هذه الرواية صدرت في عام 2001 , للروائي العراقي ( علي بدر ) وتناولت بعمق وبطريقة غير مألوفة , في الحبكة والاسلوب الفني الحديث , غير المطروق في العمل الروائي , في الاهتمام الشديد وبفنية مرموقة , بان يلعب عامل التشويق والشد القارئ الهم الاول من الاهتمام , وذلك في عملية تقطيع الحدث حين يصل الى ذروته العليا من التشويق والمتابعة , ودس المفاجأة غير المتوقعة في نصية الرواية , في العملية في التطوير في الديناميكية المتفاعلة بالزخ المعلومات المكملة ليس بدفعة واحدة , وانما بدفعات او بالجرعات متعاقبة , كأنها تحاكي حكايات ( الف ليلة وليلة ) ولكن باسلوب حديث ومتطور , وبالاسلوب الانتقادي الساخر لحقبة المثقفين العراقيين في ابان الخمسينيات والستينات من القرن الماضي , والتي تشكل منعطف مهم من شريحة واسعة منهم , وفي هاجسهم الثقافي, بكل تصوراته , في الركض وراء بريق الفلسفات الغربية , التي اجتاحت الوسط الثقافي في تلك المرحلة , ومنها , الوجودية والتروتسكية , والتشبث بالقشور دون الجوهر , فقد غزت الفلسفة الوجودية الوسط الثقافي في تلك المرحلة , عبر مجلة ( الاداب ) اللبنانية لصاحبها د . سهيل ادريس , التي خصصت في انتشار الافكار الوجودية عبر كتابها الوجوديين , وكذلك ترجمة افكار الفلسفة الوجودية , ومنها ترجمة رواية ( الغثيان ) لسارتر . ورواية ( بابا سارتر ) اهتمت بناحية ابراز هذه الظواهر المعشعشة في تلك الفترة من الاوساط الثقافية , وهي تمثل حالات البطالة والتسكع في المقاهي والبارات , وفي الصفوف الخلفية للاسترخاء في دور العرض السينمائية , والنقاشات الصاخبة التي تفضي الى فراغ وسراب بعد ساعات طويلة من النقاشات الحامية الوطيس الساخنة والملتهبة , هذه النقاشات الحامية كأنهم في حلبة صراع الثيران , بين انصار الوجودية والتروتسكية , والعداء والتصادم وعدم الالتقاء بينهما ورفض احدهما للاخر , هذه الفئة من المثقفين , كانوا يتصدرون العناوين البارزة في الوسط الثقافي والادبي آنذاك , وهذه النقاشات لا تخلو في بعضها من النفاق والكذب ( وكانت الدهشة ان الحاضرين , يجلسون ساعات تلو الساعات وهم يسبون ويشتمون احد الشعراء , لكنه حين يدخل الصالون , فأنهم ينقلبون بلمح البصر الى اصدقاء , ويقبلونه ويحتضنونه ويقولون له , مشتاقين ) ص80 . والرواية برعت في السرد والوصف لبغداد القديمة , كأنها تحمل معها دليل سياحي , شوارعها وحاراتها ودرابينها الضيقة , وشارع الرشيد والمناطق المحيطة به , والمحلات والاسواق وحركة التسوق والسير بالعربات التي تجرها الحصن او بالمركبات القديمة , وضجيج وصراخ الباعة , والمقاهي والبارات والملاهي التي كانت سمة من معالم بغداد القديمة , كأننا نتبع خريطة مرسومة بمعالم ومناطق بغداد , بهذه البراعة القديرة , تذكرنا باعمال الروائية للكاتب الكبير ( غائب طعمة فرمان ) في الوصف الدقيق لبغداد الشعبية وحاراتها , ورواية ( بابا سارتر ) رصدت بالاهتمام