صفحة الكاتب : د . سليم الجصاني

قراءة في قصيدة: رحلة علاج (للحكام العرب والمسلمين)
د . سليم الجصاني


 ...إنه في ليلة السابع

من شهر محرم

شعر الوالي المعظم

بانحراف في المزاج

كرشه السامي تضخم

واعترى عينه بعض الاحتلاج

فأتى لندن من أجل العلاج

قبل أن يخضع للتشخيص

بالإيمان هاج

فتيمم

بتراب إنكليزي له صدر مطهم

ثم صلى ... وتحمم

ثم صلى... وتحمم

ثم صلى ...وتحمم

ولدى إحساسه بالانزعاج

افرغوا في حلقه

قنينة(الشاي المعقم)!

قلت للمفتي :-

كأنّ الشاي في قنينة الوالي نبيذ!

قال: هذا ماء زمزم !

قلت: والأنثى التي ...؟

قال: مساج !

قلت: ماذا عن جهنم ؟

قال: هذا ليس فسقا

إنما ... والله أعلم

هو للوالي علاج

فله عين من اللحم

... وعين من زجاج

عُرِفَ أحمد عطر بسخريته اللاذعة, وتهكمه الهادف الذي سعى من ورائه إلى تعرية الحكام الذين اكتالوا بمكيالين, ونظروا بمنظارين يختلف أحدهما عن الآخر، فأباح هؤلاء لأنفسهم ما حرموه على غيرهم؛ وساروا بالبلدان والمجتمعات نحو التمزق والتشتت الاجتماعي والانحدار الثقافي بممارستهم سياسة الإفقار والتجهيل ضد الناس، وهذا الهدف هو الذي دفع الشاعر إلى استشعار تدعيم متانة البنية العميقة للغة الإبداعية ورصانة الفكرة المهيمنة, ومحاولة اللجوء إلى تفعيل التعبير الأدبي للوصول إلى النص المؤثر في المتلقي.

الفكرة المهيمنة

سعى الشاعر إلى إظهار فكرة محددة جعلها هدفا لنتاجه الشعري هذا, وهذه الفكرة التي تعتلي النص وتنساب في أحشائه هي التي تظهر ازدواجية التعامل التي ينتهجها الحكام نتيجة استفرادهم بالسلطة وتحكمهم بمقدرات الناس دون وازع أو رادع , وهو ما عانت منه الشعوب طويلا فأرهقتها سوء المعاملة هذه, ويدل على هذا التعامل غير المتزن قول الشاعر :-

فأتى لندن من أجل العلاج!

قبل أن يخضع للتشخيص

بالإيمان هاج

فتيمم

بتراب إنكليزي له صدر مطهم

ثم صلى ... وتحمم

ثم صلى ... وتحمم

ثم صلى ...وتحمم

ويساير هذه الازدواجية التي وردت في صدر القصيدة, ازدواجية أخرى تشكل فكرة ثانية في النص تقوم على تمتين الفكرة المهيمنة وتقوية أساستها, وهي فكرة خطيرة بسبب توظيف المؤسسة الدينية لصالح الحاكم الجائر الذي لا يتورع عن انتهاك المحرمات والعبث بمصالح الناس.

ويأتي تأييد هذا النهج المنحرف بمباركة وعّاظ السلاطين وضمهم تحت عباءة السلطة ليكونوا ببغاوات تردد أصواتهم, وأصداء تربت على أكتافهم وتبرر تصرفاتهم ويبدو هذا الفهم جليا في قول الشاعر:

قلت للمفتي

كأنَّ الشاي في قنينة الوالي نبيذ !

قال: هذا ماء زمزم

قلت: والأنثى التي ...؟

قال: مساج !

قلت: ماذا عن جهنم ؟

قال هذا ليس فسقا

إنما والله أعلم

هو للوالي علاج

والمقطع الشعري هذا يعج بالمصطلحات الدينية وبلفظها الصريح( المفتي- ماء زمزم- جهنم- فسقا- الله أعلم) مما يشير في سياق القصيدة إلى ضرورة عدم استغلال الدين وجعله مبررا لجرائم الأنظمة المستبدة, ومن هنا كان الشاعر قد ركن إلى فكرة واحدة في النص انشطرت عنها صورتان؛ فالصورة الأولى تتعلق بالتعامل غير المنضبط مع مقدرات الناس واحتياجاتهم والصورة الثانية تتعلق بوعّاظ السلاطين الذين يأمرون الناس بالمعروف ويستكثرونه على أنفسهم والصورتان (صورة الوالي والمفتي) تصبان في موطن واحد ليعطيا معنى واحد يشير إلى تعامل الحكام بازدواجية مع المواقف وهذه الازدواجية ذاتها عند المفتي الذي يقترب إلى السلطان بتلميع صورته أمام الناس وإغوائهم.

اللوحة الشعرية

على الرغم من قلة أبيات القصيدة نجدها تكتنز في داخلها مجموعة من اللوحات الجميلة التي رسمت بأنامل صائغ خَبِر الأفكار ومَرس اللغة فانسابت منها الألوان الجميلة التي رسمت صورًا شعرية متألقة يبدؤها بتصوير الامتعاض من شهر محرم الذي أحس فيه الوالي بالضيق النفسي وانحراف المزاج الذي لم يألفه أو أي كدر على قلته, فهو يبتعد عن آلام الناس واحتياجاتهم إلى الانشغال بملذاته وشهواته, التي تظهر بالانغماس المكرر في تتبع التجسيد الملذاتي في قوله (بتراب إنكليزي له صدر مطهم) وهي إشارة إلى تتبع الجمال بملذاته الحسية, والإصرار المتكرر لارتياد هذه الملذات في (ثم صلى... وتحمم) التي وردت لثلاث مرات, ومع هذه الحالة فإنه يزق التي تبتعد به أكثر عن حياة الرعية وتنقل مخيلته إلى عالم آخر يصور الطبقية المقيتة التي يعيشها الطغاة على حساب عيشة الطبقات الكادحة, وأجاد الشاعر في فصل الوالي بشكل كامل عن شعبه وعلى مستويات عدة:-

                   ·المستوى المكاني: الشعب في أرضهم والوالي في غير أرضه.

                   ·المستوى الاجتماعي: الشعب في كدح وفقر والوالي في ملذات وترف وتخمة.

                   ·المستوى الديني : الشعب محرم عليه جلّ الأشياء والوالي مباح له كل الأشياء.

                   ·المستوى الزماني: الشعب يعيش هم اللحظة وكيفية تأمين قوته, والوالي يعيش الزمن المفتوح الذي انتقل إليه بعقل خادر لا يحس بالزمن لانشغاله بالملذات التي تنسي المرء هذا المفهوم.

ولكن كل هذه المستويات تحتاج إلى مبرر ينمق الانحرافات ويحسّن الصورة المشوهة للوالي... وهنا يظهر دور وعاظ السلاطين وانتهازية الإعلام في قلب الحقائق التي رمز لها الشاعر بلفظ(المفتي) الذي أخذ على عاتقه تسويق المسائل المنحرفة وتزييف الأمور وإظهار الصورة البشعة على إنها صور جميلة, ويظهر هذا الأمر في السردية الشعرية التي انتهجها الشاعر بين القائل والمفتي في :

قلت للمفتي:

كأنَّ الشاي في قنينة الوالي نبيذ!

قال: هذا ماء زمزم!

قلت: والأنثى التي ...؟

قال: مساج! 

قلت: ماذا عن جهنم؟

قال: هذا ليس فسقا

إنما ...والله  أعلم

هو للوالي علاج

ليضعنا الشاعر أمام صورة حية نعيشها ونحس سياقاتها, وليصور لنا لوحة تسرق فيها العدالة والحق الاجتماعي وهي لوحة تضم ميزانا ذا كفتين إحداهما راجحة للوالي والثانية منحدرة للآخر وهو الشعب, ثم بعد ذلك يأتي الشاعر ليضع لمساته الأخيرة على هذه اللوحة الشعرية بقوله: فله عين من اللحم        وعين من زجاج!

ليشير إلى الكيل بمكيالين والنظر بمنظارين تضيع فيهما العدالة الاجتماعية وتغيب فيهما حقوق الإنسان, وهو الهدف الذي سعى الشاعر أحمد مطر إلى إظهاره بطريقة تهكمية.

اللغة الشعرية

اعتمد الشاعر على لغة شعرية تخلو من التعقيد لتقديم لوحته الشعرية, كان هدفه من هذه اللغة هو تحقيق المعنى بغية عدم الانحراف عنه إلى الانشغال بالشكل, وهو في الوقت ذاته ركن إلى إيقاع شعري رافقه؛ وفرته المتتاليات الجميلة مع اعتماده على الجرس الصوتي للألفاظ والأصوات المفردة التي رسمت بحرف الميم الصامت الذي سبق بصائتية الحركة أو الصائت القصير, فضلا عمّا دل عليه  التكرار الصوتي واللفظي في (صلى ... تحمم) و(قلت وقال) ليسجل بذلك مستوى صوتيا يعدّ من ألمع منافذ اللغة التي ركن إليها الشاعر.

وقد رفد المستوى الصوتي بالمستوى الصرفي الذي عضّد دلالاته وآزرها؛ وأدلّ شيء على هذا المستوى هو ركونه إلى التكثير الكامن في أحشاء المبالغة بالألفاظ التي وردت في (معظّم – تضخّم) (تيمم – تحمم) وغيرها التي شددت وضعفت حروفها لتعطي دلالات التضعيف الصوتي معنى التكثير الدلالي. وليس هذا وحده الذي اتكأ عليه الشاعر من لغة النص, بل استثمر كذلك متانة نحو الجملة لينتقل بها إلى أحكام نحو النص في أنماط تركيبية تعاورت عليها الجمل الخبرية لشغل مساحة واسعة من النص, وناصرتها الجمل الإنشائية بأنواعها التي برز طافحا منها التعجب والاستفهام الإنكاري وغيرهما, فضلا عن الاعتماد على الإفادة من بقية الموضوعات البلاغية ولاسيما منها القصر بإنما، وتقديم ما حقه التأخير، وتكرار الجمل وما طفا على سطح النص من الركون إلى جمل مقول القول في سردية شعرية جميلة تحاورت بين (قلت وقال) لتقدم دلالات هدف إليها النص الشعري فأحسن استعمالها في لغة النص التي انساغ فيها معناه ليذوب في الذائقة الذهنية للمتلقي. 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سليم الجصاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/08/15



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في قصيدة: رحلة علاج (للحكام العرب والمسلمين)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net