الاحترام وليس قاعدة الالزام، اي لسنا نحن في مقام المواجة والعداوة مع الاديان الاخرى كي نلزمهم ويلزموننا، وانما نحن نسجل موقفا شرعيا وقيميا خطه لنا اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين الا وهو خط الاحترام، كما ورد في بعض الروايات (ان لكل قوم نكاحا) اي ان الاسلام يحترم العقود والمعاملات التي تصدر من ابناء الاديان والملل الاخرى ويمضيها ويرتب عليها الاثار العملية.
ان هذه النظرة للسيد السيستاني (دام ظله) ترشدنا الى طبيعة العلاقة المسلمين بالاديان الاخرى، وان المنطلق لهذه العلاقة هو الاحترام، احترام دينهم، احترام معابدهم، احترام معتقداتهم، كما ورد عن الامام امير المؤمنين (ع) وهو المبدء للسيد السيستاني وامثاله من العلماء الربانيين انه قال لمالك الاشتر (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وفي ربعض الروايات ان الامام علي (ع) من رجوعه من صفين مر على كنيسة فقال له بعض اصحابه (ان هذا المعبد طالما عُصي فيه الله، فقال له امير المؤمنين علي (ع): مه قل ان ان هذا المكان طالما عُبد فيه الله تبارك وتعالى). اذا فمن هذا المنطلق يتعين على المؤسسات الفاعلة خصوصا في الغرب، والتي تعيش في مجتمع متنوع الاديان والملل ان تتعامل معها بلغة الاحترام، احترام الجيران، البيوت المحيطة بهذه المؤسسات، احترام الكنائس، احترام المثقفين والمتدينين من ابناء هذه الديانات، ان ندعوهم وان نقدم لهم قيم اهل البيت صلوات الله عليهم اجمعين بمناسبة ميلاد النبي (ص) بمناسبة يوم عاشوراء نقدم لهم الورود، الاطعمة، الهدايا التي تكون محفوفة باحدايث اهل البيت بروايات اهل البيت التي تتحدث عن قيمة التسامح، قيمة الكرامة، قيمة العدالة، بحيث نجذبهم لفكر اهل البيت صلوات وسلامه عليهم باسلوب الاحترام ولقد ورد في الرواية الشريفة (لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا) .هذه الزاوية الاولى.
الزاوية الثانية: التعامل مع ابناء المذاهب الاسلامية التي تشترك تحت مظلة الاسلام.
المنطلق القراني هو الذي يسير عليه السيد السيستاني في تعامله مع ابناء المذاهب الاسلامية. فنحن نرى ان القران الكريم يؤكد على مذه ب الوحدة ومذهب الاخوة ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))، ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ))، ((وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)). من خلال هذه المنطلق القراني طرح السيد السيستاني مشروعه الاخوي، ومشروعه التواصلي والترابطي مع ابناء المذاهب الاسلامية الاخرى، فقال (لا تقولوا لاهل السنة اخوتنا بل قولوا انفسنا) اي اننا روح واحدة ونفس واحدة تستقي من النبي المصطفى (ص) واهل ابيته الطاهرين الذين قال عنهم رسول الله (ص) (اني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي اهل بيتي)، ولم يكتفي السيد السيستاني بالشعار، فان السيد السيستاني ليس شخصا صاحب شعارات وبيانات، فهو شخص لا يعتمد على الاعلام، ولا يعتمد على الشعارات، ولا يعتمد على البيانات، وانما يعتمد دائما على منطق العمل والفعل. السيد السيستاني لا يركز على ظهوره في الاعلام، لا يرى ان ظهوره في الاعلام وان يكون له اعلام يخصه وان تكون له قناة تخصه وان يكون له مؤيدون يخصونه وان تنشر صوره وكلماته في العالم، هذا لا يرى له قيمة، انه يرى القيمة للعمل، القية للفعل، القيمة للاداء، ان تكون على الارض متحركا عاملا، لا ان تكون شعاراتك واعلامك اكثر من حركته وفاعليتك وعملك على الارض، لذلك السيد السيستاني لم يقل لا تقولوا اخوتنا بل قولوا انفسنا مجرد شعار بل كان عملا، السيد السيستاني مر بظروف وهي ظروف العراق الشائكة التي داب المغرضون والتكفيريون لاثارة الروح الطائفية فيها بين اونة واخرى، منذ بداية التفجير المروع