والعناية , المناخ الثقافي السائد في تلك المرحلة من تاريخ العراق , وموضوع ظهور فيلسوف الوجودية , او مايطلق عليه ( فيلسوف الصدرية . عبدالرحمن ) , في حالة الاندماج والانطباق الكلي , قلباً وقالباً مع الفلسفة الوجودية , ومع سارتر بالذات , ويتحسر بالم حين يتطلع الى المرآة , بان هذا التطابق ينقصه شيء مهم , حتى يندمج ويتقمص سارتر بالضبط , في تسريحة الشعر والنظارات , لكنه يتحسر بأنه لم يكن اعور , حتى يكون التطابق كامل وشامل بالصورة الاندماجية مع سارتر , كان يتمنى ان يكون اعوراً , لكنه يشعر بالنقص المؤلم في التطابق ( سيظل عصياً على التحقيق , طالما ان العور لايطال عينه اليمنى على الاطلاق , فماذا سينقص الوجود , لو صار اعور , ادرك عبدالرحمن في تلك اللحظة , عذاب الوجود ولا عدالته , لو كان وجوداً عادلاً ومتساوياً واخلاقياً , لصار عبدالرحمن اعور , لكان منحه الله العين العوراء ) ص37 . ان الرواية تتناول بكل الجوانب , السيرة الذاتية وبشيء من التوسع في حياة الفيلسوف الوجودية ( فيلسوف الصدرية ) وهي المحور الاساسي للرواية , بان ( عبدالرحمن ) كان شغوفاً الى حد الجنون والتهور بالفيلسوف ( سارتر ) والفلسفة الوجودية وشهرته الواسعة في الوسط الثقافي ( فقد كان يلذ للافندية في زمنه , ان يروا شاباً بغدادياً له القدرة على الرد على اعظم فلاسفة الغرب ومفكريه , ومنهم سارتر , كان يلذ لهم ان يجدوه منزوياً , يطيل التأمل والتفكير بالوجود بعبثيته وعدمه ) ص47 . لذلك الرواية ترصد هذه العبثية , في حياته التي كانت متشردة في ثنايا المقاهي والبارات والملاهي ومصاحبة ومعاشرة العاهرات , وهو يلعب لعبة العبث والغثيان , بالرصد اليومي بالمتابعة المتلاحقة , والسيرة الذاتية لنمطية حياة فيلسوف الصدرية , تقسمها الرواية الى ثلاث محاور اساسية . 1 - رحلة البحث . 2 - رحلة كتابة السيرة الذاتية . 3 - وخاتمة حياة الفيلسوف .
1 - رحلة البحث : بسبب العوز المادي والافلاس المادي للروائي , يتفق على كتابة السيرة الذاتية لفيلسوف الصدرية , مقابل عملة مالية , يدفعها اليه ( حنا يوسف ) حفار القبور , ذو السحنة المرعبة وصديقته الخليعة ( نونو بهار ) ويقول عنهما ( في الواقع لم يكن ينقص هذين الدجالين الفضائحين , حب الفلسفة , ولا الفضائل المتحمسة , ولا النبوغ , وانما ينقصهما حقاً هو الشرف اذ كانا يعتمدان اعتماداً كلياً مساوى الاخلاق ) ص5 . وكذلك بتكليف واغراء من تاجر عراقي ( نصف مجنون , نصف معربد , وغير شريف بالمرة , يطلق على نفسه صادق زاده ) ص5 , ويتفق معهما على كتابة السيرة الذاتية لفيلسوف الصدرية , وتبدأ رحلة البحث المضنية والمتعبة , بما يتعلق بحياة فيلسوف الصدرية ( عبدالرحمن ) في جمع الوثائق والمصادر والمعلومات الشفيهة والمكتوبة , من شهود عيان عايشوا عن قرب حياة الفيلسوف , وبعد شهرين من العمل الدؤوب في البحث , جمع كميات هائلة من المعلومات المتناقضة وراح يرتب اوراقها .
2 - رحلة حياة الفيلسوف : نعرف ان عبدالرحمن من سليل عائلة ارستقراطية معروفة في بغداد بقربها من نظام الحكم آنذاك , ونكتشف بان الرواية ترصده منذ منذ كان طفلاً , او بالضبط منذ عملية التلصص على غرفة نوم والديه , وشاهد أمه عارية تمارس الجنس مع ابيه , هذه العملية وخزت واصابت مشاعره وكيانه نحو التيه والضياع , وسلطت عليه شتى الاوهام واعتبارها اثم شنيع , وبدأت بوادر الكراهية والتذمر من والديه , حتى سيطرت على عقله افكارغريبة , حيث اعتبر نفسه بانه ليس ابنهم الشرعي , وانما بالتبني , وهذه الحادثة فززت مشاعره الداخلية بالشبق الجنسي , وزادت من درجة انحرافه الجنسي الخادمة ( روجينا ) التي كانت تزيد عليه يومياً بجرعات الشبق الجنسي والانحراف , وساعده ايضاً ( سعدون السايس ) في تأصيل الشبق الجنسي في داخله , فكان يصحبه في جولاته في المقاهي ودور الدعارة , ويحثه على التمتع الجنسي مع العواهر , لذلك اختلطت عليه الرؤية بالتفريق بين العفة والزنى , او بين المرأة الطاهرة والمرأة البغي , هذا الاضطراب في الفهم والادراك , ساعده في الاختيار , طريق الابتعاد عن العائلة وتسكع والركض وراء العاهرات , فانغمس في ممارسة العبث الجنوني في حياته , ووجد بان الفلسفة الوجودية في مقوماتها , تلبي المفقود من متطلباته وتلائم روحه العقلية والثقافية , , وزاد من حياته العبثية في فشل حبه مع ( نادية ) التي رفضت عرض الزواج منه , لذلك اضطر الى السفر الى فرنسا من اجل الحصول على شهادة الدكتورا , في الفلسفة الوجودية من جامعة السوربون , لكنه فشل في اتمام دراسته , وتركها في هوس انغماره الكلي في الملذات الجنسية بحجة ( ما معنى الشهادة في عالم لامعنى له ) ص42 . وعاد عبدالرحمن الى بغداد اوائل الستينات مع زوجته الفرنسية ( جرمين ) الخادمة ونادلة مقهى فلور , ويعلن للملأ مصاهرته ل ( سارتر ) في الفلسفة الوجودية , في المصاهرة الزوجية , وكان يدعي بان زوجته ابنة خالة سارتر ( انه تزوج من مواطنة سارتر , كما يقول انها ابنة خالة سارتر , وكان سارتر قد زوجه له , مصاهرة لخلق وجودية عربية على يديه ) ص101 . ليدشن هذا الاعلان عن ولادة فيلسوف وجودي , عاشر الوجودية عن قرب بالمعايشة الحميمية قلباً وقالباً , وليس بالقراءات المترجمة عن الفلسفة الوجودية . وانجبت زوجته توأم ( ولد وبنت ) فاطلق عليهما اسم ( عبث وسدى ) , وفشل كلياً في تأدية متطلبات الحياة الزوجية , وانغمس في الفسق والعبث والتسكع ومعاشرة العاهرات , والغياب الطوال اليوم عن البيت , ليقضيها في المقاهي والملاهي , حتى نسى انه مرتبط بزوجة واولاد , مما اضطرت زوجته ان تعلن عن يأسها وتذمرها واحباطها من هذا السلوك النافر , فصرخت بوجهه بجزع ومرارة ( اني اربي لك ( عبثك وسداك ) وانت استقل بغثيانك , قسمة عادلة , فانت لا تكترث لا ( بعبث ) الذي اصيب بالحصبة , ولا ( بسدى ) التي تبكي منذ يومين وانا اقف امام الطبيب سيمون بهلوان حتى المساء . فخذ عني غثيانك واذهب ) ص61 . وكان فيلسوف الصدرية ارتبط ب ( اسماعيل حدوب ) لصديق له , يتبعه كتابع له , ينقل ويكتب افكاره الوجودية , كواسطة نقل الى الوسط الثقافي والاعلامي , وهذا ( اسماعيل حدوب ) اشتهر في امتهان الاعمال الحقيرة , من السرقة والنشل , الى التشرد والفقر المدقع , الى بيع الصور الخلاعية ليسد رمقه من الجوع . فكان يرافق الفيلسوف في كل جولاته من المقاهي الى الملاهي الى دور الدعارة .
3 - خاتمة حياة الفيلسوف : يطرح علينا الروائي في اسلوبه الروائي , في اختيار نهاية لوفاة او قتل فيلسوف الصدرية ( عبدالرحمن ) من خلال ثلاثة احتمالات مطروحة .
1 - الاحتمال الاول : عملية انتحاره , نتيجة حالة اليأس والعبث والضياع , ووصوله الى طريق مسدود في انغلاق الافق , الذي قاده الى التفكير بجدية بجدوى حياته الجنونية المصابة بالعبث والغثيان , فلم يعد يميز بين الجد والهزل في لجة الحياة , بهذه العدمية .
2 - الاحتمال الثاني , انهى حياته , بانه لم يعد يتحمل خيانة زوجته ( جرمين ) مع صديقه وتابعه ( اسماعيل حدوب ) الذي كان يستغل غيابه الطويل عن البيت , ليزني بزوجته ويخونه , ففي احدى خلواتهم الجنسية , ارادت ( جرمين ) ان تمارس الجنس على سطح البيت , لذلك ركضت الى السطح عارية , وفي تلك اللحظة كان شيخ الجامع يراقبهم في ممارستهم الجنسية من مئذنة الجامع (( كنت اراقبكم من المئذنة .. اخرتم الاذان الفجر يافجار))
(( هل كنت تتفرج على فيلم خلاعي . ياشيخ )) ص219 .
هذه الفضيحة انتشرت بين اهالي الصدرية . واصابت الفيلسوف بالاحباط الكامل ( أكان بحاجة الى باعث للخيانة , وهو خائن على الدوام ؟ أم ان الزوجة ارادت خيانة زوجها المنشغل بغثيانه وعبثه مع العاهرات في الملاهي )ص220
وانهى حياته باطلاقات من المسدس .
3 - الاحتمال الثالث : نتيجة العداء بين التروتسكية والوجودية , وجدت افضل طريقة لتصفية الحسابات بينهما , فحين تزوج ( ادمون ) المناصر الحميم للتروتسكية من ( نادية ) التي رفضت ( عبدالرحمن ) . اصابه الجنون والهلع , لانه وجد زوجته ( نادية ) غير عذراء
( كذابة . انتِ لست باكر )
( عملها معكِ عبدالرحمن . هاهذا عبدالرحمن . قولي )
( لا .... لا ) صرخت نادية وطرحها على الارض وصرخ بها
( كذابة ..... قولي .. وإلا اموتك اليوم . هو اللي قذف بكِ . هو فتح افخاذكِ , هو وسخك .. يا عاهرة )
( لا ... بالمسيح .. بالمسيح . يا ادمون ما عبدالرحمن اللي عملها )
( لكن منو ؟ )
( مئير بن نسيم ...... من كنت صغيرة )
( كذابة )
( احلفلك بالصيب مئير بن نسيم , ما عبدالرحمن . كتبت له رسالة وقلت له اني ما باكر , لكنو هرب الى باريس . اقول لك الحقيقة يا ادمون , لو تقطعني ما اقول غير الحقيقة )
( ما اصدقك . ماكو غير هذا الوجودي الجبان , هذا العميل القذر . بس اصبرلي انا ادمون بن عديلة اخذ بثاري وثار شرفي ) ص214
هكذا كانت خاتمة حياة فيلسوف الصدرية , وقد ابدعت الرواية في اسلوبها الانتقادي الساخر الى الخواء الثقافي الذي كان سائداً في تلك المرحلة من الخمسينات والستينات . بدليل ان بعض الاسماء المستعارة , تقف خلفها اسماء حقيقية معروفة في الوسط الثقافي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat