ادارة الموقع تشكر الاخ الاستاذ الباحث جواد الحجاج لرفده الموقع بكتابه ( تاملات في احسن القصص )
أقرأ في هذا الجزء بعد المقدمة :
• آدم بفطرة التي خلقه الله عليها وهو يواجه إبليس بمكره وغوايته حيث الجولة الأولى لصراع البشرية التي تريد الارتقاء من جديد مع الشيطان التي يريد لها الإخلاد الى الأرض .
• نوح حيث الصبر والثبات على طريق الدعوة الى الله تعالى حتى آخر والصراع مع الآخر الذي لا حدود لعناده
• هود في توكله واستعصامه بالله مع عاد المتجبرة وانهيار ثقافة (من أشد منا قوة ) .
• صالح (عليه السلام)وناقة الله مع ثمود التي انتهكت الخطوط الحمراء لتشقى .
• أيوب (عليه السلام)وهو يعلم البشرية دروس عملية في الصبر و الشكر ليكونا شعارين للدعوة الى الله تعالى .
• خليل الرحمن (عليه السلام)وهو يرسخ أسس عقيدة التوحيد ليخوض أكثر من معركة ويفتح أكثر جبهة رافعا لواء الدعوة الى الله ليكون (إبراهيم الذي وفى )
• لوط (عليه السلام) وهو يخوض غمار حرب ارجاع الفطرة بعد أن ابتكر قومه أولى صور افسادها بشذوذهم ...
• يعقوب (عليه السلام)وفلسفة وتجليات صبره الجميل وتعدد أحزانه التي تألقت بها روحه الكبيرة .
نختم هذا الجزء بمسكها يوسف الصديق (عليه السلام)حيث جمال الروح التي فاقت جمال الصورة وهي تتسامى في عالم الخلق القويم لترسخ ثقافة الصفح والعفو و((لا تثربب عليكم اليوم ..))
الإهداء
الى الحبيب الخاتم و الوصي المرتضى و الزهراء البتول وبنيها وسر ها المستودع..
الى ساروا في درب الحق الموحش رغم قلة السالكين ..
الى من يستمعون الى القول فيتبعون أحسنه..
الى ..من أوصاني بهما ربي إحسانا..
الى إخوتي في الله
الى كل من أحسن أو أساء الظن بي يوما..
أهدي هذا العمل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وصلى الله على رسوله المصطفى وعلى الأئمة الهداة المهديين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين .. وبعد ..
في حياة الأنبياء والرسل مواقف وعبر .. دروس إلهية بالغة العظمة والقيمة ...نماذج ابتلاءات حياتية متكررة ومتجددة لمواقف يمر بها الأنسان .. المؤمن ..والداعية الى الله تعالى ..هي صفحات تُقرأ لتُستوعب .. وتُستوعب لتُجسد ..
قصص من يحسن قراءتها .. متمعنا في دلالاتها سيتمكن وبعون منه (سبحانه) أن يجيب وبثقة على أسئلة كثيرة قد تشكل محور لعقائده . فقط علينا ونحن نتصفح ذلك السفر العظيم من قصص رسل الحق _(عليهم السلام) _ الاّ نصطحب الخصوصية والبعد الشخصي والزمني لقصة هذا النبي الكريم أوذاك مما يفقد القصة جانبها التربوي والتعليمي وتبعد عن حياتنا كدليل عمل ومنهج هدى ..
لقد تعرضت قصص الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام ) لكثير من التسطيح وأدخلت في ثناياها العديد من الأخبار غير الدقيقة التي ما أنزل الله بها من سلطان وذكرت فيها تفاصيل لأمور لا تستحق الوقوف عليها كثيرا في حين تم تخطي الكثير من الدروس والعبر الجديرة بالاهتمام ...
هذا الكتاب محاولة بسيطة لفهم أعمق لبعض قصص الأنبياء والمرسلين وحسب ذكرها في كتاب الله المجيد من خلال قراءتها بتأمل والوقوف في محطاتها القدسية (ولا ندعي ولا ينبغي لأحد أن يدعي ) الإحاطة بتلك المحطات الرسالية الخالدة ولكن هي محاولة لتسليط الضوء لالتفاتة هنا والتفاتة هناك .. تاركين للقارئ الكريم مساحة كبيرة للتأمل والتفكر ..
هناك نقاط لابد من إثارتها كمقدمة للبحث سنصطحبها معنا طوال صفحات هذا الكتاب كي يتسنى لنا الاستفادة منها فيما بعد ...
أولا:
..تغليب أو تغييب الصفة البشرية للأنبياء والمرسلين
من بين أكبر المشكلات التي واجهت الرسالات السماوية هي ان بعض العقول لم تستوعب ان يكون المرسل بشرا مثلهم وبرز السؤال الذي لم يجدوا له جوابا يقنعهم .. كيف لرسالة السماء أن يحملها بشرا مثلنا .. يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويجري عليه ما يجري عليهم من تغير في الحال ..راحوا يقيسون الأمر على بشريتهم المتدنية التي يرزحون تحت وطأة تسافلها .. يردّدون شعار إبليس الأول كيف لبشر من طين ان يكون محلا للتشريف الألهي ؟؟ مع فارق كبير فإبليس أراد أن يحط من قدر بن آدم ليعلو بشأنه فيما أرادوا هم الحط من قدر بشريتهم لا غير ..
مقابل ذلك ظهراتجاه مناقض تماما وان كان مماثلا له في الضلال وهو تقديس الأنبياء وإضفاء الصفة الربوبية عليهم كما حصل مع نبي الله الكريم عيسى (عليه وعلى نبينا السلام)
ولم تخلوا صفوف المسلمين من تيارات الإفراط والتفريط فظهرت بعض الأفكار كردّات فعل أو فهم قاصر تتلخص في عدم القول بعصمة الأنبياء (ع) ونسبة الأخطاء الفاحشة اليهم والتي لايتصور لأسوياء الناس ارتكابها ..
فيما ذهب البعض من حسني النية سذج التفكير لإقصاء هؤلاء المصلحين من ساحة الحياة بحجة ان المعصوم مسدد من السماء لذا من الاستحالة الإقتداء بهم !! باحثين عن مبرر لتقاعسهم وفشلهم أو مستسلمين لأفكارهم الخاطئة ..ان من شأن هكذا أفكار سلبية أن تنسف الأساس التي قامت عليها دعوة الأنبياء والمرسلين (ع) وتحييد دورهم الإصلاحي ..
ـ ثانيا:
أن كل قصة من قصصهم (عليهم السلام) كانت تسلط الضوء على ظاهرة أو أكثر من ظواهر الانحراف والفساد .. في دروس احتوت أقصى درجات التعليم والعبرة .. منظومة من الأخلاقيات الإلهية يجسدها النبي المرسل ...والأحداث الحرجة التي تمر بها الرسالة هي مواقف ليست أسيرة لحظتها بل هي مواقف قد نجدها تتجسد هنا وهناك من حياتنا ..والتصرف المثالي إزاءها هو تصرف النبي والمرسل ...
- ثالثا :
رسالات السماء..تقوم على أساس الدعوة بالتي هي أحسن والتمسك بالخلق القويم .. و نكران الذات والصبر والفناء في الرسالة والإخلاص في أداءها والحرص عليها .. أهم معالم الشخصية الرسالية.. وأمّا إستراتيجية رسل الحق فقوامها الصدق و وضوح المبدأ وهي إستراتيجية لا تقبل التكتيك وأنصاف الحلول أو المساومات او تدخل الأهواء الشخصية والمصالح الذاتية ....
بالمقابل فأن خصوم رسالات السماء .. واضحي المعالم متشابهين في صفاتهم قد تتنوع بيئاتهم وأشكالهم ولكنهم ينتمون لثقافة واحدة ومنهجية مشتركة فثقافة التسفيه والتحقير والاستخفاف بالآخر والاستهزاء والإيذاء النفسي والجسدي علاوة على الكفر والعناد والمراوغة والخداع والنفاق هي إستراتيجية ثابتة لقادة الانحراف والضلال ..
بين هذه الخصائص المتناقضة والمعالم المتباينة .. بين أخلاقيات السمو والارتقاء وأخلاقيات التسافل والإخلاد الى الأرض .. بين جوهر الإنسان الذي كان محل التشريف الإلهي وبين الإنسان ذو النفس الأمّارة بالسوء التي صارت مرتعا للشيطان .. بين هاذين البعدين المتنافرين رسمت حدود دائرة الصراع والذي بدأ من آدم (ع) الى قيام الساعة ..
قد نفتقد المرسلين أشخاصا ولكن يجب أن لا نغيبهم مبدأ وفكرا...بالمقابل فإننا قد نجد أعداء الرسل هنا وهناك وعلينا أن نتعامل مع منهجهم الخاطئ الآثم بمنهج أولياء الله تعالى ..
ـ رابعا :
ان المهمة الكبرى لرسالات السماء هي إيقاظ الفطرة التي طُمست و إصلاح بذرة الخير المودعة أصلا في نفوس البشر .. وإرجاع تلك الفطرة الى أصالتها وتنقيتها مما شابها من اعتقادات فاسدة وممارسات منحرفة ..بمعنى ان الأنبياء (ع) بعثوا لاستعادة الأصل ولم يأتوا ببرامج مبتدعة ..بل هي دعوات انطلقت من الإنسان لتعود اليه تحرره من قيوده وعبودية الأهواء والآلهة المصطنعة و وضع الحجر الأساس لبناء الشخصية و من ثم ترسيخ القيم لذا نجد ان الرسالة تركز على بناء القاعدة وهي الإنسان ذاتا وروحا أكثر من الحرص على التوسع الأفقي وكسب القاعدة الجماهيرية العريضة على حساب هشاشة البناء الداخلي للفرد ... كذلك لم تكن الدعوة الى الله(عز وجل ) والتي حمل لواءها الأنبياء خطابات إنشائية وشعارات نظرية ..مثلما لم تكن نظريات عقيمة نائمة في بطون الكتب أو دعوات تغيير عاطفية سلبية الطرح أو تأتي بأنصاف الحلول بل أنها منهج متكامل ومنظومة شاملة للقيم الروحية والفكرية وبرامج عملية لمختلف نواحي الحياة ..
ـ خامسا:
على هامش القصص المباركة تبرز على مسرح الأحداث شخصيات مؤثرة من كلا المعسكرين (الخير والشر) هي نماذج بشرية تظهر خلاف المألوف والمتوقع .. ففي بيئة إيمانية كبيئة نبي الله حيث أجواء الهداية والرشاد تظهر شخصية منحرفة ضالة تستحق الغضب الإلهي في حين تنشأ شخصية أخرى في أجواء فاسدة مليئة بطغيان اللذة وزخرف الدنيا ولكنها لا تتأثر بتلك الأجواء بل وتتمرد عليها وتعلن ولاءها لصف الموحدين ..
أنها حجة الله تعالى على عباده وعبيده .. أولئك الذين يتذرعون بالموانع المصطنعة مبررين كفرهم وانحرافهم و ردا على تلك النظريات التي تفسر الانحراف على أساس البيئة والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد.. وبالوقت الذي لا أحد ينكر دور البيئة في بلورة المنهج السلوكي للإنسان ولكن ذلك الدور ليس بالقدر المحتم وهو طوق قابل للكسر عن وجدت إرادة للتغيير..
ـ سادسا
سنلحظ من خلال قصصهم (عليهم السلام ) أنهم يشتركون في المنبت الاجتماعي ، من واقع الأغلبية الاجتماعية فهم لم يأتوا من الطبقة المترفة .. هذه الطبقة التي كانت على الأغلب متزعمة لمعارضة الرسل ودعوات التغيير التي تهدد مصالحها الدنيوية التي بنيت على جماجم المستضعفين ودماء وعرق وكرامة المحرومين ..
يأتي النبي المرسل من وسط الغالبية متحسسا آلامها وآمالها حاملا معاناتها منقذا ومخلّصا... وحتى الأنبياء الذي قدّر لهم بما تتطلب منهم الرسالة أن يعيشوا أجواء النعمة الظاهرة والخيرات الدنيوية فانهم لم يكونوا بمعزل عن العامة وهمومها بل أنهم جعلوا من متطلبات رسالتهم توظيف تلك النعم لخدمة عباد الله .. فيما لم تتمكن الدنيا بزخرفها من الاقتراب من حدود نفوسهم الكبيرة والتي كانت مملكة خالصة لله تعالى ..