في كربلاء الى هدم المرقدين الشريفين للامامين العسكريين (ع) الى هدم المساجد والحسينيات وتفجيرات المتواصلة في اسواق الشيعة وحسينياتهم ومساجدهم ومدنهم، الى ارتكاب المجازر وذبح ابنائهم بصور مريعة مخيفة، ولكن كل هذا لمك يستفز القيادة الاستثنائية للسيد السيستاني. ابدا السيد السيستاني لم يتصرف بروح استفزازية وبروح عجلة وبروح انتقامية، رغم كثرة الدماء التي سالت على ارض العراق من قبل التكفيريين، فهو من البداية فصل بين التكفيريين وبين اهل السنة، فاعتبر التكفيريين فئة مبتدعة ممقوتة عند الجميع شيعة وسنة، وخاطب الشعب العراق كله بروح ابوية (انهم ابناءه وانهم اخوانه)، وطلب من الشعب العراقي جميعا ان يتصدى لهذه الفئة التكفيرية بغيضة. لاجل ذلك السيد السيستاني ندد واستنكر بالتفجيرات التي وقعت عند اهل السنة، وارسل الوفود من قبله لمشاركة اهل السنة في عزائهم وفي مآسيهم، بل قام مكتبه ببذل المساعدات المادية لضحايا اهل السنة والمهجرين منهم من مدنهم من خلال الافعال الاجرامية التي قامت بها الفئة التكفيرية، وبذلك شكلت فتاواه ومشاركاته العملية ومبادراته الاخوية، شكلت سدا منيعا امام نشوب الحرب الطائفية في العراق، وحقنت الدماء، ولم يبق امام العراقيين الا الفئة التكفيرية البغيضة. اذا من هنا من منطلق روح الاخوة الاسلامية التي جسدها السيد السيستاني شعارا وعملا، نقول بان من الخطوط العلمية التي ينبغي للمؤسسات الفاعلة ان تتسم بها ان تجسد روح الاخوة الاسلامية، فتقيم علاقات وجسور تواصل مع العلماء المنصفين المعتدلين من ابناء المذاهب الاسلامية وتدعوهم لمؤتمرات وتدعوهم لمهرجانات وتقربهم وتقيم بعض العلاقات التي تنشر روح الالفة والمحبة والترابط الاخوى الذي يندرج تحت قوله عوز وجل ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)).
والزاوية الثالثة: الابوة التي جسدها السيد السيستاني للشيعة المختلفين، فانتم تعرفون ان هناك اختلافات بين ابناء الشيعة الامامية، اختلافات فكرية، اختلافات سياسية، اختلافات ادارية، هناك فئات متنوعة والعراق يضم هذه الفئات المختلفة، يضم احزابا سياسية مختلفة، يضم تيارات شيعية مختلفة، يضم افكارا متباينة، وفي هذا الجو كله لم يجعل السيد السيستاني نفسه طرفا، ولم يدخل في خلاف، ولم يدخل في صراع ولا نزاع، لا سياسي ولا ادداري ولا فكري، وانما جعل موقعه موقع الابوة التي تنشر الرحمة والالفة بين ابناء الشيعة الامامية المستظلين بظل ولاية امير المؤنين علي (ع) التي قال الله في حقها ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)). فماذام الجميع مستظلا بظل الولاية العلوية ومنتهجا بالمنهج العلوي، فهم ابناؤة، وهم اخوانه، وهم افلاذ كبده، لذلك ترون انه كيف تعامل مع ازمة النجف مع فريقين مختلفين من الشيعة الامامية في تقدير الموقف انذك معاملة الابوة، فاحتضن الجميع واستوعب الجميع ونشر روح اللطف والابوة والاهتمام بالجميع، لذلك تراه الى الان في مجلسه يستقبل مختلف التيارات ومختلف الافكار، ويعامل الجميع بروح النصيحة والارشاد والابوة، وهذا المنطلق الذي سار عليه الائمة الطاهرون صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين، ينبغي بل يتعين على المؤسسات العاملة ان تتحلى به، اذ يجب ان تكون مؤسساتنا في الشرق والغرب مؤسسات تحتضن جميع الشيعة بمختلف اتجاهاتهم واختلافاتهم وتقربهم وتحنوا عليهم وتمد لهم يد العون في مشاريعهم العملية الصالحة لانقاذ المجتمع الاسلامي من الجهل ومن الانحراف.
فان هذه الروح روح الاحتضان والاستعياب هي التي تكقل استمرار المذهب الامامي استمرار اجتماعيا متآخيا مترابطا، هذه كلها تشكل الصفحة الثالثة من صفحات شخصية المباركة الا وهي الصفحة الاجتماعية والروح الاجتماعية للسيد السيستاني دام ظله الشريف.
