الثورات والانقلابات : رحلة البحث المزمنة عن الزعيم المثالي
مصطفى الهادي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لاشك أن البشر يحتاجون إلى رئيس كفؤ يتولى القيادة وادارة شؤون أي بلد. لكن لربما قلة من الرؤساء يبلغون هذا المقياس. فإذا كان على الوالد ضمن الدائرة العائلية أن يكون كفؤا في تولي قيادة عائلته لكي تعيش زوجته وأولاده حياة سعيدة فإذا كان الزوج على مستوى زوجتين لا يستطيع العدالة بينهما كما قال تعالى : ولن تعدلوا ولو حرصتم . فكم بالأحرى الرئيس الذي سيتولى حكم بلد بأسره فهل يستطيع أن يوفر العدالة بهذه السهولة؟
لا عجب اذاً أن يكون الرؤساء المثاليون نادري الوجود .
على مرّ التاريخ توّج آلاف الملوك . نُظمت مئات الثورات والانقلابات . عُين وانتُخب العديد من الرؤساء ، اغتيل كثيرون من الرسميين . حتى أنظمة الحكم تغيرت بالكامل. لذلك فإن ملوكا، وزراء ، أمراء ، رؤساء دول ، أمناء عامّين ، ودكتاتوريين وجدوا أنفسهم يُولون السلطة أو يُقالون منها أو يُطردون من قبل شعوبهم . وفي بعض الأحيان أطاحت تغييرات مفاجئة بحكام واسعي النفوذ يملكون سلطات واسعة ولهم جيوش وانظمه قوية ولكن يد الشعب أطاحت بهم في عملية رفض عارمة .
مما تقدم نعلم أن إيجاد رئيس يتحلى بالكفاءة والإخلاص والنزاهة ويحكم طويلا أمرٌ صعب للغاية.
فلا عجب إذا أن تفقد الشعوب كل أمل بإيجاد رئيس مثالي . وفي كثير من الأحيان يُعبر الناس عن مشاعر اللامبالاة واليأس بشكل خاص في فترة الانتخابات حيث يطغي موقف اللامبالاة أو الرفض في أحيان كثيرة ( رفض التصويت ) حين يشعرون بأنهم عاجزون عن تغيير حالة البؤس والحرمان التي يعيشونها . وفي كثير من دول العالم عندما يمتنع الناس عن التصويت فهذا لايعني أنهم دائما راضون عن الوضع الراهن أو أن سكوتهم يمثل رضاهم عن مرشّح الانتخابات . ففي كثير من الأحيان يكون هذا الامتناع بمثابة صيحة استغاثة يطلقها الذين يشعرون أن لا أحد يهتم لأمرهم أو حتى يلتفت إليهم إلا وقت الانتخابات فيكفروا بها.
ومن هذا المنطلق فإن لسان حال الكثيرين يقول : أتمنى أن يترشح شخص يجمع كل المواصفات المطلوبة وإن لم يكن فبعض المواصفات . ولكن لا وجود لهذا الشخص الآن ولن يوجد ولذلك نحن مضطرون إلى القبول بالموجود .
فهل صحيح أن الناس مضطرون حقا إلى (( القبول بالموجود )) أي بالرؤساء الغير كفوئين ؟ وهل أن ذلك دليل على أننا لن نحظى يوما بقائد مثالي ؟
كلا فإن المخلصين دائما موجودين ، ولكن صوتهم ضعيف ، لأنهم لا يتمتعون بتأييد دولي ، أو أن الجهة الفلانية الدولية لا ترغب بهم . أوانهم لا يملكون المال للدعاية لأنفسهم أو أن أنصارهم قليلون . ولكن الطامة هي أن الكثير ممن يُرشح نفسه لانتخابات الرئاسة ممن يكون مدعوما من قبل قوى عظمى تقف بكامل طاقاتها خلفه هذا المرشح يعلم بمكان هؤلاء المخلصين ويراهم ولكنه إن لم يغض الطرف عنهم ويتجاهلهم فإنه سوف يشوه سمعتهم ويُحاول إقصائهم وتهميشهم.
في سنة 1940 كان البرلمان البريطاني يشهد أزمة في القيادة . وفي أحد جلساته ، دار بين بعض الحاضرين جدال حام حول كفاءة رئيس الوزراء وأسباب التراجع السياسي والحربي والاقصتادي. وكان حاضرا آنذاك رئيس الوزراء دايفيد لويد جورج الذي كان عمره آنذاك أكثر من 77 سنة وهو الذي قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى . وخبرته الطويلة في المجال السياسي جعلت منه شخصا بارعا في تقييم رجال السياسة . فذكر في خطاب ألقاه في مجلس العموم البريطاني مواصفاة القائد واستعداد الأمة للانقياد له فقال : أن الأمم مستعدة أن تبذل الغالي والرخيص ما دامت تحظى برئيس كفء . ما دامت الحكومة التي يقودها تكشف بكل شفافية الأهداف التي ترمي إليها ، وما دامت الأمة تثق أن الذي يتولون قيادتها يبذلون كل ما في وسعهم من أجل خدمة الشعب والوطن.
هذه الكلمات التي صدرت من سياسي عريق تكشف وبوضوح أن الناس يتوقعون من قادتهم أن يكونوا أكفاء وأن يبذلوا جهودا مخلصة في سبيل إجراء التحسينات التي تعود على الجميع بالخير . ومثل ذلك أيضا قالت ليوبيدا آيرمن ، منسقة شؤون الانتخابات العالمية في الأمم المتحدة : حين يُصوت الناس لرئيس ما يعني ذلك أنهم يأتمنونه على حياتهم ، مستقبلهم ، أولادهم .
وطبعا أن المحافظة على هذه الثقة مهمة في منتهى الصعوبة . لماذا ؟
لأن أي بلد في العالم لا يخلو من مشاكل خطيرة للغاية . وخصوصا الإرث الصعب الذي يرثه الخلف عن السلف ـ أي مخلفات الأنظمة السابقة التي ما تكون عادة قد أوصلت البلد إلى حافة الانهيار ـ فمشاكل مثل الجريمة والحرب والرشوة والفساد بكل أنواعه والتي لا يخلو بلد منها . فأي رئيس يتحلى بالحكمة والقوة لحلّ هذه المشاكل ؟ وأي حاكم لديه الإمكانيات المادية والمشاعر الرقيقة التي تحتوي كل الناس والتي تدفعه لسد حاجات كل الناس إلى الطعام الكهرباء الماء الأمن والخدمات الصحية .... الخ. أي رئيس يتمتع بالمقدرة والقوة والتصميم والمعرفة على حماية الناس وإصلاح الخراب وسد النقص في كافة المجالات ؟ واين هم الاتباع الوطنيين المخلصين الذي يلتفون حوله ويآزرونه ؟ إن لم يكن الداء في الرئيس فلربما في أتباعه .وإذا صح مثل هذا الرئيس هل تضمن انصياع كافة الناس له والتعاون من اجل إنجاح مشاريعه وتحقيق طموحات الشعب وتحقيق الرفاهية له.أم أن هناك فئة سوف تقف ضده وتقوم بتضخيم التناقضات من أجل اجهاض مشروعه حتى وإن كانت تراه مخلصا ونافعا ، ولكنها انانية الحكم .
إن الشروخ المخيفة التي أحدثها ويُحدثها من لا تهمهم إلا مصالحهم تقف سدا منيعا أمام أي زعيم مخلص ومثالي . مثل الفروق الاجتماعية والاختلافات العرقية والمذهبية والدينية والسياسية وغيرها من معوقات خلقها من خلقها لعرقلة مساعي المخلصين .
في أحيان كثيرة ، يستعمل الناس العنف لعزل الرئيس واستبداله بآخر جديد . كما يحدث هذه الأيام من ثورات أحدثت تغييرات فعلية لا زلنا نشهد فصولها . فيصطدم الناس فيما بينهم . المنتفعون من أتباع النظام وعامة الناس ، فلا يغادر الرئيس إلا والبلد في فوضى وقد تحول إلى أنقاض. ويعمد قسم كبير من الناس إلى القيام بأعمال العنف والاغتيال والتحريض من اجل تغيير الرئيس ومع الأسف أن كثير منهم ينقادون انقيادا أعمى لتعليمات بعض المعارضين الذي لا يهمهم إلا التربع على كرسي الحكم . فقد تم التآمر على الكثير من المخلصين وأغتيل العديد من الرؤساء الأكفاء وهم لا يزالون في مناصبهم .أمثال باتريس لومومبا ، والزعيم عبد الكريم قاسم ، والرئيس الامريكي أبراهام لنكولن ولنأخذ هذا الأخير مثالا.
أبراهام لنكولن هذا الرئيس حكم الولايات المتحدة وحظى بتقدير واسع النطاق . هذا الرئيس قال قولا حكيما وكأنه يخبر عن نهايته فقال : انتُخبت لأشغل منصبا مهما خطيرا لفترة وجيزة ، ومُنحت سلطة سريعة الزوال.فعلى الرغم من كل ما فعله من أجل أمريكا والشعب ، حكم الرئيس لنكولن أربع سنوات هرع بعدها الشعب ليُجدد البيعة له بعد أن لمس منه الإخلاص والكفاءة ، ولكن في بداية ولايته الثانية اغتاله شخص يزعم أنه أراد التغيير وأن سياسة لنكولن لا تعجبه .
ولكن وعلى الرغم من إخلاص الرئيس لشعبه إلا أن القوى المجهولة التي تقف له في الظلام لا تدعه يستمر لأنها لا تهتم لإخلاصه . فغالبا ما يحظى الحاكم باحترام ودعم رعاياه إذا وفر لهم قدر الامكان السلام والطمأنينة . ولكن إذا خسر ثقة الناس لسبب ما. فسرعان ما يفكرون في استبداله بآخر .
مثلا في أواخر القرن الثامن عشر ، أرغم كثيرون من الفرنسيين على العيش حياة بائسة . فقد كثرت الضرائب وقل الطعام،وانتشر الفساد وانعدم الأمن مما أدى إلى قيام الثورة الفرنسية . فخُلع الملك لويس السادس عشر من عرشه سنة 1793وأعدم بالمقصلة.
وأنهت أحداث الحرب العالمية الأولى حكم قواد كانوا من أقوى أباطرة التاريخ. مثلان أدى نقص الطعام الذي سببته الحرب سنة 1917 في سانت بيترسبرغ في روسيا إلى قيام ثورة فبراير. وخُلع على الأثر القيصر نقولا الثاني عن عرشه وأنشيء النظام الشيوعي. وفي تشرين الثاني عام 1918 ، أرادت ألمانيا تحقيق السلام . ولكن الحلفاء لم يريدوا إيقاف النزاع ما لم يحدث تغيير في السلطة . نتيجة لذلك ، نُفي الامبراطور الألماني ولهلم الثاني إلى هولندا. وفي سنة 1989 أزيل الستار الحديدي وانهار بزواله أنظمة بدت صلبة كالحجر، إذ رفض الشعب النظام الشيوعي وأقام أشكالا مختلفة من الحكم .
التغيير سنة طبيعية ، مالم تتدخل أيد خبيثة لا تنشد الخير إلا لنفسها وهذا ما يحدث في كثير من دول العالم. ولكن في كثير من الأحيان إذا كان هناك سياسيين مخلصين بارعين في تقييم الأشخاص فإنهم يختارون الأصلح لقيادة البلد.
ففي الحرب العالمية الثانية كانت الحرب لا تجري لصالح بريطانيا وحلفائها . فرأى ليوبولد آيميري وغيره ممن يتولون السلطة أنه يلزم إقالة رئيس الوزراء الحالي وتعيين رئيس جديد بدلا عنه ولكن كتلته كانت قوية فأمتنع عن التنحي . ولكن في 7أيار 1940 من نفس العام صرخ آيميري ليوبولد بالرئيس تشمبرلن في وسط مجلس العموم وهو يلقي خطابه . قائلا له : تنح جانبا ، فقد طفح الكيل ! بالله عليك ارحل . إن بريطانيا تدمر والناس يموتون ارحل . وهذا الكلام قاله السياسي أوليفر كرومويل في مناسبة سابقة فأحدث به تغييرا أيضا .
فأذعن الرئيس البريطاني (نيفيل تشمبرلن ) وبعد ثلاثة أيام من قول ليوبولد هذا استقال تشمبرلن وحل محله ونستون تشرتشل الذي قاد بريطانيا للنصر .
فهل تحظى شعوبنا بمثل هؤلاء السياسيين المخلصين لبلدهم ولشعوبهم ؟ إن كل عمليات التغيير التي حصلت في الآونة الأخيرة لا تبشر بخير حيث أن الرأس فقط تغير وبقيت الأنظمة قائمة بكل كياناتها ورموزها وأحزابها وتناقضاتها . ولا ندري لعلنا نسير بأقدامنا نحو الصياغة الجديدة للشرق الأوسط والتي لا تُعرف نتائجها لحد الآن . فمن المعروف أن الغرب برمته لا يهمه تطلعات الشعوب نحو الحرية ، بل همه الأكبر هو في كيفية استثمار هذه الانتفاضات لما يعود بالنفع عليه حتى وان أدى ذلك إلى تدمير البلد الذي لا يخضع لإرادته وينصاع لسياسته . وأنا أناشد أي شعب ينشد التغيير أن لا يقبل بالدعم السياسي الغربي ولا بقروضه التي هي الإعدام البطيء لأي شعب فالقروض هي الوسيلة الأكثر فاعلية بالنسبة للغرب في إركاع أي شعب وتدميره. وإن لم تركع هذه الديون الشعوب فإن الغرب سوف يرسل ضباعه مع عدة ملايين لشراء الضمائر الميتة وما أكثرهم في أي بلد يحلون فيه. وعلى هذه الشعوب إن رغبت بالنصر والتوفيق أن تشد الحزام على البطون وأن يجاهدو من أجل النهوض من جديد بإمكانيات البلد حتى وإن كانت متواضعة فإنها إن أحسن استغلالها سوف تكفي وزيادة .كما استطاع ((الشعب الإيراني)) في بدايات ثورته التغييرية أن يشد الحزام على البطون وينهض بإمكانات البلد البسيطة ، فتخلص من قيود الديون وها هو الآن يشكل ثقلا دوليا لا يُستهان به .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
مصطفى الهادي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat