صفحة الكاتب : نزار حيدر

عَلَّمَتْنا كَرْبَلاءُ (١)
نزار حيدر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

  بينما نُبادرُ لتحّمل المسؤولية، لا نغفل عن التحرّك على الآخرين لاقناعهم بالالتحاقِ بِنَا، وتلك هي رسالة التّذكير والتّبليغ والنّصح التي قال عنها رب العزة {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وقوله تعالى على لسان نبيّه شُعيب عليه السلام {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ}.
 فعندما قرّر الحسين السّبط (ع) رفض البيعة للطّاغية يزيد للاسباب المعروفة، لم ينتظر ليرى موقف الآخرين من ذلك ليلتحق بهم، كما انّهُ لم يتغافل عن الآخرين لاقناعهم بوجهةِ نظرهم وبصحّة موقفه، من دون ان يبني موقفه النهائي على موقف الآخرين، فعندما يكون موقفكَ سليماً وواعياً من قضيّةٍ ما لا ينبغي عليك تركهُ أو الاحجامِ عنه لمجرّد انّ الآخرين رفضوه او انّهم لم يستوعبوهُ لأيّ سببٍ من الأسباب.
 لقد ظل الامام يوضّح ويبيّن فحوى موقفهِ الى آخر لحظة، فكتب الى المدينة من كربلاء {مَنْ لَحِقَ بي مِنْكُم أستُشهِدَ وَمَنْ تَخَلَّفَ لَمْ يَبْلُغَ الفَتْحِ}.
 انّ الفرق بين موقف الامام (ع) وموقف الآخرين ينحصر في المُنطلق والمعيار والعلّة التي يتخّذ المرء مواقفهُ على أساسِها.
 فبينما انطلق الحسين عليه السلام من المصلحة العليا للأمة عندما شخّص الموقف المسؤول والشّجاع إزاء سلطة البدعة والظّلم والقهر والعبوديّة، بنى الآخرون موقفهم المتخاذل والمتردّد والجبان على أساس المصالح الخاصّة والضّيقة ومن منطلق الخوف والجبن والتّثاقل الى الارض، ولذلك لم يُعر الحسين (ع) لموقفهم كثير اهتمامٍ على الرّغم من كلّ ما بذلهُ من أجلِ إقناعهم وبالتّالي من أجلِ إسقاط واجب النّصح والبيان والتّبليغ، والذي لا يقلّ أهميّةً وأحياناً وجوباً من الموقف الاستراتيجي الذي اتخذه الامام، في إطار مفهوم الآية الكريمة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
 انّ الذين يربطونَ عمليّة تحديد واجباتهم ومسؤولياتهم بمواقف الآخرين هم الأمّعات التي لا تُدلي برأيٍ قبل ان يُدلي الآخرون بآرائهم، ولا يتّخذون موقفاً الا بعد ان يحدّد الآخرون مواقفهم، ولا يحرّكون ساكناً قبل ان يحرك الآخرون ساكناً، فهم ينتظرونَ دائما من يعلّق الجرس كما يقولون ليحدّدوا موقفهم واتّجاهات حركتهم، فهم لا يبادرونَ وانّما يلتحقون.
 انّهم لا يعرفون العيش الا في ظلّ الآخرين، يذوبون فيهم ويتّخذون مواقفهم على ردّات أفعالهم!.
 انّهم الوصوليّون النفعيّون، يتأخّرون عن الآخرين في تبنّي الموقف ليأتي قرارهم مع الجهةِ الاقوى مثلاً او مع من يُحقّق لهم مصالحهم.
 انّهم يوازنون بين الجبهات قبل ان يتّخذوا الموقف النّهائي، على طريقةِ قولِ أحدهم {الصّلاةُ معَ عليٍّ أتمّ والقُصعةُ مع مُعاوية أدسَم والوقوفُ على التلِّ أسلَم}.
 ولقد حدّثنا عنهم ربّ العالمين بقوله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
 اما الحسين (ع) فلم ينتظر من أحدٍ ليعلّمهُ الطريق، ولم يتأخّر عن اتخاذ الموقف الرّسالي ليحسب رجحان الكفة وموازين القوى ويرى مع ايّهما يحقّق مصالحه؟.
 لقد علّمتنا كربلاء معاني الموقف والمسؤولية، كيف نتعامل معهما؟ وكيف نتّخذهما؟ ولماذا؟ وكيف نؤقّت الموقف؟ فَالَّذِينَ يتّخذون مواقفهم قبل الاوان يخطئون كما انّ الذي يتّخذون مواقفهم بعد فوات الاوان يخطئون كذلك.
 فالحسين (ع) ظل ملتزماً بعهد (الصلح) الذي أبرمهُ اخوه السّبط الامام الحسن عليه السلام مع النّظام الأموي مدّة عشر سنوات، فكان يرفض ايّ تحركٍ ثوري ضدّ مُعاوية، ولكنّه انتقض مسرعاً ضدّ نفس هذا النّظام بمجرّد ان هلكَ مُعاوية واستُخلف ابنهُ الارعن يزيد.
 هذا يعني انّهُ كان قد وقّت الموقف بنفسهِ ولم يفسح المجال لأحدٍ بأن يفرض عليه التوقيت، لما لذلك من أهميّة استراتيجية في النّهضات والحركات التحررية والإصلاحيّة.
 وفي هذا الصّدد كذلك، علّمتنا كربلاء ان نتّخذ الموقف الذي تفرضهُ علينا المصالح العليا للأمة وللمجتمع وليس المصالح الانانيّة، فَالَّذِينَ يبنون مواقفهم الاستراتيجيّة على معادلة الرّبح والخسارة الذاتيّة فقط هم الانانيّون والوصوليّون والطّبّالون وأبواق السّلطان، خاصّة (عَبدةُ العجْلِ) الذين يميلون مع اهوائهم حتى اذا تناقضت مواقفهم بين ليلةٍ وضُحاها، ولقد عشنا مع الكثير من هذه النّماذج التي تغيّر جلدها يومياً كالحيّة الرّقطاء، فهو اليوم مع هذا اذا كان منتصراً وهو بالغد ضدّه لأنه انهزم، او انّهُ ضدّ ذاك لانه لا يمتلك من الدُّنيا شيئاً ولكنّه يهتف له في اليوم التالي [بالرّوح بالدّم] لمجرد ان رَآه امتلكَ من امرها شيئاً ما.
 هذا النّموذج يبني مواقفه على المصالح وليس على المبادئ.
 اما شهداء الطفّ فقد بَنَوا مواقفهم على المصلحة الاستراتيجية العليا التي تحدّد مصير الامّة، فَالَّذِينَ تَرَكُوا معسكر الباطل ليلتحقوا بمعسكرِ الحسين (ع) في يوم العاشر والحرب مستعرة والرّؤوس مقطّعة والأجساد مضرّجة بالدماء، هؤلاء رجالٌ عظماءٌ اشدّاءُ احرار ذوو ارادةٍ عظيمةٍ، لم يتّخذوا مواقفهم لمصلحةٍ أبداً، فأيّةُ مصلحةٍ يكسبها المرء اذا انتقل من جبهةِ (المنتصر) الى جبهة (المنهزم) في ساحةِ المعركة؟!.
 انّها القيم والمبادئ والرّمزية العظيمة التي جسّدها سيد الشّهداء (ع) والتي فعلت فعلها بعقولِ ونفوسِ أمثال هؤلاء الأبطال الذين وقفوا في لحظةٍ عند مفترق طرقٍ، بين ان يختاروا الخلود الابدي في الدنيا والاخرة وبين ان يختاروا الذلّ والخصوع والعار في الدنيا والنار في الآخرة، فكان خيارُهم [لا والله لا أختارُ على الجنّة شيئاً أبداً].
 فكربلاء هي التي علّمت شبابنا اليوم ان يختاروا الموقف السّليم في الوقت المناسب، فيتركوا كلّ شيء وراءهم ليختاروا الجهاد والقتال ضد الاٍرهاب على الرّغم من كلّ الظّروف القاسية التي تمر عليهم، لأنّ الذي يدفعهُم الى هذه المواقف هو المبادئ وليست المصالح.
 كما انّ أنصار الحسين (ع) الذين استُشهدوا ليلة أمس في (سيهات) بالمنطقة الشرقية في الجزيرة العربيّة بسبب الهجوم الإرهابي التّكفيري الأموي الحاقد على مأتم سيّد الشّهداء عليه السلام، قدّموا لنا نموذجاً آخر في الحبّ والولاء لأهل البيت عليهم السلام على الرّغم من كلّ تحدّيات الاٍرهابيين الذين يحتضنهم نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربيّة وفقهاء التّكفير وإِعلام البترودولار.
 لقد تكرّرت كربلاء ثانيةً بمواقفهِم وشهادتهِم، ليحطّموا بها جبروت الاٍرهاب مهما علا صُراخهُ وتكرّرت تهديداته.
 انّها كربلاء أيّها الارهابيّون المغفّلون، فمن يمتلك كربلاء لن ينهزمَ بسبب تهديدٍ ولن يخشى أحداً ولن يتراجعَ، فالعاشورائيّون القتلُ لهم عادةٌ وكرامتهُم من الله الشّهادة، ولكم في التّاريخ عبرة أيّها الحمقى!.
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نزار حيدر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/17



كتابة تعليق لموضوع : عَلَّمَتْنا كَرْبَلاءُ (١)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net