صفحة الكاتب : علي البدر

ثمن الوفاء قصه قصيره
علي البدر

              نظرات طالما أحببتها رغم احساسي بأن العيون التي أمامي تنظر الي باستغراب وكأنها تقول.. ياتري من هذا؟ أهو شديد معنا، طيب القلب  ومتساهل؟ وهل يستمر معنا أم يغادرنا؟ وكم سيبقى معنا؟ لحظات مرت ساد بها الصمت فسألت سؤالا محاولا معرفة ما يملكه طلابي من ماده دراسيه وأيضا لكي يطمئنوا لطريقة تعاملي معهم. رفع قسم من الطلاب أصابعهم بينما لم يجرؤ البقيه الى رفع رؤوسهم وبدوا وكانهم منشغلين بالكتاب أو يبحثون عن حاجة داخل رحلاتهم، لكن طالبا لم يبد عليه أي اهتمام أو قلق وكأن بذور اليأس قد غرست في ذهنه.

-        وأنت يا شاطر؟ مارأيك لو تشاركنا؟ سألت مبتسما املا ازالة الارباك منه، لكن الجميع هب وبصوت واحد. استاذ هذا كسلان  لايفهم شيئا.. نظر الي وتفوه بكلمات لم افهمها لكنه استطرد قائلا:

-        أنا؟

-        أجل أنت. ما اسمك؟ تحدث واسمعني اسمك، لكنه بدا عاجزا عن الاجابه وان نظرات الاستهجان للطلبه زادته ارباكا..

-        أستاذ منذ بداية السنه لحد الان لم يتغير "عبد الله" أبدا.

-        ولكن من قال لك ان تتحدث؟ هيا اعتذر. اعتذر فورا.

-        اسف يا استاذ. لن اكررها ثانيه... قال ذلك بخجل وجلس فحاولت استغلال الدقائق الأخيرة من الدرس وطلبت منهم الاجابه على سؤال كتبته على اللوحه لحين سماع الجرس، حيث انشغل الجميع محاولين الأجابه.

            ولم تساورن لحظات الالم في حينها فقط وانما كانت معاناتا أرقتني. يا ترى هل يقتصر واجبنا على التدريس والتلقين فقط أم تربوي وتعليمي؟ وايهما الأرجح؟ يا الهي كيف نبني انسانا ونحن فاقدوا القدرة على فهمه والغور في أعماقه؟ ولم تكن حالتي مع "عبد الله" الأولى أبدا فأحيانا ينتابني احساس شديد بتحدي اية ظاهرة تفقد الطالب توازنه النفسي والاجتماعي وتجعله غريبا وهو وسط أقرانه، حيث طرأت فكرة غريبه في ذهني ترجمت خلالها الهدف السامي لدروس التربيه الفنيه واهميتها في صقل ذوق واكتشاف مواهب الاخرين، فقد كان "مهدي" أجل "الطالب مهدي" صامتا وانعزاليا تماما اضافة لتردده بالكلام خاصة في الصف وهو نسخة من تلك العيون الحائره التي غالبا ما تصادفني، وربما اختلاف" مهدي" عن الاخرين هو مصه لابهامه في الصف لاويا رقبته نحو الحائط بين فترة واخرى محاولا اشباع دوافعه التي تفقد قدرته على المقاومه. وكنت أعرف أن حالة النكوص هذه هي رغبته بالرجوع لمرحلة الطفوله حيث الاحساس بالامان والاعتماد على رعاية العائله له. خيارات عده وضعتها امامي بعد ملاحظتي الموضوعية له، لكنني ايقنت انني لابد وان انجح معه واتحدى ما في اعماقه..

-        سنكتفي الان من درس اللغه  وما رأيكم ان نقوم برسم موضوع معين؟

-        استاذ يعني بعد ماكو انكليزي؟؟ 

-        اراك فرحانا؟ الهذه الدرجه لاتحب الدرس ولا الأستاذ الذي يدرسك؟ قلت ذلك مازحا . والان لنرسم موضوعا عباره عن حادثة أثرت بنفسك. وبدأت اوضح لهم الامر ولم يعرف "مهدي" ان الهدف من أجله هو وليست طالبا اخر..