الصفحة الرابعة: الروح النظامية
نحن نعلم جميعا بان حفظ النظام امر واجب عقلا ونقلا، اي ان المجتمع العقلائي اهتدى بعد مرور سنين من الحروب والمجاعات والتناحرات الى ضرورة حفظ النظام، اي ضرورة وجود نظام يحمي الانفس والاعراض والاموال، وضرورة وجود قوانين صارمة اي سلطة مكونة من سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة قضائية ليضمن هذا النظام المكون من هذه السبطات الثلاث ليضمن حماية للانفس والاعراض والاموال، فهذه ضرورة عقلية، والا انقرض المجتمع البشري، وهذه الضرورة يؤيدها ا ويأكدها القران الكريم بقوله عز وجل ((وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ)) اي لولا ان هناك اناس تتصدى للحماية حماية الانفس والاعراض والامول لختل النظام الاجتماعي، وقال تبارك وتعال ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ)) وقال ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)) اي لا يحب اختلال الاجتماعي، فحفظ النطام ضرورة عقلية وشرعية، ومن هذا المنطلق ذكر السيد السيستاني في ابحاثه كما في كتاب لا ضرر ولا ضرار المطبوع، ذكر في هذا الكتاب ان للفقيه الولاية في الامور العامة، والمقصود بالامور العامة الامور النظامية، اي ان كل امر يحقق المصلحة العامة للمجتمع الاسلامي ويحفظ للمجتمع الاسلامي النظام الحامي للانفس والاعراض والاموال والحقوق فان للفقيه ولاية في ذلك، فان للفقيه ان يصدر كلاما يحفظ فيه النظام ويحمي فيه الانفس والاعراض والاموال كما صنع السيد السيتاني دام ظله في الانتخابات وفي دعم الحشد الشعبي في العراق وفي حل ازمة النجف، كل ذلك من منطلقات ضرورة حفظ النظام، ومن هذا المنطلق نرى ان السيد السيستاني (دام ظله) يحرم دائما التلاعب باموال الدولة، استثمار اراضي الدولة من دون الرجوع اليها، الاستيلاء على املاك الدولة بطريقة او باخرى، مخالفة انظمة الدولة حرام، مخالفة انظمة المرور انظمة البلدية التي اعدت للمصالح العامة ولحفظ المصالح العامة، وليس هذا خاصا بالعراق بل في جميع الدول، وليس خاصا بالدول الاسلامية بل حتى في الدول الغربية، فان هناك مبدءا وقرار للسيد السيستاني الا وهو احترام النظام، فلا مجال للتحايل خلف النظام بطريقة او باخرى، بل يجب تطبيق الانظمة واحترام الانظمة التي اسست لحماية الانفس والاعراض والاموال والحقوق العامة والخاصة والثروات العامة والخاصة سواءا كانت في الشرق او في الغرب وسواءا كانت في دول اسلامية ام في غيرها سواءا كانت في مجال الصحة او التعليم او البلدية او الشرطة او المرور او ما شاكل ذلك. ومن هنا يتعين على المؤسسات العاملة ان تتخذ مبدء حفظ النظام وتطبيق النظام في بياناتها في تصرفاتها وفي توصياتها للناس ايضا، في اجوبتها عن المسائل الشرعية التي يسالها الناس خصوصا في الغرب عن كيفية التعامل مع الانظمة وكيفية تطبيق الانظمة، ان يكون قرار حفظ النظام واحترام النظام قرارا واضحا منعكسا على عمل هذه المؤسسات وما يصدر منها.
الصفحة الخامسة: الروح التربوية
والروح التربوية تتجلى لنا في السيد السيستاني دام ظله الشريف من خلال عدة صفات تتسم بها شخصيته المباركة :
الصفة الاول: العبادة، فهو شخص مستغرق في العبادة، راهب من الرهبان، يقطع الساعات الطويلة في الصلاة والدعاء والمناجاة، ليؤكد لنا ان العلاقة الروحية مع الله هي مفتاح العلاقات الاخرى، وهو يقول عندما حصلت ازمة النجف وعندما سقطت الموصل بيد الفئة الداعشية يقول (صليت وتوسلت بالامام امير المؤمنين علي (ع) في ان اهتدي بحل وقرار صائب يحفظ الدماء ويحفظ العراق)، فهو من المنبع الروحي ينطلق الى القرار الاداري والسياسي، اي انه يعيش الامتزاج والتزاوج بين العناصر الروحية والعناصر الاجتماعية والسياسية.
والسمة الثانية: سمة البعد عن الدنيا.
نحن عندما نقراء في شخصية الامام امير المؤمنين علي (ع) الذي يقول (ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** و حولك أكباد تحن إلى القد)، هذا المنهج العلوي منهج البعد عن الدنيا، الامام امير المؤمنين (ع) جاء من المدينة الى الكوفة يلبس قطيفة واحدة، قميصا واحد، وقال (ما أرزء من دنياكم شيئاً، وإنا هي قطيفتي جئت بها من المدينة)، ويدخل عليه ابن عباس في منطقة ذي قار وهو يصلح نعله، فقال (يابن عباس! ما قيمة هذه النعل؟ قلت : لا قيمة لها! قال: والله! انّ هذه أحب إليّ من إمرتكم إلاّ أن اقيم حقاً او أدفع باطلاً.).
وهذا المنهج العلوي في البعد عن الدنيا يتجلى في مراجعنا الاعلام ومنهم السيد السيستاني (دام ظله) فعندما تدخل عليه تراه يعيش في كوخ بيت قديم لا يملكه وانما هو بيت مستاجر، لانه اخذ على نفيه عهدا ان لا يملك بيتا مادام حيا لا هو ولا اولاده، بيت مستاحر قديم يعيش فيه ويلبس قبائين منذ ان كان عمره خمسين سنة وقد قارب التسعين في عمره لا يغرهما قباءا للصيف وقباءا للشتاء، وياكل الاكل البسيط المتواضع، ولا ياخذ هدايا من احد لئلا تجلب هذه الهدايا كلمات او تساؤلات.
ان هذا المنهج في البعد عن الدنيا وفي عدم التعلق بالدنيا يجب ينعكس على العلماء العاملين، فقد ورد عن الامام امير المؤمنين علي (ع) (الناس على ثلاثة عالم رباني ) وهو الذي يكون بعيدا عن الدنيا و(متعلم على سبيل نجاة) وهو الذي يقتدي بالعلماء الربانيين (وهمج رعاع لا يستضيؤون بنور العلم)، فالواجب والوظيفة على العلماء العاملين خصوصا الذين يتصدرون المؤسسات العاملة، ان يكون مظهرهم البساطة في العيش، ان يكون مظهرهم البساطة في المسكن، ان يكون مظهرهم البساطة في جميع اللوازم الدنيوية التي ترتبط بهم، ليكون ذلك مرآة للقيادة العليا القيادة للسيد السيستاني (دام ظله)، ومرآة للامة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم في زهدهم وبعدهم عن الدنيا، وقد دخل الامام امير المؤمنين على عاصم بن زياد وقد طلق الدنيا ولبس الخشن من اللباس واكل الجشب من الطعام، فقال له ياعاص (انت لست كأنا) اي هناك فرق بين عامة الناس وبين علماء الدين الذين هم في موطن القيادة، فعامة الناس من الممكن ان يلبسوا افضل اللباس، وان تكون منازلهم قصورا اذا كانوا يمتلكون نعمة امتثالا لقوله تعالى ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) ولكن القادة يختلف موقعهم في النفوس لان القادة لهم تاثير روحي على الناس وهذا التاثير الروحي التربوي يقتضي ان يكون لهم موقع اخر وصفة اخرى، فالامام علي يقول (انت لست كأنا، إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره) اي كي يبقى الفقير يشعر بحنان المرجع وبحنان القيادة وبحنان الزعيم لانه يرى الزعيم يعيش عيشة الفقراء، هذا هو المنهج العلوي الذي سار عليه كثير من مراجعنا ومنهم السيد السيستاني دام ظله الشريف. الصفحة الاخرى من صفحات شخصيته المباركة، الصفحة الفكرية.
السيد السيستاني فكر متحرك، فكر دائم، ربما يقول البعض انه لا يدرس مع وجود مراجع اخرين يدرسون، صحيح هو ليس له درس عام، ولكن لديه درس خاص، في كل يوم يجلس مع ابنائه ويتداولون القواعد الفقهية والاصولية والرجالية في مسائل متنوعة مختلفة، فهو في حركة دائمة مع ادوات الاستنباط ومع عالم الاستنباط ومع عالم التحقيق والتدقيق بناء الكبريات وتطبيق الكبريات على الصغريات، وهذا شان فقهائنا ومراجعنا ادام الله ظلالهم الشريفة، لكن هناك تميزا في المسيرة العلمية للسيد السيستاني (دام ظله) وهو ان السيد السيستاني ادخل ابحاثا اكاديمية حديثة في فكره الاصولي، فعندما ياتي السيد السيستاني مثلا الى مبحث الوضع عند الاصوليين يدخل في بحث عن اللغة ونشان اللغة وتنوع اللغة وتطورها، وهذا مبحث اكاديمي يستفاد منه في علم الاصول في تحديد الدلالات ودرجات الظهور ومدى حاكمية ظهور على اخر وقرينية ظهور على اخر، وعندما ياتي السيد السيستاني الى بحث حجية خبر الثقة الذي تناوله كل العلماء من زمان الشيخ الطوسي الى يومنا هذا، يضيف اليه بحثا عن تدوين السنة المحمدية، تعرفون ان هناك كتابا للشيخ ابي زهرة وهو كتاب (اضواء على السنة المحمدية) تناول فيه تاريخ تدوين الحديث النبوي لدى المسلمين، والمراحل التي مربها تدوين الحديث لدى المسلمين، وهذا البحث لم يدرجه علماء الاصول في الكتب الاصولية، السيد السيستاني ادخل هذا البحث وقال من المناسب عند البحث عن حجية الرواية والحديث ان نبحث متى بدء تدوين الحديث عن السنة وعند الشيعة، واثبت من خلال هذا البحث ان الشيعة هم اول المذاهب الذين كتبوا في الرواية والحديث، وان نبحث عن ما قامت به الخلاقة الاموية في تحريف كثير من الاحاديث، وان نبحث عن كتب الحديث وكتب الرجال لدى عامة المسلمين وتاريخها ومراحلها وتقويمها، فان كل هذه الابحاث الاكاديمية العلمية تدعم المنهج العلمي في تقويم اي رواية ترد علينا، ومن الامور التي اضافها السيد السيستاني (دام ظله) الى بحث تعارض الادلة بحث علل اختلاف الحديث، اي لماذا تختلف الروايات، فنرى بعض الروايات تختلف مضامينها عن البعض الاخر، ما هي الاسباب في ذلك، فان اكتشاف اسباب اختلاف الحديث يوفر للباحث والفقيه مؤونة التأويل والتكلف في الجمع بين مداليل الروايات الشريفة، واضاف ايضا لبحوثه الفقهية بحث تاريخ النص والاجواء المحيطة بالنص، فان كل رواية ترد علينا لا يكفي ان نقراها قراءة لغوية منفصلة عن التاريخ، بل يجب ان نقرا الرواية متصلة بتاريخها، صدرت في اي عصر، وما هي البيئة الثقافية التي صدرت فيها هذه الرواية، وما هي الافكار التي كانت مطروحة في ذلك العصر، لنعرف ارتباط حروف الرواية ورموز الرواية بتلك البيئة الثقافية، وغرضي من الاستشهاد بهذه المميزات الفكرية ان اقول بان السيد السيستاني يعنى بفكر الشباب، وبفكر الباحثين، ويريد ان يكون شبابنا وباحثونا اكثر دقة واكثر عمقا واكثر تأصيلا في بحوثهم العلمية المرتبطة بالدين وبالثقافة الدينية، لذلك على المؤسسات العاملة ان تستفيد من ابحاث السيد السيستاني وتنشرها، تنشر هذه المميزات من ابحاث السيد السيستاني لانها ابحاث اكاديمية تنفع كل باحث حوزويا او غير حوزوي، ان تقوم بنشرها، ان تقوم بترويجها، ان تنعكس هذه الابحاث على ما يصدر من ابحاث من هذه المؤسسات وعن ما تقوم به المؤسسات من برامج فكرية وثقافية.
الصفحة الخلقية والروحية
السيد السيستاني على منهج جده المصطفى (ص) وجده المرتضى (ع)، تدخل عليه يقوم احتراما لك، يحتضنك، يتحدث معك بالبسمة واللغة المهذبة والدعاء لك والمباركة لك، وهذا هو خلق مراجعنا وعلمائنا والذي هو خلق الانبياء والائمة صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين والذي اشاد القران بتوفره في شخصية النبي (ص) حيث قال ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) وقال ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)). وهناك شاهد اخر في هذه الشخصية الروحية الخلقية وهو المنهج الذي رسمه السيد السيستاني للمتطوعين والحشد الشعبي، فقد وضع لهم منهجا يتشكل من عشرات النصائح المستفادة لا من فكره الخاص بل من فكر علي بن ابي طالب، حيث استفاد من الروايات الواردة عن النبي (ص) والامام علي في الحروب، مجموعة من النصائح التربوية التي يجب ان يتحلى بها الجنود في حربهم ضد الاعداء، فهؤلاء الفئة الداعشية التكفيرية وان كانت فئة بغيضة لا تحترم الحياة ولا تحترم الاخلاق ولا تحمل خلقا انسانيا ولا قيمة ولا دينية ولا شرعية ولكن مع ذلك يجب على المحاربين من المسلمين شيعة وسنة ان يكونوا مثالا حيا لقيم الاسلام وخلق الاسلام في التعامل مع الاسرى في التعامل مع الاموال في التعامل مع لاملاك في التعامل مع الجرحى بحيث يكون تعاملهم مع الجرحى والاسرى والاموال وما يحصلون عليه هو تعامل الانسان النزيه الانسان الذي لا يبغى قتال انتقاما شخصيا ولا يبغي من قتاله اعتداءا على احد ولا يبغي من قتاله ان يشبع جيبه او بطنه بشيء، فخلق النزاهة هو خلق الجندي المحارب باسم اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين.
واننا من خلال هذه القيم الخلقية العظيمة نرى ان من وظيفة العاملين في المؤسسات الدينية ان يتحلوا بالبسمة والتواضع والخلق الرفيع، سواء كانوا من المعممين ام غيرهم، ان يكون العاملون في المؤسسات الدينية مظهرا للخلق والتواضع والجذب وليس التنفير، مظهرا لجذب الناس الى هذه المؤسسات العاملة وليس عاملا لتنفير الناس وبعدهم عن هذه المؤسسات العاملة.
من القيم الخلقية والروحية للسيد السيستاني، رعاية ايتام العراق من خلال مؤسسة العين التي حملت على عاتفها رعاية ايتام العراق.
من القيم الخلقية للسيد السيستاني دام ظله رعاية الطفولة من خلال ما تقوم به المؤسسات القائمة على المعتمدين من قبله في العراق، من الرعاية الطفولة والاهتمام بشؤونها، وهذا ما يؤكد على المؤسسات العاملة تحت مظلته او جميع المؤسسات، ان يكون لديها لجان متخصصة في رعاية الطفولة، ان تكون لديها لجان متخصصة في رعاية الاسر خصوصا الاسر الموجودة في الغرب، ان تكون المؤسسات لديها لجان متخصصة في حل المشاكل الاسرية، في الجمع بين الاسر، في الارتباط بالاسر، في رعاية الطفولة وهمومها وقضاياها.
وتكميلا لهذا الملف الخلقي الروحي، فان السيد السيستاني من سماته ان لا يغور في السياسية وكانه رجل سياسة، ولكنه مصدر للارشادات للاخوة السياسيين بان يعودوا الى مبادئهم وقيمهم، وهذا يعني ان السيد السيستاني يؤسس منهجا لعلماء الدين والمؤسسات الدينية ان لا تدخل في السياسة، وان لا تغرق نفسها ببحر السياسة، وان لا تتلوث بوحل السياسة، بل على العلماء والمؤسسات العاملة ان تكون منارا للارشادات والنصائح للسياسيين وغيرهم ان يسيروا على وفق المبادئ الاسلامية والانسانية، وان لا تكون السياسة عاملا لبعدهم عن هذه المبادئ القيمة المضيئة.
اذا السيد السيستاني من خلال الصفحات الكثيرة التي تعرضنا اليها ليس شخصا وانما هو منهج ومدرسة، ليس طموحنا في مرجعية السيد السيستاني ان تكون مرجعية تمارس الفتوى الى ان تنتقل الى البارئ الاعلى تبارك وتعالى من دون ان تتحول الى منهج للحياة ومدرسة للحياة، بل طموحنا وتعاملنا وهذا ما نستفيده من القيادة ومن المرجعية العايا للسيد السيستاني انها منهج ومدرسة له وللمراجع من بعده وللمؤسسات العاملة باسمه او باسم اي مرجع اخر، واي مؤسسة دينية ان تمارس هذا المنهج فكرا وتطيقا وسلوكا.
نسال الله تبارك وتعالى ان يجعلنا من السائرين على خطى علمائنا الابرار وخطى محمد وال محمد. اللهم احينا حياة محمد وال محمد وامتنا مماتهم، واخر دعوانا ان الحمد لله رب العاملين، وصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat