ولاية عليّ في الشرائع السابقة
فكما قد أخذ الله تعالى على النبيّين والرسل الميثاق بالإقرار بنبوّة خاتم الأنبياء وبُعثوا بالبشارة بها لأقوامهم، أخذ عليهم وعلى أُممهم الإيمان والتصديق بها
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }( سورة آل عمران 3: 81 ـ 85 ).
فأخذ الله الميثاق على النبيّين في مقابل إيتائهم وبعثهم بالكتاب والحكمة والنبوّة، وشرط عليهم الإيمان بخاتم الأنبياء ونصرته، وكان ذلك الميثاق مشدّداً مغلّظاً وقد أخذ فيه إقرارهم بذلك وأشهدوا عليه تغليظاً.
ولا يخفى أنّ الآية مشحونة بالدلالات على هيمنة مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) على جميع الأنبياء:
منها: التعبير عنهم بالنبوّة والتعبير عنه بالرسالة ; فإن وصف الرسالة أعلى من مقام النبوّة، وفيه إشارة إلى توسّطه (صلى الله عليه وآله) بين الله تعالى وبين الأنبياء بالرسالة.
ومنها: التعبير عنه (بمصدّق)، والتعبير عنهم بأنّهم (يؤمنون) به، فإنّ ذلك يقتضي اتّباعهم له دونه ; فإنّه يوثّق نبوّاتهم.
ومنها: التعبير عنه (صلى الله عليه وآله) بأنّ تصديقه أسند إلى ما معهم ممّا قد أُوصي لهم، وهذا يغاير التعبير بأنّه (مصدّق لهم)، بينما التعبير عنهم (عليهم السلام) بأنّهم {يؤمنون به (صلى الله عليه وآله)}، أي: جعل متعلّق إيمانهم به (صلى الله عليه وآله)، وفيه بيان لعلوّه عليهم في المقامات الإلهية.
ومنها: قد أخذ عليهم نصرته دونه، ولم يؤخذ ذلك عليه (صلى الله عليه وآله). ثمّ بين تعالى أنّ الإيمان بنبوّة خاتم الأنبياء هو دين الله الذي هو الإسلام، وهو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والنبيّين.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى على لسان نبيّه عيسى (عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}( سورة الصفّ 61: 6).
وكذا قوله تعالى في قضية بني إسرائيل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}( سورة البقرة 2: 89 )، فبيّن تعالى أنّ اليهود كانوا قبل بعثة النبيّ (صلى الله عليه وآله) يستبشرون به ويستظهرون ببعثته وملكه على المشركين ; لمعرفتهم ذلك في توراتهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( سورة الأعراف )
النبوّة والولاية:
وكما قد أُخذ نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإيمان بها على الأنبياء السابقين وأُممهم ; لكونها قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، فكذلك قد أُخذت ولاية عليّ (عليه السلام) وإمامته على الأنبياء السابقين وأُممهم لأخذها في قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل السابقين. ولبيان ذلك لابدّ من الالتفات إلى نقطتين:
قاعدة أديانية: وحدة الدين وتعدّد الشرايع.
الأُولى: إنّ هناك تعدّد بين معنى الدين والشريعة، فإنّ الدين واحد وهو الإسلام الذي قد بُعث به جميع الأنبياء والرسل ولا نسخ فيه، وهو مجموعة أُصول العقائد والمعارف وأركان الفروع وأُصول المحرّمات والواجبات في الفروع، وهذا بخلاف الشريعة فإنّ لكل رسول شريعة وهي ناسخة لشريعة النبيّ والرسول الذي قبله، والشريعة هي تفاصيل التشريعات في الفروع.
ويشير إلى هذا التغاير قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(سورة آل عمران 3: 19 )، فالدين عند الله واحد وهو الإسلام، ولم يبعث الأنبياء بأديان مختلفة، وإنّما الذي أحدث اختلاف الأديان هم أتباعهم، حيث حرّفوا الدين الواحد وهو دين الإسلام بغياً.
ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}( سورة المائدة 5: 48)، فبيّن تعالى تعدّد شرائع ومناهج الأنبياء بخلاف الدين فإنّه واحد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وبسطها.
ونستخلص من هذه النقطة في المقام أنّ الأُصول الاعتقادية وأُصول الإيمان هي من مساحة الدين، ومن مقوّمات دين الإسلام غير القابلة للنسخ والتبدّل والتغيّر، فلا تكون من أجزاء الشريعة ولا من تفاصيل الفروع.
وهذا المبحث والقاعدة الأديانية ينبع منها مناهل عذبة في بحوث المعرفة الدينية واختلاف المذاهب، وينبّه إلى هذا التغاير بين الدين والشريعة، ووحدة الدين وتعدّد الشرايع ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من (مسائل عبد الله بن سلام) للنبيّ (صلى الله عليه وآله): “… قال: صدقت يا محمّد فأخبرني إلى ما تدعو؟ قال (صلى الله عليه وآله): إلى الإسلام والإيمان بالله. قال: ما الإسلام؟ قال (صلى الله عليه وآله): شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور. قال: صدقت يا محمّد فاخبرني كم دين لربّ العالمين؟ قال (صلى الله عليه وآله): دين واحد والله واحد لا شريك له. قال: وما دين الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال (صلى الله عليه وآله): نعم. قال: فالشرائع؟ قال (صلى الله عليه وآله): كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت يا محمّد..”( الاختصاص: 42 ).
ولاية عليّ (عليه السلام) أصل في الدين لا من فروع الشريعة:
النقطة الثانية: إنّ جملة ما ورد من آيات قرآنية في ولاية عليّ وولده (عليهم السلام) وإمامتهم، وكذلك ما ورد من أحاديث نبويّة متواترة ومستفيضة في ذلك، دالّ على أخذ ولايتهم وإمامتهم أصلاً إيمانياً قوامياً في الاعتقاد، كما أشبع ذلك علماء الإمامية ومتكلّميهم في كتبهم، وهذا يقتضي أخذ ولايتهم وإمامتهم ركناً في الدين الحنيف وهو الإسلام، لا أنّها فريضة في تفاصيل الشريعة بمقتضى ما تبين في النقطة الأُولى السابقة.
ويعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لاِثْم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(سورة المائدة 5: 3 ).
وبيان الآية وإن كان له مقام آخر سيأتي، إلاّ أنّ مفادها إجمالاً: إنّ الذي بلغه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم من أخذ البيعة لعليّ (عليه السلام) في غدير خم من المسلمين، بها يتحقّق كمال الدين وهو الإسلام وهو الركن الركين لرضا الربّ لدين الإسلام، فبيّنت الآية أنّ ولايته وولاية ولده (عليهم السلام) مأخوذة ركناً في الدين، لا فريضة فرعية في تفاصيل الشريعة.
وسيأتي ثمّة وجه التعبير بأنّها (كمال الدين) ولم يعبّر أنّها (تمام الدين أي الفرق بين الكمال والتمام كما يعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير الثانية وهي: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}( سورة المائدة 5: 67 )، حيث جعل الباري تعالى تبليغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لبقية أجزاء الدين وللشريعة في طرف، وتبليغه لما أمر به في يوم الغدير من حجّة الوداع في سورة المائدة في طرف آخر، وهذا ممّا يقضي بكون ولايته وإمامته هي بتلك المكانة في الشأن والأهميّة في الدين، أي من الأُصول الاعتقادية، فهي من الأركان في الدين الحنيف، لا من التفاصيل الفرعية في الشريعة.
وهذا هو مفاد آية المودّة أيضاً في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}( سورة الشورى 42: 23 )، حيث جعل الباري تعالى مودّتهم في كفّة والرسالة في كفّة أُخرى، سواء رجع ضمير (عليه) إلى الدين أو إلى جهده (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الدين فإنّ المآل واحد، حيث إنّ قيمة العمل وأجرته هي بقيمة نتيجة العمل وهو الدين، فإذا قوبلت مودّتهم ببقية أجزاء الدين برمّتها اقتضى ذلك كون مودّتهم هي الركن الركين في الدين، وعليه يظهر أنّ ولايته (عليه السلام) وولده المطهرين هي تتلو نبوّة خاتم الرسل في الموقعية فهي من الأركان الثابتة في الدين الحنيف وهو الإسلام.
وقد تبيّن ممن مضى ان الدين واحد وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل) وهو أمر لا نسخ فيه ولا تبديل، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}( سورة الشورى 42: 13 ـ 14 )، فبيّن تعالى أنّ الدين الذي بُعث به الأنبياء وأُولو العزم واحد، لم يتفرّقوا فيه، وإنّ تفرّق أتباعهم ليس من الدين في شيء، وإنّما هو لبغي الأتباع والأقوام.
ويتّضح من ذلك أنّ جميع الأنبياء والرسل بُعثوا على الإقرار برسالة خاتم النبيّين ومحبّة قرباه وولاية أهل بيته.