-        أنت تبدو رساما ماهرا يامهدي. قلت ذلك وقد رعبت من مأساته لمجرد ان تفحصت تخطيطاته.

-        هاي سياره استاذ.

-        ولكن هذا الطفل الذي تدهس السيارة رأسه.. أما ترى رأسه الكبير سيقلب السياره لو داسته؟

-           لا استاذ هذا أخي.. أجل أخي وقد سحقته السياره ومات استاذ.. أحبه وراح مني كنا نلعب سوه وندرس سوه استاذ ما موجود هسه اني وحدي بالغرفه وامي تريد تشيل الفراش واني ما اقبل هوه ماكو بس فراشه يمي وكتبه واقلامه كلهه يمي.. وبدأ الطفل يجهش بالبكاء. وددت أن أحمله واقبله واضمه لصدري فقد أثرت مأساته وهيجت انفعالات كانت راكدة نوعا ما، لكن معرفة الحالة ضرورية عند محاولة حل المشكله، ولم أدر ما ذا أعمل ولأول مره أشعر بتأنيب الضمير لانني توغلت في حالته كثيرا وينبغي ان لا اناقشه خاصة وانني فهمت رسمه ومعاناته من  اول نظره" فكانه يؤكد بان السيارة دهست رأسه وهذا التأكيد عبر عنه بتكبير الرأس الذي دل على عمق معاناته التي كبتها فتحولت لسلوك قلق غير سوي جعله طالبا مختلفا عن أقرانه. أجل انه يعكس مأساته، لكن مأساتي كانت اكبر عندما أشار المدير في اجتماع مجلس المدرسين لبعض السلبيات في المدرسه ومنها قيام احد المدرسين الجيدين بتغيير اختصاصاته والتدخل في اختصاصات بعيده عنه أضافة لضياع الوقت وهدر الجهد.. حاولت ان أكتم انفعالاتي لكن نظرة التعاطف معي من قبل المدرسين كافية لسكوتي. ياتري هل يصح لمدير مثله أن يدير موسسة تربوية وهو بهذه العقليه خاصة وانه برر انتقاداته قائلا بان الاداره والمدرس سيحاسبان بشده اذا فهمت الوزاره أو عند زيارة أحد المشرفين لنا واطلاعه على هذا التجاوز الغريب.. 

                وكان رنين الجرس قد جعل بعض الطلاب في حيره بينما نهض الاخرون وسلموا أوراقهم وهموا بالمغادرة بينما بقي "عبد الله" وعلامات الحيره بادية عليه.

-        تفضل استاذ، وهو يخفض عينيه ورافعا يده نحوي..

-        شكرا "عبد الله". ماهذا الخط الرائع يا مبدع، وأنا أتفحص ورقته ، اريدك رائعا دائما يا عبد الله وسنتفق سوية على ان تكون أكثر روعه في الايام القادمه.

-        نتفق؟ وكيف؟

-        أجل يا عبد الله. أنا وانت سنتفق ان تكون طالبا متميزا لنثبت للطلالب انك رائع لأفتخر بك دائما..

-        احبهم وهم يضحكون علي. قلت لابي ذلك لكنه يقول اصبر يا ولدي سيأتي يوم ويبعث الله قلبا حنينا يساعدك ويرعاك.

-        أبوك يقول ذلك؟ عجيب والله. ولماذا لم يأت بنفسه؟ 

-        لا يستطيع.. انه أعمى.. أجل انه أعمى فقد أصابته شضية في رأسه وفقد بصره..وبدأ يبكي بحرقة وألم..

-        لا.. لا تبك. لا تبك يا ولدي.. ولكن ولكن امك أجل أمك يا ولدي؟

-        تغسل ملابس الجيران وتنظف بالبيوت وهيه تعبانه. مسحت دموعه  فنظر الي بعمق فاستغرب لدموعي التي لم ارغب أن يراها فقد أردت أن أكون قويا أمامه لانفذ لاعماقه واساهم بتغيير حالته..ولكن أية قوة تصمد أمام هكذا براءة وعفوية؟ يا الهي هل أموت حزنا أم أموت حبا لتلك العيون التي ضاعت في مهب الريح.. ضاعت ونحن من ساهمنا بذلك؟ كيف نهدأ وامامنا انسان محروم فاقد لام أو أب أو حنان يبحث عنه. وأنا ذلك الانسان الذي يشعر بخجله وتقصيره أمام هكذا معاناة.. أيقعل ان نغامر بابنائنا ونرميهم لمطحنة لا نهاية لها؟ أيقل أن نصفق لمجانين يسرقوننا أو يبيعوننا بارخص الأثمان؟ أيعقل أن أجد محروما وارضي يفور الخير من تحتها وعليها وفوقها؟ دارت بي الهواجس ولفتني ولا أدري لاية وجهة تقودني. نظرت اليه فبدا وكأنه يقرأ أعماقي. 

-        يالك من تلميذ ذكي.

-        أنا؟ أنا تلميذ ذكي؟

-        أجل.. أجل يا ولدي وساثبت لك ذلك عندما نتفق معا على ما سأقوله لك. سنثبت لأصدقائك في الصف صدق كلامي.

-        و... كيف؟

-        ها اننا لوحدنا الن فاصدقائك في الساحة يمرحون . ساكتب لك بيتا من الشعر واريدك أن تحفظه جيدا. تذكر جيدا وانا انتظرك في اليوم الثاني.

-        ولماذا؟

-        ستري ايها الطالب الذكي. انك مبدع والى الابد. ودعني وانا اسمعه يردد بيت الشعر بكل طلاقة وفصاحه وانتابتني رغبة أن ابقى قليلا وسط حديقة المدرسه حيث توسطتها نخلة البرحي اللذيذ واحسست ان سعفاتها تتناغم مع النسيم لتمنحني سعادة وارتياح أزالا حيرتي وألمي من أعماقي.. ياترى.. كم بقى من عمري لأكمل ما بدأت من أجله؟ هاهي السنون تمضي وأنا بين اناس أحببتهم فأحبوني وبت أشعر بالتقصير أمامهم.. أجل لم أعط ما لدي فأنا لازلت مدينا لهم.. أجل نحن مفاتيح خير تبني وتعمر النفس الانسانيه وقد بنيناها قطرة قطره.. الأخلاص والنقاء احبهما فسعادتي لا توصف بينهما. يقولون فاقد الشيء لا يعطيه.. ياترى هل يصح هذا القول على "عبد الله" وأمثاله؟ طفل يتيم فقد حنان أب أو أم.. أراه يمنح عاطفة أبديه عندما يكبر.. وطفل عاش في دلال ونعيم بين أحضان أبويه.. نراه قاسيا قد يكون جلادا لابناء شعبه.. الحرمان.. كلمة لا أحبها..أمد يدي أبحث عن أياد تتشابك معها لتصبح الف الف يد.. هاهي الفراشة أمامي الان تتراقص بخفة فوق زهرة لتمتص رحيقها فتبقى تلك الزهرة متناغمة معها فتستمر بمنح عطرها وجمالها وبدون مقابل.. و.. أنا ومن معي مسكنا الجيل باسناننا وحملناه على أكتافنا ولم نكترث لأجر قليل أو حتى جحود أجتماعي أحيانا.. ولكن.. ولكن الى متى يرن الصدى في أعماقي والموت أو العجز يهددني بين ان واخر لافتح عيني وارى اناسا بملابس بيضاء كالملائكه يحومون حولي في غرفة الانعاش أحيانا أو في ردهة طويلة كلها رحمة ونكران ذات وتضحيه.. أجل انهم اطفالنا لا بل أطفالي الذين كبروا ليحملوننا كما حملناهم..

-        استاذي.. افتح عينيك.. أنا "حسام".. أجل طالبك الذي كنت أباه أيام زمان.. ارجوك أبي افتح عينيك وأعد الحياة الي. أرجوك يا أبي أنا "حسام" .. أجل الدكتور "حسام". أنا الذي مسحت دموعي وألبستني قميصا جديدا في العيد. أنسيت يدك التي تغور في جيبي لتدس النقود فيه بكل خفة ورشاقه؟

         وكان هذا الصوت الملائكي يجول في أعماقي وأنا بين الموت والحياة لكن اصراره على أن أفيق وكلمة "أبي" التي تكررت جعلتني أرى أبي الذي فقدته وأنا طفل. أجل هذا الصوت منحني قوه ملائكية فتحت عيني على أثرها لاراه أمامي.. انه "حسام" ذلك الطفل الذي حاولت مسح الحرمان واليأس منه ذات يوم...

            يوم مشرق جميل رغم برودته عندما وقفت جانبا الاحظ حركة الطلاب وكيف يمرحون أو يراجعون دروسهم ولم أجد جهدا في البحث عن "عبد الله" فقد كان واقفا في أحدى الزوايا ولاحظت ان شفتيه ترددان شيئا وعندها شعرت أننا بخير وفي الخطوة الأولى. وعندما وقفت أمام عيون تركز علي وتتابع مناقشتي بكل حرص وجديه ، كررت جوابا لسؤال عدة مرات ثم سألت بعض الطلبة فكرروه بروعة وثقه وشعرت ان "عبد الله" متماسك فبدا وكأنه مستعد للاجابه. سألته فأجاب فرحا واثنيت عليه. نظرت لساعتي فأيقنت انني ساسمع الجرس بعد أقل من عشرة دقائق. مسكت قلما أزرق اللون وكتبت بيت الشعر وقد تجاهلت "عبد الله" تماما.

-        من يقرأه؟

-        أنا أقرأه.

-         وأسمك؟

-        "مازن".

-        أجل يا "مازن" اقرأه ليسمع زملائك الطلاب

-        "إنَّمَا الأُمَمُ الأخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ ... فإنْ هُمُو ذَهَبَتْ أخْلاَقُهُم  ذَهَبُوا"

-        سأعطيكم ثلاثة دقائق لتحفظوا هذا البيت. وها أنا أكتبه اليكم..

-        ممكن غدا وبامكانك اختبارنا. قال أحد الطلاب متحمسا.

-        هذا غير ممكن . الان. أجل الان والطالب الذكي الذي يركز على مدرسته سيحفظه. سألت طالبا شاطرا فلم يستطع واخر واخر واستقر المطاف بعبد الله. أجل.. ما هو رأيك أنت. أحفضته؟

-        نعم.

-        واوعدك بان التصفيق سيكون حادا لأجلك. هيا قم أمام الطلاب وأرنا ذكاءك.

وقف ""عبد الله" بكل ثقة واصرار وارتجل البيت بكل روعة وانسجام مع معانيه وبدا وكأنه ممثل بارع  على خشبة مسرح مقدس، رغم نظرة اليأس من زملاءه.

-        رائع بل أكثر من رائع ايها الطالب الذكي.. فلنصفق له جميعنا.. وكنت أنا أول من بدأ التصفيق.. وهكذا استمرت الخطة معه أعطيه مادة ويجيب عليها بكل ثقة واصرار حتى اعتمد على نفسه وبدا يوضح ويعلق على ما يدور بالصف من مادة دراسيه. وبعد اسبوعين أخذت عائلتي وقمنا بزيارته في البيت وقدمنا له هدية تذكارية اقترحتها الاداره والهيأه التدريسيه وعشنا معهم اجمل وقت.. ولا أدري هل يكتب لي عمرا أراه بملابسه البيضاء أو مع خوذة ملونة يخطط المدن ويبني مساكن لاناس محرومين ... فقراء لاهم لهم سوي سقف يحميهم.. ؟ لاشك انه سيقوم بذلك بالتأكيد لكنني لن أراه أبدا لان عالما اخر ربما يكون اكثر أمنا لي .. بانتظاري...


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي البدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/01



كتابة تعليق لموضوع : ثمن الوفاء قصه قصيره
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net