مثلما أن هناك علاقة وثيقة بين منهج الإنسان السلوكي والبيئة التي يترعرع فيها .. كذلك فإن طبيعة المهنة التي يزاولها الإنسان لها تأثير كبير في منهجه الحياتي والتربوي .. لذا فإننا نجد معظم الأنبياء كانت مهنتهم الرعي ..لماذا الرعي تحديدا؟ ربما لان تلك المهنة علاوة على كونها تربي النفس على التواضع ومواساة ضعفاء الناس فإنها تمثل للنبي المرسل دورة إعداد روحي بما توفره من أجواء مناسبة للتأمل والتفكر والذكر ومناجاة الباري (عز وجل) بعيدا عن صخب الحياة .. أجواء لا تتوفر في مهنة أخرى ..وربما لأن رعي الأغنام تحديدا يمثل ممارسة فعلية للقيادة والإحساس بالرعية وإعداد عملي لفترة قادمة من حياة المرسل ..
ـ سابعا
إن كل رسالة من رسالات السماء كانت لبنة في بناء شامخ أسمه الدعوة الى الله (تعالى) ..وكل الأنبياء كانوا دعاة في طريق التوحيد وكل مرسل مكلف بمهمة أداها على أكمل وجه لا فرق بين أحد منهم رغم تفاوت المنزلة وجميع الرسالات كانت ممهدة لظهور الرسالة المحمدية الخاتمة .. تلك الرسالة التي تكمل البناء وتحقق نظرية الاستخلاف الإلهي بظهور القائم بأمر الله (عجّل الله فرجه ) وإعلان دولته المباركة التي تحقق كل أهداف الرسالات السماوية ..
ـ ثامنا
قد يتبادر الى الذهن ومن خلال سير الأحداث .. وملاحظة القوة المادية وموازين القوى الظاهرة .. ان الأنبياء والرسل كانوا يمثلون جبهة الدفاع في المواجهة لكن الحقيقة عكس ذلك تماما .. فإن الأنبياء يمثلون خط السماء والنور الذي مهمته طرد الظلام الذي يمثله خط الكفر والضلال ..وان عدم إظهار القوة المؤيد بها النبي المرسل هو من مقتضيات الرسالة .. وهناك تدرج في إظهارها ..فغرض الرسالات هي هداية البشر بقناعة فكرية تامة وليس قهرهم .. و حتى الاستئصال والاجتثاث الذي حصل للأمم الغابرة لم يكن محض عقوبة بقدر ماكان لحكمة عظيمة سنوضحها حين الخوض في أحداثها ..
على هامش هذه النقطة..... ان ظهور المعجزة وهو أمر خارق للعادة وللقوانين الطبيعية للمادة يأتي لتثبيت مبدأ رسالي وليس وفق رغبة النبي او تدخل منه و النبي الذي يطلب منه إظهار معجزته يقوم بتفويض الأمر الى الحق سبحانه و لا يعرف توقيت الاستجابة له .. نفيا لأي اشتباه قد يرد على الأذهان ان المرسل يملك استقلالا ذاتيا في إيجاد الأمر او دفعة ..
أخيرا..
لابد من القول أن مايقرأه القارئ الكريم ليست سوى خواطر قد تكون دارت بذهنه ولم يتسنى له تدوينها .. هي أراء وأفكار متواضعة رسمناها على الورق لتكون مناسبة للتفكر والتمعن ليس الا ..فإن وفقنا في هدفنا فمن الله التوفيق والسداد .. وإن قصّرنا فمن أنفسنا التي أثقلتها ذنوبها وقعدت بها أغلالها ...
سائلين المولى عز وجل أن يتقبله عملا خالصا لوجهه الكريم ....
في رحاب قصة المصطفى نبي الله آدم (عليه السلام )
الآيات المباركة:
((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين*قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمآئهم فلما أنبأهم بأسمآئهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون*وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين*فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين*فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم* قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون))البقرة: ٣٠ – ٣٨
ترسم لنا الآيات المباركة صورة على قدر عقولنا البشرية المحدودة المشاهد الأولى لخلق الإنسان فتكتب السطور الأولى من تاريخ البشرية .. .. ففي مشهد مهيب .. يأتي الإعلان الإلهي عن ميلاد كائن بشري ..اشتق أسمه من الشيء الذي خلق منه يدعى آدم ..من أديم الأرض من حمأ مسنون ..وتتساءل الملائكة بشغف عن سر العظمة في هذا المخلوق بحيث يكون محلا لكل هذا التشريف الإلهي .. وتلك المنزلة التي لم تحظ بها وهي التي خلقت من نور من طبيعة جبلت على الطاعة المطلقةلقد كان سؤالا استفهاميا ولم يكن سؤال جدل واعتراض فطبقا لما يعلمون من خصائص المادة التي خلق منها هذا الكائن وهي الماء والطين طبيعة قابلة لتقبل أضداد الأخلاق الحسنة والسيئة .. الطيبة والخبيثة وهذا من شانه أن يحتمل التصارع والتنازع مما يقود لسفك الدماء والإفساد في الأرض مما يخرجه من أصل المهمة العبادية مستحضرين صورها العملية : التسبيح والتحميد والتقديس للذات الإلهية وعلى حد علمهم أنهم خير من يقوم بتلك المهمة المقدسة وهم عنها لا يفترون ولا يسئمون ..
هنا لابد من التوقف عند الفارق بين السؤالين سؤال الملائكة وبين سؤال إبليسحول سر تشريف آدم رغم أن السؤالين يدوران حول محور واحد .. فسؤال الملائكة كان سؤالا استفهاميا خاليا من الغرض السيء لذا حين يأتيهم الجواب الإلهي ينتهي الكلام بتسليم مطلق ..في حين كان سؤال إبليساعتراضيا احتجاجيا وقحا (كما سنرى ).. وتأتي قضية الأسماء التي أختص بعلمها آدم بها لتدرك الملائكة حينئذ إن هذا المخلوق يمتلك من الخصائص التي تفتقدها
(قيل) في الأسماء أنها أسماء كل شيء في الحياة من جبل وسهل وحجر وشجر ..وقيل غير ذلك لسنا بصدد البحث فيها ..
لكننا نتوقف عند قضية التسليم بما لا نعلم ..إن كثير من الإشكالات العقائدية والحياتية تحل حين نصطحب تلك القاعدة (( قال إني أعلم ما لا تعلمون)) في حياتنا فكم من الجدل خاضته البشرية بما لا تفقه ولا تعلم وبالرغم من أن إرسال الرسل كان في أولى مهامه هو تعليم الخلق ما يجهلون .. الا إن تلك القاعدة (أعلم ما لا تعلمون ) ظلت قائمة بل أصبحت من الثوابت الرسالية ..وإن الكثير من الأحكام الشرعية ما نجهل فلسفة تشريعها وبالتالي كان التسليم بجهلها من مصاديق الإيمان .
ابليس مخلوق من غير الملائكة دس نفسه بينها وهو ليس منها مخلوق من الجن خلق من نار ..أعجب كثيرا بنفسه وعبادته الذي كان يبالغ فيها كبرا وتفاخرا فحين سمع بأمر المخلوق الآدمي وتشرفه بالاستخلافالإلهي أضمر في نفسه الكبر والحسد لذا حين جاء أمر السجود لآدم (ع) بعدما سواه ربه بأحسن صورة وأفضل تقويم وشرفه بنفخ الروح فيه أعترض بوقاحة رافضا السجود مطلقا تلك المقولة الشيطانية التي ستصوغ فيما بعد النظرية الاستعلائيةالأستكبارية التي يستلمهما أتباعه من بني آدم من فراعنة ومستبدين ((أنا خير منه ))
لقد وقع اللعين في مغالطتين ... لكن قبل التطرق اليهما ينبغي التوقف عند نقطة هامة وهي :
التحاور مع الاخر والسماح له بالتعبير عن آراءه - وإن كانت شاذة ضالة منحرفة – تلك ثقافة يعلمها الباري( عز وجل ) للبشرية وهي تتسلم لواء الإستخلاف كي لا يضطهد الآخر وتصادر حريته في التعبير عن رأيه بحجة بطلان ذلك الرأي وضلاله .. فذلك حق لم يسلبه رب العزة والجلال من عبيده ولو كانوا بمستوى إبليس من عصيان وكفر وجحود لقد سمح الرب (عز وجل) لعبده الغوي ليس فقط بطرح آراءه الضالة بل في أن يكون مجادلا متحديا متوعدا وقحا (كما سنرى لاحقا)...إننا نجد في النصوص القرآنية هامشا كبيرا من حرية التعبير عن الرأي جسده الرسول الكريم وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام ) ولكن ذلك الهامش تقلص كثيرا فيما بعد حتى قتل خيرة المؤمنين على قول الحق بحجة الحفاظ على بيضة الإسلام و المصلحة العامة ..إنها مفارقة لازال أولياء الشيطان متمسكون بها فيما أولياء الله يدفعون ثمنها ..
نعود لمغالطتي إبليس ..
الأولى : لقد كان السؤال الإلهي عن سبب مخالفة الأمر بعدم السجود فيما أجاب اللعين بأنه خير من آدم (ع) ذلك أن عقدة الحسد قد سيطرت عليه تماما فبات لا يفكر الا بها فهو لم يرد على السؤال بل قفز الى ما كان يشكل له هاجسا تقوده نزعة التكبر ورؤية الذات ..
الثانية : أنه قاس المادة التي خلق منها بما خلق منه آدم ..فقاس النار وخصائصها من حيث نورانيتها وسرعة حركتها واختراقها للجدران وصعودها في الفضاءات وبين الطين المادة الأرضية الكثيفة التي لا تتمتع بتلك الصفات على حد زعمه وفهمه ..فهو أول من قاس بغباء ..لقد نظر إبليس الى المخلوق ولم ينظر الى الخالق وأشكل على المنظر وليس على الجوهر و فتن بالأمر ولم يلتفت الى الآمر ..
فاستحق اللعنة الدائمة الأبدية
هنا لابد التوقف مرة أخرى عندمسألة الهبوط كعقوبة مستحقة لأبليس:
1. الهبوط هنا هبوط معنوي كما قال به بعض المفسرين وهو عبارة عن تسافل في درجة الارتقاء بمعنى أن المعصية تستلزم هبوطا معنويا بدرجة تتناسب مع درجة المعصية وفي حياتنا كثيرا تتكرر عملية الهبوط حين نخرج أنفسنا من جنة طاعة الله الى هجير المعصية ونارها .
2.إن منزلة القرب لا يتناسب معها التكبر ورؤية الذات لأنها ستكون حجابا مانعا للعبودية الحقّة .
3.لقد أراد اللعين بتكبره رفع شأنه والعلو بمكانته فجاءت عقوبة الصغار والدونية مناسبة لنزعة التكبر المقيتة ..نفتح هنا قوسا لنقول إن العبد يجب الا يستدرجه الشيطان إن رأى في نفسه صلاحا وعليه دائما استصحاب الذل والأنكسار وأن ينسب ذلك الصلاح لتوفيق الباري (عز وجل ) .
*********
لقد هبط الأثنان آدم وابليس وشتان مابين هبوط الأول والثاني ..فبخصائص الهبوط المتقدمة لإبليس يكون طردا ولعنة وهو يختلف عن هبوط آدم الذي وان كان كعقوبة فآدم لمخالفته الأولى الا انه محطة هامة شكلت قوس نزول نجح آدم في إداء رسالة السماء على الأرض ليرتقي في قوس صعود مرة أخرى ..
**********
بعد صدور الحكم العادل باللعن والطرد ما ذا كان رد إبليس ؟ ..
لقد كان موقفا خبيثا ينبأ عن مدى الشر الذي يحمله ..فهو لم يطلب العفو والرحمة لم يندم بل إنه لم يعترف حتى بذنبه و كان من الوقاحة بحيث أنه نسب غوايته للذات المقدسة فيكون أول من قال بالجبر على المعصية ..
هنا وقفة أخرى عند ثقافة الاعتراف بالذنب وشجاعة تحمل المسؤولية عن الخطأ وطلب العفو..
فبعض أولياء الشيطان من الأنس حين يقترفوا الخطأ فإنهم و بدلا من الاعتراف بأخطائهم نراهم يعلقون سبب هذه الأخطاء على القدر أو أن الله لو أراد بهم خيرا لوفّقهم أو على الحظ السيء.. وقد يحمّلون ضحايا جرائمهم مسؤولية أفعالهم .. ولايخفى ما في ذلك من مخالفة شرعية عظيمة تنطوي عل اتهام مبطن للعدالة الإلهية وإتباع لمنهج إبليس التبريري .
********
ويدفع آدم نتيجة خطأه الفاحش .. ويستغل اللعين لطف الباري (عز وجل ) وحلمه و بالغ كرمه فيطلب أمرين : الإمهال والتمكين من بني آدم ..فيمهله الحق (تبارك وتعالى) الى حيث الوقت المعلوم وليس الى اليوم الذي طلب وهو يوم يبعثون ويمكنه من بني آدم بحيث يسري مسرى الدم في العروق ..فيفرح اللئيم بغروره المعتاد يدفعه حقده على آدم وذريته ..ويقسم بعزة الله ليغوي جميع ذرية بني آدم مستثنيا عباد الله المخلصين مقرا معترفا بعجزه عن إغواءهم .
هنا لابد أن نطيل وقوفنا لنتدبر بعض الحقائق الإيمانية والمعرفية في حوار إبليس مع الجليل الأعلى لكن قبل ذلك لابد مقدمات بسيطة نستهلها بهذا البحث المقتضب :
إبليس اسم جنس للمخلوق الذي خلق من مارج من نار وهو من الجن وهو من قام بمعصية عدم السجود وإغواء آدم (ع) وسمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله بعد أن استحق اللعنة الأبدية ..أما الشيطان فمشتق من لفظة شطن وهو البعيد عن الخير كثير الزيغ و الانحراف وهو لا يختص بالجن بل يمكن أن يكون إنسيا ..
لقد تولدت في أذهان الناس صورة محددة للشيطان تمثلت بصفات خلقية بشعة وارتبطت لفظة الشيطان بذلك المنظر القبيح الدميم والمشوه وكان من شأن ذلك التصور أن يحدد وجود اللعين في نطاق وشكل معين.. في حين أننا نرى الشيطان الإنسي في لباس جذاب وشكل جميل وأنيق يتناقض مع الصورة البشعة للشيطان .. تلك نقطة وإن بدت هامشية ولكنها جوهرية للتعامل مع هذا الشرير وأولياءه فمثلما يكون الشيطان قبيحا وهو كذلك فإنه قد يأتي بصور أخرى منمقة وجميلة كنجوم السينما والتلفاز وأصحاب المنكر والشذوذ.فالعبرة بالسلوك والأثر .. لا بالصورة والشكل .
أيضا .. فإن تأثير وإمكانية الشيطان قد تعرضت هي الأخرى لتصورات فيها الإفراط والتفريط ..فالبعض قد هوّل من قدرة اللعين وأعطاه حجما كبيرا.. صوره كقوة خارقة متحكمة مخيفة.. والبعض الآخر قد استهان به وبدوره وتغافل عنه ولم يحترس منه بما يكفي فوقع في مصيدة اللعين الذي راح يستدرج هؤلاء بمكائده حتى أوقعهم في شراكه ..
في حين أن من كان على بصيرة من أمره قد أعطى لعدوه الحجم الحقيقي وفق المنهج القرآني الذي حذرنا من اللعين وأمرنا بالاستعاذة منه والاحتراز منه دائما وفي كل حين ولا نغفل عن كيده لأنه لا ييأس منا بالوقت الذي وصف كيده بالضعيف وإن حدود سلطانه على الذين يتولونه .
خصائص العدو :
1. إن الشيطان زائر وإن كان خبيثا ولكنه لا ياتي دون دعوة رسمية توجه له من قبل الإنسان ذاته .
2. إن وجود الشيطان في الوجود ليس سلطان جبر على المؤمن المرتبط بالله تعالى بل أن بعض العلماء ذكروا ان في وجود الشيطان قد يكون رحمة بلحاظ أنه يدفع الإنسان نحو شحذ همته وحث الخطى في درب الفضيلة وتزكية النفس وارتقاء سلم العروج .
3. إن اللعين لا ييأس من بني آدم بل يستمر أمله في إغواءه حتى الرمق الأخير من عمر الإنسان وهو دائم البحث عن ثغرة أو غفلة ينفذ خلالها .
4. إن الشيطان يسير طوليا مع رغبات النفس الدفينة والغرائز المكبوتة وهو بذلك يخفي صورته بهوى النفس وبقدر مجاهدة الإنسان لنفسه يكون تحسسه للثغرات التي يمكن أن ينفذ من خلالها الشيطان وأية صورة يتخذ بدون تلك المجاهدة والهوى تكون محاربة الشيطان عبثا والاستعاذة منه مجرد خداع للذات ولعنه محض هراء .
علاقة الشيطان بالنفس البشرية
خلق الإنس والجان من طبيعة أودعت فيها القدرة على الطاعة والمعصية ..والنفس تتطبع بطباع الخير والشر ويقسمها أهل العلم الى ثلاثة أقسام ..النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمّارة بالسوء ..وإن كان هناك رأي سليم يعتبر النفس البشرية ( عدا من عصم الله واجتبى ) واحدة تمر عليها تلك الأطوار الثلاثة فقد تتحول النفس الأمارة بفعل التوبة الصادقة والتزكية المستمرة الى نفس لوّامة التي تتحول بفعل المجاهدة الى نفس مطمئنة وقد يمر الأنسان بالأطوار الثلاثة وقد يقف عند طور النفس اللوامة – وهو ما عليه غالبيتنا- وقد يحدث في حالات نادرة واستثنائية في التاريخ البشري أن تنقلب فجأة النفس الأمارة الى نفس مطمئنة بعد أن تصعق بنور الحق .. وإذا كان الشيطان قد أقر بعجزه من الاقتراب من أصحاب الأنفس المطمئنة .. وأطمأن لضلال وإضلال الأنفس الأمّارة بالسوء فإنه حصر مهمته ووظف كل إمكاناته لحرب ومحاربة والكيد بالأنفس اللوامة والتي عليها غالبية عباد الله فبين الإنسان ذو النفس اللوامة والشيطان تدور معركة شرسة وقاسية فكلما تمكن اللعين من الإنسان وحرفه عن الخط المستقيم انتبهت النفس من غفلتها واستيقظت لتتوب وتستغفر ربها الرحيم وهكذا تكون الحرب سجالا كّر و فرّ .
لقد استعان عدو الله بحليف قوي خائن من ذات النفس البشرية ليساعده في مهمته القذرة إنه الهوى فراح يعزف على أوتاره ليهلك الكثيرين ويفسد عليهم أجواء عبادتهم أو ينغص عليهم حياتهم الدنيوية و الأخروية ..
لنلاحظ أن إبليس قد تمكن من آدم بمداعبة غريزة حب البقاء وحب العز الدائم وهما قمة ما يسعى له بني آدم في الدنيا .
فالشيطان يسير مع هوى النفس يزين لها القبيح فإن لم يجد الهوى اصطنعه والهوى مثلما يكون في المعصية يكون في الطاعة..وهذا يقودنا للتطرق للموضوع التالي :
نماذج من صور وجود الشيطان في حياتنا
الشيطان عدو خبيث لا يهمه كثيرا المجال الذي يحضر به لغواية الإنسان المهم لديه أن يحرف بن آدم عن النهج القويم .. لذا يرى بعض العارفين أن ذلك المعيار يصلح أن يكون معيارا للتفرقة بين وسوسة النفس وبين وسوسة الشيطان .. ففي حين أن النفس تدور في فلك رغبتها الشاذة ولا تغادره فتلّح على صاحبها برغبة محددةيألفها ويستمر عليها وكلما تركها عاد اليها.. نجد أن الشيطان لا يقف عند معصية محدده ما يهمه هو أن يعصى الله وبأية كيفية ويمكننا ملاحظة بعض الصور لوجود الخبيث في حياتنا:
1. في محيط الصالحين وإن كان وجوده هامشيا ـ كما تقدم ـ ولكنه يحاول استغلال هذا الوجود المزعج بإفساد الأجواء المحيطة بهم أو شحن محيطهم الاجتماعي بالمنغصات وتأليب الأعداء عليهم أو إنساءهم الأولى .
2. يحاول صد المؤمنين الملتزمين بمبادئ دينهم عن تأخير الواجب أو عدم الإتيان به على صورته المثلى أو عدم القيام بالمستحبات واجتناب بعض المكروهات أو تعظيم عملهم الصالح في أعينهم أو تقليل أخطاءهم بنظرهم مقارنة بما دونهم أو يفسد أعمالهم بالرياء وحب الشهرة .
3. يحاول صد بعض المؤمنين عن الإنفاق في سبيل الله فيبخلهم ويذكر لهم عواقب الإسراف ويستعرض لهم نماذج لبعض الذين افتقروا من كثرة التبذير فينمي فيهم الحرص أو يصرفهم عن الأوجه المناسبة للإنفاق فنجد البعض ينفق الكثير من الأموال في غير الوجهة المناسبة أو أنه يحاول أن يدخل الهوى في ذلك الإنفاق فيبطل النية ويحولها الى رياء .
4. في مجالس العلم يحضر اللعين مفسدا الأجواء العبادية للعالم والمتعلم .. فالعالم إن لم يكن محترسا يغريه بالعجب بعلمه وحسد من فوقه أو قهر من دونه أو يصرف جهده نحو مناظرات عقيمة يقصد منها إظهار مقدرته فيكون بذلك قد صرفه عن مهمته الأساسية ..وبالنسبة للمتعلم قد ينمي اللعين بذرة الاستنكاف من طلب العلم وعدم الاعتراف بالجهل والعزوف عن الترقي في طلب المزيد والاكتفاء بما لديه أو عدم قيامه باحترام معلمه أو صرفه لتعلم علوم لا ينفع تعلمها ولا يضر الجهل بها .
5. في منزل الزوجية أكثر ما يكون الشيطان حيث يولد الخلافات بين الزوجين ويعمق بينهم الشقاق بمسائل يفتعلها حتى ينتهي الأمر بين الزوجين إما بالطلاق أو العيش بجحيم النزاعات لا يدفع الأبناء ثمنها وحدهم بل المجتمع بشكل عام وهو غاية ما يتمناه عدو الله .
6. إفساد العلاقاتالاجتماعية من تضخيم الخلافات وإذكاء روح التنافس غير المشروع بين الأفراد وتكوين جدران عدم الثقة بينهم وتنمية النزعة الأنانية والحسد والصراعات وتسميم الأجواء ولأسباب وهمية يفتعلها اللعين.
7. إفساد العلاقات الاقتصادية بإشاعة المعاملات المحرمة كالربا والقمار والكسب غير المشروع وتقليل الهامش بين الحلال والحرام بالتوسع في الشبهات والتساهل فيها .
8. إفساد العلاقات الدولية وخلق قوى للاستكبار العالمي تتحكم في مصير الشعوب .
9. إشاعة ثقافة الانحلال الأخلاقي بأنواعه ووسائل اللهو والإلهاء عن طريق الفن والرياضة( بعد حرفهما عن مسارهما الطبيعي ) و تسهيل وسائل الاتصال غير المشروعة .
ما تقدم نماذج فقط لصور تواجد اللعين وجنوده من الجن والإنس وبإمكان القارئ الكريم أن يستعرض بذهنه مئات الصور الأخرى وكقاعدة فإن أي انحراف أو تحريف أي سوء وفساد وإفساد أي قبيح أو خلق ذميم يوجد خلفه نفس أمّارة بالسوء وشيطان خبيث ..
السبيل لمواجهة الشيطان :
بعد ما تقدم قد تبدو المواجهة صعبة مع الشيطان وأن المعركة ليست متكافئة ولكن بالرجوع الى الصلاحيات والحدود المفروضة على عدو الله يتبين الأمر غير ذلك .. فالشيطان كما قلنا ليس له سلطان الا على الذين يتولونه وبالتالي هو غير مسلط على الإنسان ما لم يسلطه الإنسان على نفسه ..فالعمل اختياري فبإمكان الإنسان أن ينأى بنفسه من تأثيره بل وأكثر من ذلك أن يحول وسوسة الخبيث الى دافع نحو سد الثغرات التي ينبه عليها الشيطان وبالتالي يكون معينا على تزكية النفس ثم أن المؤمن يجد لذة كبيرة في كل مرة ينتصر على خصمه اللدود .
أما إذا نزغ الشيطان للمؤمن الذي تهاون في أمر الاحتراز من عدو الله وعدوه .. فإن هناك سلاحا فعالا ومؤثرا زود به الإنسان في معركته وهي الاستعاذة منه بالله السميع العليم يلوذ بهذا الحصن المنيع الذي لا يجرؤ كل شيطان مارد من التفكير بالاقتراب منه فيصبح المؤمن في ملاذ آمن بشرط أن يلتزم بضوابطالاستعاذة الشرعية .. الاستعاذة تعني الدخول في دائرة النور التي تعمي بها أبصار الشياطين الباحثين عن العتمة .. فإن لم يستخدم الإنسان ذلك السلاح أو لم يحسن استخدامه ووقع في حبائل الشيطان كان السبيل الأرحب كانت التوبة و الاستغفار العلاج الذي يذهب بالداء لكن هنا لابد أن تكون التوبة متحققة بشروطها الشرعية وأهمها أن تكون توبة صادقة نصوحا و الإ كانت استهزاءا ( والعياذ بالله) و التوبة بلحاظ مداها الواسع لرب رءوف رحيم كانت السلاح الذي حسم الصراع تماما لصالح الإنسان الذي يتلمس الطريق الى الهداية أما ذلك الشقي الذي أوصد الأبواب فعاش باختياره مع شياطينه فقد أقيمت عليه الحجة البالغة .. وإضافة الى الاستعاذة والتوبة هناك دعاء واستغفار الملائكة التي أوكلت اليهم تلك المهمة فهم يستغفرون للذين آمنوا وهناك ملائكة حافظين وملهمين ومسددين..
عودا على بدأ :
نعود الآن لحوار إبليس والنبرة الوقحة التي تكلم بها مع الجليل الأعلى .. هنا يمكن ذكر بعض النقاط:
1.إن الشيطان لم يخلق للشر كما يلتبس على بعض الأذهان التي تأثرت بثقافات غير إسلامية بل إنه هو من اختار طريق العصيان والغواية بإرادة تامة وسبق إصرار منه حيث إن الله خلق الجن والإنس وكان من طبيعتهم الاختيار بين الطاعة والمعصية .
2.إن الشيطان مخلوق خلق بإرادة الله تعالى وهو ليس بخارج عن حكمه وأمره .
3. ليس للشيطان سلطان قهر على البشر بل إغواء وتزيين وإغراء بالمعصية .
4.إن إبليس لم يكن ينقصه العلم والاعتقاد فهو يعلم ويعتقد بالله خالقا وقادرا وهذا يتبين من خلال كلامه فقد أقسم بعزة الله وخاطب الحق ب(ربي )وطلب من الله (عزوجل ) الإمهال الى يوم يبعثون مما يعني أن العلم والاعتقاد ليسا كافيين للهداية لمنهج الحق .
5. إن إبليس برفضه السجود فإنه رفض الامتثال للأمر الإلهي وليس السجود لآدم وإن كان السجود لآدم كان المظهر الخارجي للمعصية ، فقد نظر اللعين الى المأمور به ولم يلحظ الآمر الحكيم .
6. إن في رفضه السجود إخراج لنزعة كبر باطنية حاول إخفاءها فأظهرها الحق (سبحانه) في ابتلاء الأمر بالسجود .
7.لقد أعتبر اللعين آدم سببا في غوايته ولم ينسب الخطأ لنفسه فيكون أول من قال بالجبر و أنه مجبور على المعصية .
8. السلاح الرئيس والأساس لدى الشيطان هو التزيين ومن ثم الإغواء .
9. إن أولياء الله تعالى وعباده المخلصين في دائرة النور الإلهي لا سبيل للشيطان من الإغواء أو التأثير عليهم إلا في وجود هامشي ونطاق ضيق جدا من التزيين الذي يثير السخرية كما في بعض الروايات التي تذكر بعض المحاولات البائسة والخائبة مع بعض الأنبياء (عليهم السلام)..
10. إن شياطين الإنس تقاتل بنفس الخندق مع شياطين الجن ويستخدموا ذات الأساليب الخبيثة لحرب قيم الخير والصلاح .
11. إن الوسوسة وهي الصوت المنخفض الداعي للريبة هي وسيلة الإغواء الشيطاني وهي تلازم الدنس والنوايا السيئة بعكس الحديث عن قيم الخير الصلاح الذي يكون على شكل صوت واضح النبرات مرتفع .
12. لإن الشكر العملى العنوان للعبادة الحقة فقد جعل الشيطان من الصد عنه هدفا نهائيا له ويقصد بالشكر العملى هو استعمال كل نعمة لله تعالى في الغرض الذي خلقت له وحسب المنهج الإلهي الذي شرع لها ، سواء تعلق الأمر بالإنسان في روحه وجوارحه أو كان الأمر متعلقا بعناصر الطبيعة من حوله .
13.إن الصراط المستقيم هو الذي يعني الشيطان أما الطريق المنحرف الملتوي فلا يعتني الشيطان بسالكيه سوى زيادة ضلالهم ومنعهم من التفكير بالعودة الى جادة السواء لذا نجد الشيطان وأولياؤه متربصين حول دور العبادة يصدون عنها وعند مشاريع الخير ولإصلاح يثبطون الهمم عن الإشتراك فيها ، وفي مجالس المؤمنين يفسدونها باللغو والغيبة والنميمة وصرفها عن أوجه الخير .
جولة الصراع الأولى كما يصورها القرآن الكريم :
تبدأ المرحلة الأولى من الصراع بين الشر والمعصية متمثلا بإبليس وبين الخير والفطرة والبراءة متمثلا بآدم وللأسف فإن الغلبة كانت فيها لعدو الله .. آدم الذي أسكن الجنة (ليست الجنة التي أعدت في الآخرة ثوابا للمطيعين ) أباح له الباري (عز وجل ) أنواع المباحات وحرّم عليه وعلى زوجه شجرة واحدة اختبارا لهما .. يتربص عدو الله لآدم ليوقعه في المحظور الذي نهي عنه ليثبت اللعين صحة ما كان يدعي من عدم لياقة آدم بالتكريم الإلهي وأنه خير منه أخذ يكيد لآدم الذي يجهل بمكر وخبث عدوه .. فراح اللعين يتقرب من آدم وزوجه يوسوس لهما بصوت خفيض ماكر عازفاعلىوتر المكانة والجاه ووتر الخلود وهما قمة ما يحرص عليهما آدم الإنسان .. في بادئ الأمر امتنع آدم ولم يصدق كلام اللعين لقد أزال كل تردد نفسي لدى آدم وزوجه حين أقسم لهما أنه لهما ناصحا حينئذ وقع آدم في الفخ و تمت الخديعة الأولى في تاريخ آدم وبنيه فذاقا من شجرة التحريم _ مجرد تذوق _ فبدت لهما سوءاتهما وكانت قبل ذلك مخفية عنهما ..فعاتبهما الباري (عز وجل ) العتاب الذي أوقع أذى نفسي بالغ على آدم وزوجه النادمين أشد الندم.. تابا الى الله تعالى وأقرا بذنبهما لكن تلك التوبة وإن قبلت لكنها لم تمح الأثر الوضعي المترتب على معصيتهما فهناك فرق بين التوبة من الذنب وترتب الأثر الذي يتركه ويذكر العلماء تفاصيل في ذلك لسنا بصدد الخوض فيها .
لقد قضى الله امرا كان مفعولا وحانت الساعة التي خلق من أجلها آدم ليكون خليفة في الأرض .. بدرس كبير لآدم وبنيه من بعده هو الدرس الأول والأهم بعد أن عرف عدوّه جيدا وتعرف على أساليبه وخدعه ومكره لينتقل ميدان المعركة الى الأرض ولكن لأجل مسمى و يغرق آدم في بحر أحزانه وأشجانه وهو يقاسي تأنيب الضمير ومعصية ربه ومخالفة أمره وإذا كان هذا العذاب النفسي لآدم فإنه كان يعاني من قسوة الطبيعة الجديدة التي لا يعرفها ولم يتعرف على قوانينها لقد شقي بالفعل وهو يواجه صعوبات الحياة الجديدة عاش آدم آلام الجوع وأجواء الحر والبرد وظروف الطبيعة الجديدة ومع كل ذلك أنزل بصحبته عدو لئيم ماكر مخادع نجس رجس يكيد به لا يتعب ولا ييأس ولكن آدم الذي يحمل الفطرة السليمة لم يستسلم للقدر الذي أراده له عدو الله وعدوه فراح يبكي ويدعو ويبتهل ويلح بالدعاء ويصدق التوجه حتى جاء الفرج من رؤوف رحيم من رب لا ينسى عبده إذا اخلص الدعاء بعد أن علمّه كلمات التوبة كلمات توسل بها قيل إنها أسماء الأنوار الخمسة لأهل الكساء (عليهم أفضل الصلاة والسلام ) وقيل أنها دعاء آخر . فتاب الله عليه فكانت فرحة عظيمة غمرت كل كيان آدم وزوجه فيما وقعت تلك التوبة كالصاعقة على رأس الخبيث الذي كان يأمل بأن يدوم شقاء آدم ومن بعده ذريته بالمعصية .
بدء مهمة الاستخلاف :
آدم وحواء ينزلان الى الأرض حيث مكان استخلافهما وامتحانهما يتعرفان على طبيعتها ويؤسسان الخلية الإنسانية الأولى ويقيم آدم الحكومة الأولى متسلحا بالخبرات القليلة التي تعلمها ويرزقان بالذرية .. فيغرس آدم النبي المبادئ الأولى لحياة البشر الوليدة عبادة الله الواحد الأحد وأن لا يُشرك به شيئا والإيمان برسالات السماء والإيمان باليوم الآخر .. والعمل بمنهج الاستخلاف كما علمه الله تعالى ..
وقفات تأمل :
( 1 (
((وياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)) الأعراف19
في الآية الكريمة يمكن أن نلحظ :
• إن العهد كان لآدم دون حواء مما يشير الى طبيعة المهام الموكلة على عاتق كل منهما ، ولأنه مسؤولية وأمانة عظمى بالتالي يتطلب العزم وقوة التحمل .
• لقد كان تحذير إلباري (عز وجل) لآدم بعدم الاقتراب من الشجرة فضلا عن تذوقها لإن الطبيعة البشرية ما إن تقترب من المحذور حتى تقع فيه .
• إن الله (سبحانه وتعالى) أباح لآدم كل شيء سوى الاقتراب من الشجرة المحرمة مما يدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة وما حرم هو الاستثناء الذي حرم لغاية الاختبار والفتنة .
(2)
قوله تعالى :((فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطآن لكما عدو مبين))الأعراف22
يمكننا تأمل ما يلي في الآية المباركة :
• عبارة (فدلاهما ))هنا تصوير دقيق ومبهر كأنه يصور لنا آدم على حافة هاوية المحرم مما يعني أن الشيطان قد قادهما متبعين خطواته بالتزيين والإغواء حتى وقفا على الهاوية وفيه اشارة الى إن كل من آدم وحواء قد وقعا في فخ اللعين لا كما يصور في الأدب الشعبي من أن حواء هي من ساعدت على إغواء آدم .
• إن مجرد التذوق وانتهاك حرمة الأمر وكسر الحاجز النفسي للمعصية يعني الوقوع في المحذور فاستحقا عتب ولوم الرحمن .
• السوءة هي العورة ما يستتر ولا يريد لأحد الإطلاععليها..لقد كان آدم وزوجه يتمتعان بلباس التقوى الذي يستر عنهما سوءتهما قبل أن ينتهكا الخط الأحمر ويقعا في المحظور ..إن أمر كشف العورة وإن كان ماديا بصورته ولكنه معنويا بدلالته فانتهاك ما حرّم الله يسلب من الإنسان غطاء وستر التقوى الذي يستر عورته وحرمته التي كانت مصونة بحجاب الالتزام بالمنهج ..وحين انكشفت عوراتهما راحا يسترانها بالفطرة المودعة فيهما مما يدلل على ضرورة التستر بعد انكشاف العورة ( حقيقية أو معنوية ).
• لقد كشف لنا الباري (عزوجل) الأسلوب الماكر للشيطان وكيف أنه يحاول أن يهتك ستر العورة المستترة بلباس التقوى وإنها المرحلة الأولى في الغواية إذا فشل الإنسان في الحفاظ على ستر عورته سقط في المحذور وانتهك الحرمات الأخرى .
(3)
قوله تعالى :((وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين )) الأعراف21
إن الإنسان بفطرته يميل الى الإعتقاد بالقسم لذا نجد حتى من لم يكن مؤمنا يعتقد بالمواثيق فالقَسم يولد ثقة واطمئنان نفسي من المقابل، وكلما كانت الفطرة نقية صافية كان الوثوق كبيرا .. آدم بنقاء فطرته وصفاءها لم يكن يعتقد ـ بحكم عدم وجود التجارب الحياتية لديه ـ أن هناك من يجرؤ على القسم بالله كذبا فخدع بحسن ظنه الذي لم يكن بمحله تماما.. وبإسقاط ذلك على واقعنا نرى كم من بني آدم خدعوا بأقسام كاذبة من شياطين الإنس . وعلى كل حال لم يكن ذلك عذرا كافيا آدم بعد أن حذره العزيز الحكيم من عدوه ومكره .
(4)
((قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)) الأعراف24
1. يهبط آدم ومعه حواء ويهبط ابليس ولكن شتان ما بين الهبوطين هبوط آدم وحواء مصحوب بندم وتوبة صادقة وهو قوس نزول يعقبه قوس عروج وصعود لدرجات التكامل بعد اكمال الرسالة فيما هبوط ابليس بداية تسافل وانحدار نحو دركات الغضب الإلهي .. ليعطينا درسا كبيرا نتعلمه من أبينا آدم ( ليكن هبوطنا نقطة انطلاق لرحلة تكاملنا ) ..
2. الهبوط هنا قد يكون ماديا وقد يكون معنويا وقد يصدق الأمران معا ..ورغم قسوة وألم ما ترتب على الهبوط المادي الا أن الهبوط المعنوي من جنة القرب كان أشد وقعا على نفس آدم الذي حرم من خيرات الجنة المعنوية التي كان ينعم فيها ولكن مما يخفف وطأة هذا الحرمان على نفسه هو أمله بالرجوع الى جوار محبوبه في جنة الخلد الأبدية ...
(5)
)) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) المائدة 27
من الأحداث الهامة التي وردت في قصة البشرية الأولى كانت القضية رقم (1) في تاريخ الأنسان على هذه المعمورة كانت أول حادثة جنائية عمدية الجاني كان قابيل التي أخذ الدروس الأولى من عدو الله ابليس وأعانته على ترجمتها الى فعل شيطاني نفسه الأمّارة بالسوء ليفتتح سجل الأجرام البشري .. ولعل ما يميز هذه الجريمة:
- أنها كانت أسرية حيث وقعت في محيط أول كيان أسري بشري بين أخوين شقيقين ...
- دافع الجريمة كان سيئا ودنيئا ويلخص جوهر صراع بني آدم في كل العصور كان الحسد والحقد والغيرة فلو نظرنا لحقيقة دوافع القتل لما تعدت مثلث الإجرام هذا( الحسد- الحقد - الغيرة )..
الجريمة نتاج عوامل تتراكم وهواجس اجرامية تتفاعل لحظة ارتكابها هي لحظة الذروة التي تصل اليها بتنفيذ الفعل المادي أما ركنها المعنوي فهو قائم ومتحقق قبل ذلك بكثير فباستثناء الجرائم التي تحدث بانفعال نفسي مفاجئ تقوم الجرائم العمدية التي يسبقها اصرار وتحضير للجريمة على تهيئة نفسية واستعداد وذلك بتمهيد وتقبل لفكرة الجريمة فعبارة (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) يعجز الوصف عن سبر أغوارها وهي تمثل أهم نظرية لعلم الإجرام النفسي حيث أن الجاني (حين يرتكب جريمته الأولى ) مهما بلغت درجة اجرامه يعيش صراعا نفسيا بين فطرته الرافضة للشر والتي أودعها الباري (عز وجل) في نفسه وبين النفس الأمارة التي يعينها الشيطان ..والتطويع كما هو اقتراب تدريجي نحو الفعل تبدأ بوسوسة ثم بهمّ ثم ارتكاب الفعل بمعنى آخر أن الفعل المنافي للفطرة لا يمكن أن يرتكبه الأنسان سواء أكان الفعل أخلاقيا أو جنائيا الا بعد تخطي الحواجز النفسية الفطرية وهذا جل عمل الشيطان الذي يزين للنفس أمرا وهميا بالمطلق أو في جزء منه لتتفاعل معه لتنتج أثرا خارجيا سلوكا منحرفا لصاحب النفس الذي يطيعها حين لا يمتلك الرادع المؤثر أو الكابح والذي يتلخص في التقوى ومخافة الله عز وجل .
نعود الى سبب الجريمة المباشر وهو وإن بدا غريبا ولكنه حدث ويحدث فجرائم التاريخ الكبرى قامت على الحسد كيف يتقبل الله من المتقين وبدلا من إصلاح أنفسهم يقوم الفاسدون والمفسدون بقتل الصالحين كي يتخلصوا من وجودهم المادي في الحياة وان لم يتمكنوا من التخلص من وجودهم المعنوي الذي يزداد تأثيرا بعد رحيلهم .. حدث ذلك مع قابيل الذي يشعر أرقّه وجود هابيل بنقاء فطرته التي لم تلّوث .. هو شعور ينتاب الفاسدين أكبر من الحسد والغيرة إنه شعور بالدونية والتصاغر واحتقار الذات كل ذلك وغيره يدفع المفسد بالأنتقام والنيل من الصالح لتعويض ذلك الشعور .. ولا تعوزنا الأمثلة على ذلك بالأمس واليوم وغدا ويكفينا بالحسين بن علي (عليه السلام ) ومن سار على خطاه ويزيد بن معاوية ومن استن بسنته مثالا يختزل كل الأمثلة ...
ولعل السؤال الذي يستدعي التفكر .. لماذا حمّل قابيل أخيه مسؤولية عدم تقبل قربانه .. ما هي علاقة هابيل بقضية تقبل أو عدم تقبل القربان أصلا ؟
حاول بعض المفسرون الإجابة بأن قابيل أتهم أبيه آدم بمحاباة هابيل بالدعاء له بتقبل قربانه وعدم الدعاء لقابيل .. لكن ذلك لا يجيب على السؤال : ما هو ذنب هابيل تحديدا .. ما هو ذنبه بتقبل قربانه ؟ الذي نراه ما قدمنا له من عدم التقبل كانت لحظة الذروة التي فجرت الإنتقام إذ أن هناك تراكمات لصراعات نفسية كان يعيشها قابيل حقدا وحسدا وغيرة على أخيه.. القضية تحتاج لمناقشة علمية في علم النفس كي تتضح معالمها
وعلى مر التاريخ دفع المصلحون ثمن صلاحهم ودعوتهم للإصلاح .. ولا ذنب لهم الا أنهم قالوا ربنا الله رافعين لواء الدعوة الى الله والصلاح لم ينافسوا في دنيا ولا سلطان ولكن مجرد تلك الدعوة الى الله كان المجرمون والمفسدون يشعرون أنها موجهة ضدهم تكشف قبح أنفسهم التي دنسوها وطمسوا فطرتها .. وأن دعوة الإصلاح تضيق عليهم المدى لعالم فسادهم وإفسادهم ... بناءا على ذلك فإن دافع جريمة قابيل وإن كان عدم تقبل القربان مظهرها الخارجي الا أن سببها الحقيقي كان نتيجة تراكمات نفسية كان يعيشها المجرم هيأت جو ارتكاب جريمته ..
(( لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) المائدة 28
بعد أن قرر قابيل قتل أخية ماذا كان رد الضحية ؟ لقد كان ردا ردا عجيبا يلخص لنا الفارق بين دنيا المجرمين وأصحاب رايات الانحراف ودنيا أهل الله والداعين اليه .. قال ( ) ليؤسس مبدأ التعامل مع الخصم الباغي بسط اليد للقتل سوف لا يقابله بسط اليد للقتل وهنا يبرز السؤال حري بنا أن نتوقف عنده .. مالذي كان يقصده هابيل الضحية تحديدا هل يعني أنه سوف لا يدافع عن نفسه وأنه سيستسلم للقاتل أن يقتله .. بالتأكيد الجواب كلا فالعقل والفطرة يرفضان ذلك فمبدأ الدفاع عن النفس مبدأ شرعي علينا إذن ان نعيد قراءة العبارة القرآنية بدقة ( لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) إن الذي رفضه هابيل هو بسط اليد للقتل لأنه يتنافى مع الخوف من رب العالمين هنا الأمر يتعلق برادع نفسي هو الخوف من الله حتى وإن ملك القدرة على الرد بمعنى أدق أن المؤمن بحركته وسكونه ضابطه ليس نفسه وشهوة الرد والإنتقام لديها وإنما رضا ربه لأنه يؤمن بعالم آخر وجزاء آخر وحتى في رده فإنه محكوم بعدم تجاوز حد الدفاع المشروع عن النفس ..
((فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)) المائدة 31
في صورة بالغة الدقة والتأثير ترسمها الآية الكريمة لغراب وهو طائر له رمزيته في الأذهان يبحث في الأرض ليدفن شيء ما ليلتقط قابيل الإشارة وينتبه الى أمر فطن اليه حيوان طائر كالغراب لم يتفطن اليه (هو) رغم امتلاكه العقل فيأخذه الندم ويلوم نفسه لعدم فطنته وعبارة (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ) فيه دلالة أن قابيل كعادة كل المغرورين قد ركز شخص الفاعل الذي استخف به وهو الغراب ولم يركز على ماهية الفعل وهو مواراته للشيء والسبب إن قابيل بضعف ايمانه قد نسب الفعل للغراب ولم يفقه الى من بعث الغراب وهو مسبب الأسباب .. فالنملة والهدهد والغراب كلها كائنات تبعث برسائل تعليمية للبشرية في سيرها نحو كمالها .. فلو سأل قابيل نفسه من أرسل الغراب ؟ لعرف أنه الله تعالى وأن الغراب نفسه لا يعرف أنه مرسل برسالة تعليمية لقابيل .. هنا نفتح قوسا لنقول ..أن البشرية في رحلة سيرها التكاملي تمر بأطوار تعليمية بأسباب لا تدرك أن الله تعالى هو منشأها تماما كالغراب الذي سيعلم البشرية كيف تدفن موتاها وكقابيل الذي نسب الفعل الى الغراب .. فمن اكتشف الكهرباء وقانون الجاذبية والنسبية وجميع الأكتشافات الحديثة لا تخرج عن أسباب مقدرة كل ما يفعله البشر هو إفساد تلك الأكتشافات بسوء الأستعمال ...
كذلك .. فكلمة ليريه .. تبرز أهمية الحس والتجربة وعدم اكتفاء الأنسان بالعلوم النظرية والمعارف التي يتحصل عليها بالتفكر ..و قد حث القرىن الكريم في أكثر من مورد على تدبر الإنسان في المخلوقات من حوله ..
قبل أن نغادر جريمة قابيل فعبارة ( فأصبح من النادمين ) تدل على أي مدى وصل اليه هذا المجرم فهو لم يندم على قتل أخيه ( مع أن بعض المفسرين من لم يستبعد أن ندم قابيل يجوز حمله على قتل أخيه لكن ظاهر لا يوحي بذلك بقرينة ( أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب )...) لقد كان ندم قابيل أن كبرياءه قد جرح واستنكف أن يكون أقل معرفة من الغراب ولو قدر للغراب أن يفصح عن مشاعره لأستقبح مقارنته بقاتل لأخيه ..ولعل البعض ممن يتشبه بقابيل لا يأسف لضياع دينه ولكنه ينتفض إن انتقص من قدره في الدنيا ...
وتخطو البشرية أولى خطواتها :
حين قربت وفاة آدم (ع) كان لابد من وصي يحمل السر ويرفع لواء الرسالة ويوقد شعلة الإيمان كلما حاول شيطان ماكر إطفاءها ..فأوصى الى هبة الله (شيث).. الذي صلى على جثمانه الطاهر بعد أن غسلته الملائكة .. لتختم حياة أبو البشر وأول أنبياء الله ورسله بعد أدى الأمانة على أكمل وجه لتنطلق بعده المسيرة ويستأنف الصراع الذي لم يتوقف بين الشيطان وأولياؤه وذرية آدم ليشقى من سلك الشقاء ويسعد من قهر نفسه والشيطان وسار على نهج آدم .
في رحاب قصة نبي الله نوح (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات المباركة :
(( واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ))يونس: ٧١
((ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا)) الإسراء: ٣
(( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا)) الأحزاب: ٧
(( ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)) الصافات: ٧٥
(( سلام على نوح في العالمين)) الصافات: ٧٩
مقدمة :
من أهم صفات الداعية الى الله ( سبحانه تعالى ) هو الصبر ..والثبات على المبدأ..والجدية في تبليغ الرسالة الى أقصى الحدود .. هو صراع حتى آخر الأنفاس مع الآخر الذي لا حدود لعناده ..معركة الرسل مع أقوامهم لم تكن معركة جولات تتخللها استراحة للمقاتلين أو مساومات على أنصاف الحلول ، مثلما لم تكن دعوات تبحث عن انتصارات وهمية مؤقتة .. قد تطول تلك المعركة أو تقصر بحساب الزمن .. قد تختلف أنماطها وتتغير .. قد تتعدد بيئاتها .. لكن مبدأها واحد .. شعارها واحد .. هدفها واحد ..
ما حدث مع نبي الله نوح (ع) كان استثنائيا من حيث طول مدة الرسالة ومدى الصبر والثبات الذي ليس له نظير .. لم يحدثنا التاريخ في قديمه وحديثه عن دعوة امتدت ما ناهز تسعة قرون ونصف القرن لداعية واحد ... ودعوة واحدة .. والمدهش أن هذا الداعية العظيم كان يواصل دعوته بذات النفس والهمّة والإصرار رغم ما كان يلاقى من صنوف الأذى النفسي والجسدي كما سنرى إن شاء الله تعالى ...
صعوبة المهمة
أرسل نوح (ع) في مهمة صعبة وشاقة الى قوم هم أول من عبد الأصنام على وجه الأرض وكان لهم أصنام كثيرة يذكرهم القران الكريم بأسمائهم .. ود و سواع و يغوث ويعوق ونسرا..يقال أن وّد كان على هيئة رجل وسواع على هيئة امرأة و يغوث على هيئة أسد ويعوق على هيئة فرس ونسرا على هيئة الطائر المعروف ..
و تتمثل صعوبة المهمة لنبي الله في إن معتنقي العبادة المخترعة حديثة العهد يكونوا أشد تمسكا بها بما يوحي اليهم الشيطان ويعدهم ويمنيهم وتسوله لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء ولطبيعة حب التجريب والاستطلاع ..
كبداية كل دعوة إلهية .. الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة .. دعوة لتوحيد الله سبحانه وهجر ما سواه من إلهة مصطنعة ..وكالمتوقع فإن نوح الداعية المرسل يُواجه بالسخرية و الاستهزاء ومن ثم بالتكذيب والتهديد والوعيد ..
بينما يقابل نبي الله ذلك العناد بروية وصبر وحكمة كطبيب عارف يزيد من جرعات علاجه لقلوبهم الميتة كلما وجد ذلك مناسبا وبهدوء وتأن..
كان لقومه طريقة غريبة في رفضهم لدعوة نبيهم تنم عن مدى عنادهم وسذاجتهم ..فكانوا يلفون ثيابهم حول رؤوسهم ويضعون أصابعهم في آذانهم ويغمضون عيونهم كي لا يسمعوا صوت نبيهم التي تخترق كلماته كل هذه الحجب المصطنعة لتنفذ إلى أرواحهم التي دنسوها بكفرهم لتقيم الحجة عليهم ..
وقفة
إن صوت الحق وإن بدا ضعيفا ببعده المادي لكنه يبقى مرعبا مزلزلا تتخذ جبهة الباطل كل التدابير الاحترازية لعدم سماعه فضلا عن الاستماع إليه .. ومن عصر نوح النبي الى اليوم وغدا .. جبهة الضلال هشة ومهلهلة وأن بدت مرعبة بما تمتلك من إمكانات مادية .. إن الدول المتقدمة تكنولوجيا وبكل ماتملك من إمبراطورية اعلام وتقنية معلومات تبدو مذعورة خائفة من حقائق تذكر هنا وهناك وتلجأ الى إغلاق فضاءاتها أمام كل مايبعث الخوف لديها ..ان تلك الدول العملاقة بوسائلها المادية المتواضعة بقيمها الروحية لا تختلف كثيرا بتصرفها عما قام به قوم نوح في انهزاميتهم من مواجهة صوت الحق ..
بعد ثلاثمائة عام من الدعوة
بدأت مرحلة جديدة من المواجهة فأخذ القوم الظالمين بالتطاول على نبيهم (ع) جسديا عمدوا الى ضربه ضربا مبرحا حتى انه كان يغمى عليه لأكثر من ثلاثة أيام .. وكان الدم يجري من أذنيه وأنفه ..و كلّما أشتد أذى القوم له أزداد نبي الله همة" وإصرارا وعزيمة ...كان يدعوهم في طرقاتهم .. أمام بيوتهم .. في نواديهم ..في كل مكان يتواجدون فيه .. وفي كل مناسبة يجتمعون لأجلها .. يدعوهم سرا وعلانية .. ليلا ونهارا ..ولكن ماذا كانت نتيجة هذا الإصرار في التبليغ ؟
كانت النتيجة محبطة تماما لكل داعية إلا عند هذا النبي العظيم ..لقد كان عدد المؤمنين بدعوته يتناقص وإنه لأمر مثير حقا .. فعادة أن عدد المؤيدين لكل دعوة يبدأ بالتصاعد التدريجي بمرور الزمن وتلك قاعدة شذ عنها قوم نوح لكن ذلك لم يكن ينال من عزيمة وهمّة هذا الداعية النبي .. بل زاده إصرارا وتصميما وثباتا ..
وقفة :
يربط الكثيرون بين نجاح الدعوة ( أي كان نوعها ) وبين جماهيريتها وأتساع رقعتها وأعداد أنصارها وهو فخ وقع في شراكه بعض الدعاة للأسف فراح مؤشر هممهم يتأثر هبوطا وارتفاعا مع أعداد المناصرين بل قادهم الحرص على اتساع جماهير دعوتهم على الوقوع بأخطاء جسيمة تمس جوهر مبادئهم الأمر الذي أدى أفول نجم تلك الدعوة ..وهو أمر نجده واضحا في الدعوات التي تقوم على أساس حزبي أو دعائي دنيوي وإن ارتدى زيا دينيا ...
فيما نرى أن الدعوات الخالصة لله تعالى وفي مقدمتها دعوات السماء تحرص على ترسيخ مبادئها في نفوس المؤمنين بها وبنائهم بناءا عقائديا صحيحا يكونوا معه مهيئين على تحمل أعباء الرسالة ..والداعية من جهته ـ وان كان يسعده أن يهتدي الناس جميعا ويسعى جاهدا من أجل ذلك ـ ولكن إن لم يحصل ذلك فإنه لا يبتأس ويواصل دعوته بذات الهمة لأنه يركز على تكليفه الشرعي بإبلاغ رسالته على أكمل وجه وأقصى جهد .. وعليه أن يمتلك من الصبر ما يكفي و لا يتعجل النتيجة .
شعار إبليس
لقد رفع قوم نوح (عليه السلام ) شعارين رئيسيين لمعارضتهم :
الأول .. (ما نراك إلا بشرا مثلنا )
هذا الشعار البغيض الذي بدأه إبليس باعتراضه الأول .. أول اعتراض سجله مخلوق على خالقه انها نظرة الاحتقار الإبليسية لآدم البشر التي غرس بذرتها في نفوس القوم فباتوا يحتقروا ذواتهم بل ويتعجبوا كيف لبشر مثلهم (هم ) ان يكون محلا لتشريف السماء !..
الثاني : (ومانراك اتبعك الا الذين هم أراذلنا ...)
انه شعار يرفع في كل زمان ومكان انه التمييز الطبقي.. فحسب نظر المترفين ..هناك طبقات مسحوقة في المجتمع لايحق لها تُخيّر أو تختار أن يكون لها رأي أو تفكير هم أراذل خلقوا لخدمة المترفين أصحاب الدماء المميزة ..فكيف لهؤلاء المسحوقين وأولئك المترفين ان تجمعهم عقيدة واحدة .. إنها قضية خطيرة ..كانت من أهم العقبات التي واجهت الدعوة الى الله تعالى .. فحسب ثقافة التكبر والاستعلاء كما للمترف الشريف ملبسه الفاخر ومأكله المميز ومسكنه الفخم ومنزلته الاجتماعية الراقية لابد أن يكون له عقيدة خاصة به تليق به ويأنف أن يشترك معه فيها الأراذل أصحاب الدماء الرمادية ..هو منطق منحرف سجلت براءة اختراعه لقوم نوح (عليه السلام ) وأستمر رفعهكثيرا فيما بعد...
ترغيب وترهيب
فيما يواصل نبي الله تبليغ رسالته بإصرار .. يزداد عناد القوم على تكذيبه لدرجة أن الشيخ (كبير السن )منهم يأتي مصطحباحفيده حتى يوقفه على نبي الله ويوصيه إن كبر إلا يصدق دعوة نوح .. انه لون من العناد يثير الدهشة والاستغراب ويبين مدى الإصرار الأعمى على الضلال ..ومدى الألم النفسي الذي تحمله نبيهم الكريم ..
ويجرب نوح النبي لون آخر من الدعوة الى الحق ..فيدعوا الله بأن ينزل عليهم بركات السماء ويخرج لهم خيرات الأرض فيستجيب الباري عز وجل لدعاء نبيه فيرزقوا أسباب الرخاء ويعم الخير عليهم ..وبدلا من مقابلة ذلك بالشكر والعرفان يزداد كفرهم وعنادهم ويتمادون في غيهم ..
ويضيق نبيهم الكريم بقومه الجاحدين ذرعا .. ويذيقهم الله تعالى من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ..فيبتلون بالقحط وهلاك الزرع والحرث وقلة النسل ولكن ذلك لم يكن ليردع تلك الأنفس الظالمة التي غرقت في بحر ضلالها وغاصت الى أعماق انحرافها ...
بعد 950 عاما !! من الدعوة والجهاد المتواصل بهمة وثبات عجيبين وبعد إقامة الحجة الكاملة على قومه واستنفاذ كل وسائل الهداية والإرشاد بالموعظة الحسنة بالوعد والوعيد لم يبق لنبي الله الا ان يسلم الأمر لربه ويشهده على قومه الذين لاقى منهم شتى صنوف الأذى الجسدي والنفسي.. لقد أسقط في يد هذا النبي الصابر.. ووصل الى النتيجة التي لم يكن يرغب بها ..
بعد 950عاما كان مجموع من آمن به 80 شخصا !! بمعنى ان هداية كل شخص كانت تتطلب قرابة 12 عاما !!!!
رحمة الله الواسعة التي لايدرك مداها غيره سبحانه .. والتي ينعم بها الكافر وهو في أقصى درجات كفره وعناده وضلاله وإضلاله مسألة أفتتن بها الكثيرون من المؤمنين ..ذلك الحلم الذي ليس له حدود والإمهال العجيب الذي يخيل معه للكافر أو الظالم وكأن الله نسيه ..قوم نوح من هذا الصنف الذي خدع نفسه وغرّه حلم الباري (عز وجل) ..
وينزل العذاب الإلهي على مراحل وتدرج عسى أن يستنقذوا أنفسهم ويعودوا لرشدهم حيث أبواب الرحمة التي ما تزال مشرعة ..
تعقم أصلاب الرجال وأرحام النساء فلا أجيال جديدة تحتج بعدم إقامة الحجة عليها .. ويصيبهم القحط أربعين سنة تهلك الدواب وتذهب الأموال .. ظلوا يقاسون ألوان البلاء وعنادهم لم يتغير..بمَ يفكرون ؟ كيف لا يتفكرون ؟ مالذي يرجونه ؟ أسئلة قد تحيرنا ولكنها لا تخطر ببال من ركب سفينة الضلال والعناد .. فالنفس البشرية إن استحكمت ظلماتها و العقول إن أوصدت أبوابها.. لا يكون هناك مجالا لهكذا أسئلة عقلانية ليس سوى فكرة واحدة تدور في تلك الرؤوس الفارغة سير بعناد نحو المصير حتى نهاية المطاف....
نوح الغاضب لله (تعالى )على قومه لكفرهم وعصيانهم يسأل عن توقيت العذاب فيأتيه الأمر بأن يزرع النخل وينتظر حتى يثمر فيأكلون منه .. ويمتثل النبي لأمر ربه فيشرع بزرع النخيل فيمر به قومه ويسخرون منه ومن عذابه الموعود .. وينمو النخل ويثمر ويأكلون من ثمره ويكفرون بخالقه ..
عندها يأتي الأمر الإلهي ببدء العد العكسي لنهاية هذا الجيل البشري الذي أستنفذ آخر فرص الإمهال .. ولكن ماذا بشأن نبي الله نوح ..هل يأس تماما من قومه ؟؟ ان صبغة أولياء الله وأنبياءه هي صبغة الله وان ذواتهم الشريفة هي انعكاس للصفات الإلهية وأسمائه الحسنى ..ومن تلك الصفات الكريمة هي الرحمة فالنبي رحيم بقومه يشق عليه ضلالهم وعذابهم لذا فأنه كان وحتى اللحظة الأخيرة يأمل فيهم وإن كان أملا ضئيلا خافتا .. ويأتيه النبأ اليقين من الحكيم الخبير الذي خلق تلك الأنفس وهي الأعلم بهدايتها وضلالها..((واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون))هود: ٣٦..لقد أغلق سجل المؤمنين بثمانين مؤمنا ..
سفينة النجاة
يأتي الأمر الإلهي ببناء السفينة التي ستحمل نواة العالم الجديد عالم التوحيد ..فيما سيجتث هذا العالم الفاسد الكافر سيجتث ومعه كل شيء درج عليه أكله أوشربه تمتع به او استخدمه وكأن الكافر بكفره يصبح وباءا يتفشى ليفسد الوجود بما حوى ..
في أرض جرداء تصحرت بفعل فسادهم وإفسادهم يبدأ نوح وبمعاونة أنصاره من المؤمنين ببناء السفينة وأشراف مباشر من جبرائيل (ع) الذي يحدد أوصافها قيل ان طولها كان 1200 ذراعا وعرضها 800 ذراعا وارتفاعها80 ذراعا .. تتكون من ثلاث طوابق .. طبقة للناس وثانية للدواب والأنعام وثالثة للهوام والوحش ...
نوح الشيخ المتعب جسدا المعافى روحا يعمل بجد بصنع السفينة العملاقة ويمربه قومه الراكبين سفينة ضلالهم والتي ستحط رحالها في جهنم عما قريب ..هؤلاء الضالين يسخرون منه ويتندرون عليه بعبارات بذيئة وقحة ..
((حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل))هود: ٤٠
ويكتمل بناء سفينة النجاة .. ويأتيه الأمر بأن يأخذ من كل حيوان زوجين أثنين إضافة الى من آمن به وأهله باستثناء زوجته وأبنه ..
لقد كان استثناءالابن تحديدا يشكل مشكلة لنبي الله لا تخلو من أذى نفسي .. فهو وان كان ولاءه لله تعالى رضا وسخطا وان كان يحمل عاطفة إلاأنها عاطفة تمشي طوليا في الخط الإلهي ولا تتقاطع معه .. لقد تمنى نوح الأب ان يكون ابنه معه في السفينة تلك الأمنية التي لم تقتصر على أبنه بل تمناها لجميع قومه الضالين بأن يعودوا لرشدهم .. غاية الأمر أن نبي الله قد فوجئ بحال أبنه وما آل اليه ..
وهنا من البديهي أن نسأل :
هل كان نبي الله يعلم بحال زوجته وابنه ؟ وان كان لايعلم كيف خفي عليه أمر كفرهما؟
يجيب المفسرون بأكثر من إجابة .. أكثرها قبولا ..ما ذهب اليه بعض المفسرين ومنهم صاحب الميزان الذين يفرقون بين حال الزوجة الخائنة والتي كان نبي الله نوح يعلم بكفرها و بين حال الأبن الذي لم يكن يعلم بكفره وإن بدا له عناده ...في حين يذهب آخرون أن الزوجة والابن كانا منافقين يظهران الأيمان بنوح ويبطنان الكفر برسالته.. وأولياء الله مأمورين بمعاملة الغير على أساس ما يظهرون لا بما يضمرون حتى لوكانوا يعلموا بالحقيقة الواقعية لحالهم ...
هنا لابد من التوقف قليلا عند هذه النقطة.. في محيط الصالحين تظهر هناك حالات شاذة تثير الاستغراب كيف يمكن للمحيط العائلي الملتصق بنبي الله وضمن الدائرة الخاصة به أن يظهر ابن شاذ او زوجة غير صالحة كيف لذلك الابن أو تلك الزوجة إلا يتأثرا بالنبي ورسالته وحتى خلقه على اقل تقدير ..؟؟ ما هو التفسير المنطقي لهكذا حالات ؟
هناك مسألتان لابد من اصطحابهما في محاولتنا لمناقشة الأمر :
الأولى : السنّة التكوينية لله تعالى في خلقه في إخراج الطيب من الخبيث وإخراج الخبيث من الطيب ذلك الاستثناء الذي صار قاعدة والذي نجد له حضورا ليس في عالم الإنسان فحسب بل في كل العوالم من حولنا .. والأولياء الصالحين بلحاظ بشريتهم تجري عليهم من قوانين عالم الإمكان ما يجري على غيرهم ..
الثانية : إن وجود الشيطان ليس وجودا هامشيا في حياة البشر.. حقا إن أولياء الله وبحكم عمق ارتباطهم بالحق سبحانه ليس له سلطان عليهم, إلا أن اللعين لا ييأس منهم وحين لايجد منفذا الى عوالمهم المقدسة فإن مهمته تتحول الى البحث عن مناطق رخوة في محيط الولي الصالح .. لتعكير صفو العلاقة بينه وبين محيطه العائلي الملتصق به.. وقد يجد اللعين تلك الثغرة في الزوجة أو الولد أو غيرهم ..
أما مسألة تعامل الولي بمحيطه العائلي فتحكمه قواعد خاصة قد لا يتفهمها الكثيرين .. فهم لا يتعاملون مع الغير أصحاب النوايا السيئة حتى تتجسد تلك النوايا الى أفعال وتتخذ مظهرا خارجيا بتصرف قولي او عملي حينها فقط تتحدد ردة فعل ذلك الولي الصالح وبما ينسجم مع الحكم الشرعي بعيدا عن العاطفة والانفعال او تدخل الجانب الشخصي .. إن منهجية تربوية كهذه يجد فيها المنحرف القريب من الولي الصالح مساحة كبيرة ليمارس دورا نفاقيا مظهرا الولاء مبطنا التمرد كما حصل لأبن نوح النبي . أرجو من القارئ الكريم أن يصطحب تلك المسألة الهامة حين التأمل في قصة يعقوب ولوط (عليهما السلام )إن شاء الله تعالى .
تدق لحظة النهاية لقوم استمروا في عنادهم حتى الرمق الأخير .. نوح النبي والمؤمنين معه ونماذج الكائنات التي ستشكل العالم النقي الجديد عالم التوحيد والفطرة في سفينة النجاة تبحر بسم الله .. فيما الطوفان المدمر يلتهم القوم ومن بعيد يرمق نوح الأب والإنسان ابنه وهو يأوي الى الجبل ظنا منه أنه ينجيه .. ويناديه أن يؤمن لينجو فلا عاصم اليوم من أمر الله لا الجبل ولا غيره سوى وسيلة النجاة التي حددها الله جل شأنه .. ان نبي الله لم ينادي أبنه بقدر ما كان ينادي كل ضال ومعاند من زمن الطوفان الى يوم يرث الله الأرض ومن عليها ..
أخيرا
هناك عبارة وردت في القران الكريم تستدعي الكثير من التأمل والتدبر وهي قوله تعالى عن ابن نوح (( انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح )) في هذه الكلمات العميقة في دلالتها تتجلى نظريتان:
الأولى (إنه ليس من أهلك ) تتعلق بفكرة النسب الحقيقي كما يريده الله تعالى فطبقا للمنهج الالهي ان النسب السببي لا تكون له قيمه أو وزنا اذا تعارضمع قاعدة الولاء لله والأيمان بعقيدته ومنهجه وتشريعاته ...
الثانية ( انه عمل غير صالح ) ترتبط بارتكاب المعاصي والآثام وكيف إن إدمانها والإصرار عليها يطمس فطرة النفس البشرية ويحول وجودها الى ذات العمل غير الصالح بحيث يتعدى الأمر وصفها بأنها تعمل الخبائث بل تتحول النفس الى تلك الخبائث بذاتها وطبيعتها المقيتة .. فحين يستحكم الشر بالنفس لايترك مساحة او منفذا للضوء أن يتسلل الى عتمتها فتتحول الى كتلة متحركة للعمل غير الصالح .. فأبن نوح وصل لتلك المرحلة مرحلة اللاعودة واستحكام الشر بحيث صار بذاته عمل غير صالح فضلا عن عمله .
نهاية لبداية جديدة
تستقر سفينة النجاة على الجودي لتبدأ صفحة جديدة للتاريخ البشري ..فرصة جديدة لبناء الحياة .. فرصة لإثبات أحقية الإنسان وجدارته بحمل الأمانة التي اختار حملها .. نوح النبي الصابر والمجاهد والداعية يؤسس مجتمع الأيمان والتوحيد .. ويؤدي رسالته على أكمل وجه .. ويثبت مبادئ شريعة السماء ليكون أول أنبياء أولي العزم ..
في رحاب قصة نبي الله هود (عليه السلام )
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات المباركة :
((إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون)) الشعراء: ١٢٤((قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين* إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون*من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون*إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم *فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ *ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ))هود: 53-58
عاد وثقافة الأفتتان بالقوة
من جديد تتحرك قافلة البشرية الصالحة لتؤسس مجتمع التوحيد المنشود .. من جديد تمتد يد اللطف الإلهي للإنسان لتمنحه فرصة الحياة كما يريدها بارئه لا كما يشتهي ..فالحياة على هذه الأرض محكومة بقوانين أساسها التوحيد و الإقرار بالعبودية وحين تخرق تلك القوانين فعلى من يخرقها تحمل النتائج قد يتمتعكما تتمتع البهائم أياما .. ربما أعواما مستفيدا من حلم الكريم ولكنه في النهاية سيستأصل كما يستأصل الجسم الغريب من الجسد ..هكذا هي قوانين الوجود ..
نوح النبي وقبل أن يرحل الى الرفيق الأعلى أسس أركان دولة التوحيد و مبادئها .. وبشرّهم وكل الأجيال اللاحقة بنبي سيأتي بعده.. أسمه هود ويوصيهم بالأيمان به .. ويأمر أبنه سام أن يجعل من هذه البشارة عيدا سنويا يحتفون به ويتعاهدون بنصرة النبي الموعود .. ويظل سام متمسكا بوصية والده ويبين للقوم أوصاف هذاالنبي المنتظر ...
وقفة
إن غرس ثقافة الانتظار في النفوس لها الأثر الأكبر في إيقاد شعلة الأمل وإبقاء روح المقاومة للانهزامية والقنوط والانحراف والضلال.. من هنا تأتي فلسفة إحياء شعائر الله تعالى مع شرط الحفاظ على روحيتها وقدسيتها لتحقيق هدف الإحياء .. وإن التهاون والتقليل من قيمة تلك الطقوس والشعائر من شأنه يبعث روح اليأس خصوصا في النفوس التي لا تمتلك زادا معنويا كافيا في مواجهة أزمات الضياع والتشكيك واستبطاء الفرج ... وهو الخطأ الذي سقطت فيه الأقوام اللاحقة كما سنرى ...
********************
ظل سام يعمل بوصية الأب النبي طيلة حياته .. فكان هناك عيدا سنويا يجتمع فيه الناس لتذاكر النبي الموعود والتعاهد على نصرته .. ولكن بعد وفاة سام .. ترك الناس بالتدريج هذه الشعيرة فأحسوا بأن الأمل قد طال عليهم وتسرب اليأس الى النفوس وشيئا فشيئأ تناقصت أعداد المؤمنين المنتظرين فيما ازدادت أعداد المشككين المحبَطين وبمرور الوقت نسى الناس أمر النبي الموعود وصارت أخباره حكايات منسية ..
ويأتي وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد ... لندرك أن الانتظار مشيئة إلهية قد توصلنا عقولنا القاصرة وبتوفيق منه سبحانه لبعض جوانبها ولكن لا أحد منا يدعي الإحاطة بفلسفة توقيتها .. ففي يوم خالد من أيام الله يظهر هود النبي وهو ينتسب الى عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ...وكان من قبيلة من أوسط قباءلهم تسمى الخلود ولذا عبر عنه القرآن الكريم بأخيهم فهو من نسيجهم الاجتماعي والعائلي .. ونزل هو و ولده بالأحقاف بين عمان وحضرموت ..
عبادة عاد
((وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين))العنكبوت: ٣٨
كان قوم عاد مستبصرين يستمدون إيمانهم من تعاليم وشريعة نوح ولكن بمرور الوقت هجروا دين التوحيد ليعبدوا القمر.... يروى أنهم اتخذوا ثلاثة أصنام تقربهم من معبودهم (حسب ما تصوره أهواءهم ) وهي : صمود وصداء وهباء ..
وعاد عشر قبائل وكانوا يتمتعون بصفات جسمانية مميزة ..فكانوا طوال القامة .. وأصحاب قوة بدنية هائلة.. و قد مكنتهم تلك البنى الجسدية من إقامة حضارة شامخة.. حباهم الله (عز و جل) بأنواع النعم المادية من خصوبة الأرض ووفرة المياه العذبة والتي جعلت من بلادهم جنة أرضية زخرت بالخيرات ... ولكنهم وبدلا من شكر المنعم جحدوا به .. ونسبوا تلك النعم الى أنفسهم و فنهم ومهاراتهم وقوتهم .. وتمادوا في غرورهم ...
حضارة من أشد منا قوة
الافتتان بالقوة و الإمكانات المادية من أشد صور الفتنة , فيها يتعاظم شعور الإنسان بالغرور .. وهو داء عضال يصعب الشفاء منه وسكر تطول مدة الأفاقة منه .. وهو ما وقع تحت تأثيره قوم عاد .. راحوا يشيدون حضارة العمران وبنوا المصانع العملاقة ينحتون من الجبال أعمدة ضخمة لتكون أسس لأبنيتهم واختاروا أكثر الأماكن ارتفاعا مواقع لبيوتهم الفارهة ..
لقد تناقلت أجيالهم أنباء الطوفان الذي قضى على قوم نوح فاستعدوا له بأبنية رصينة ناطحت السحاب .. لقد عدّوا ما حصل من طوفان لقوم نوح حدثا من أحداث الطبيعة وليس عقابا إلهيا مستحقا لقوم مجرمين ..تماما كما يفكر ألان أقوام يعدّون كل مايحصل من كوارث نتاج طبيعي لتغيرات بيئية .. صراع مع الطبيعة تهزمهم ويهزموها .. المنطق السخيف ذاته .. ثم راحوا يتحدون رافعين شعار (من أشد منا قوة ).. وهو شعار أهلك كل من رفعه على مدى الدهور .. شعار يرفعه الجاهلون المغرورون المفتونون بزهو قوتهم الزائف ..
هود (ع) يبدأ دعوته
((إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون*إني لكم رسول أمين*فاتقوا الله وأطيعون*وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين*أتبنون بكل ريع آية تعبثون*وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون*وإذا بطشتم بطشتم جبارين*فاتقوا الله وأطيعون*واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون* أمدكم بأنعام وبنين* وجنات وعيون*إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم *قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين*إن هذا إلا خلق الأولين* وما نحن بمعذبين* فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم))الشعراء: ١٢٤ – ١40
مجتمع مفتون مغرور كهذا لنا أن نتصور صعوبة مهمة هو د النبي الأعزل الا من إيمانه بخالقه العظيم والرسالة التي تشرف بحملها ..
يبدأ هود النبي بموعظة قومه بالكلمة الطيبة وتذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم وتحذيرهم من مغبة كفرهم وجحودهم وتذكيرهم بما حل بقوم نوح (ع) .. ولكن القوم الذين شربوا حد الثمالة من كأس فتنتهم وغرورهم ..راحوا يستهزؤن به كديدن كل الأقوام الكافرة ..ومثلما أعترض قوم نوح على نبيهم كونه بشرا .. ذات المنطق تكلم به قوم هود وستتكلم به معسكرات الضلال كما سنرى ... لأنهم يرددون شعار إبليس في دواخلهم التي أصبحت وكرا لعدو الله ..
هود (ع) بخلق النبي والولي الصالح يقابل جهلهم والتطاول عليه بمزيد من الحكمة والمنطق .. وبلغة لطيفة مليئة بالعطف والود والشفقة وهو المبعوث رحمة لهم .. يقول لهم يا قوم إني رسول الله اليكم مكلف بمهمة إبلاغكم رسالة وليست لي مصلحة شخصية أو ابتغي منكم أجرا لأن الأجر الذي أبتغيه لا يوجد الا عنده سبحانه وكأنه يقول لهم ما أنتم الا فقراء مساكين لا تملكون نفعا ولا ضرا لأنفسكم و لا لي ..
ثم بدأ يذكر لهم منطقية دعوته وخواء تفكيرهم وسذاجته وتسفيه أحلامهم قال لهم ان بناءكم المنيف وعمرانكم الشاهق الذي ظننتم انه منجيكم من أمر الله إذا جاء .. فأنتم واهمون .. فتلك الحضارة التي تغترون بها ستصبح هباءا منثورا أثرا بعد عين ... وراحوا يسخرون منه مجددا وهم ينظرون بزهو لعماراتهم الشاهقة .. ويتساءلون بسذاجة هل يستطيع أي طوفان أن يقتلع هذة الأعمدة العملاقة ؟..انه منطق من أستحالت عقولهم حجرا ..
وينتقل هود (ع) الى أمر آخر ليدلل لهم كيف ان غرور القوة لديهم قد أعمى بصيرتهم وأثر على أخلاقيات التعامل مع الغير بحيث صار البطش والعنف من علاماتهم المميزة .. فيقول لهم أنكم ان بطشتم بطشتم جبارين بقسوة وعنف واقعين تحت تأثير سلطان غضبكم وتجبركم مستعينين بما أنعم الله عليكم من قوة بدنية على ظلم الغير والتعدي عليهم ..مذكرّهم من جديد ودائما بنعم الله تعالى عليهم ويختم نبيهم الكريم موعظته بأنه يخاف عليهم عذاب يوم عظيم ..وعبارة ( إني أخاف عليكم ) سنجدها تتكرر على ألسنة الأنبياء (عليهم السلام) تفصح عن الأرواح الكبيرة التي تفيض رحمة و إشفاق على الظالمين لإنفسهم ..
أمام هذا المنطق الجميل البالغ التأثير وتلك الكلمات التي لخصت المشكلة والحل ..ماذا كان رد القوم ...
لقد كان ردا عجيبا يفصح عن مدى الدرك الذي وصلوا اليه ..
إن الإنسان حين يصل مرحلة من الغرور والتزمت بالرأي فإنه يكون عابد لذاته لايرى في هذا الوجود سواها متحولة الى حجاب ثقيل يحجب عنه رؤية ما سواها .. ويصبح الوعظ والإرشاد جهدا لا طائل منه فالمغرور لا يسمع وان سمع لا يعي .. وحتى لو لوتظاهر بالاستماع فإنه يسمع ليجادل لا ليحاور ويقتنع .. فهو يبحث عما يدعم موقفه المتخذ مسبقا .. ويصبح الحوار معه مجرد مراء وجدل عقيم .. فهو اختار الضلالة بوعي ولم يسقط فيها بجهالة .. وكانت حجتهم بما أوحت اليهم شياطينهم وعقولهم المقفلة ..
قالوا ان ماحدث للأولين ويقصدون ماحدث لقوم نوح ماهو الا نهايات طبيعية للبشر وقضية الطوفان ماهي الا أساطير وخرافات .. لقد زيفوا الحقيقة وتمسكوا بالزيف .. انه منطق الجهلة المغرورين في كل زمان ومكان .. بغض النظر عن مستوى الثقافات ..
نبي الله يستوعب جهلهم وجهالتهم وعنادهم وغطرستهم .. ويستمر بدعوته وهذه المرة مع تذكير وتحذير ولكن ذلك لا يزيدهم الا عنادا بل قاموا بتهديد نبيهم ..
وبغباء راحوا يزيدون في علو بناءهم ويدعمون أسسه ويبنون المخازن الضخمة ويدخرون الحبوب ..استعدادا لما يعدهم نبيهم .. بمعنى إنهم كانوا يدركون صدق دعوته في قرارة أنفسهم .. ككل مغرور يمارس خداع الذات .. فهم يتظاهرون بالاستهزاء بما يقول لهم نبي الله وحين يرجعوا الى أنفسهم والى بعضهم يحملون تحذيراته محمل الجد ..
الأنذار الأول
السماء تحبس بركاتها عنهم .. فلا مطر ينزل .. ولا خيرات تزيد .. وتتناقص وتنقضي المتع الدنيوية .. وتسلب الامتيازات تدريجا ..
وقفة :
هناك ارتباط وتناسب طردي بين الأيمان والنعم الظاهرية و حبس بركات السماء ماهو الا إنذار الهي أول .. المسألة لا تتعلق بأسباب طبيعية تعالج بوسائل مادية كما يتصور الملحدون .. والهدف من ذلك الإنذار هو فرصة لا يستحقوها للعودة واللجوء الى الله تعالى والتضرع اليه سبحانه وليس عقوبة بحد ذاته .. فالإنذار يبدأ ابتلاءا قبل ان يتحول الى بلاء ...
********************
أستمر هذا الإنذار لثلاث سنوات .. هلك فيه كل شيء ..جفت الأنهر شريان الحياة .. تحول النسيم الرقيق الى رياح تحرق أوراق الشجر المخضر و تحولت الحقول الخضراء الساحرة الى أرض جرداء موحشة واستحالت الحدائق الغناء الى أدغال يابسة وبقايا أشجار يابسة ومن على شرفات قصورهم العالية راحوا ينظرون الى بلدتهم وقد تحول كل مافيها الى أشباح مخيفة .. حتى لون بشرتهم أصبح باهتا وعضلاتهم المفتولة أصبحت ضعيفة ضامرة ..تأثر كل شيء بالقحط الا نفوسهم المظلمة فلم تزدد الا ظلمة وعنادا بل وأصبحت أكثر شراسة وإصرارا على الكفر والضلال ..
لم ييأس نبيهم من دعوتهم فبعد أن ذكرهم بالعهد القريب وتمتعهم بالنعم والخيرات عرض عليهم أن يؤمنوا بالله لتعود اليهم كل تلك النعم وأكثر منها .. ولكن بلا جدوى بل واتهموه بالمس والجنون
.. ومن جديد ينسبون كل ما حصل لهم للطبيعة وسننها .. ثم يطلبوا من نبيهم ان يأتي لهم بمعجزة تثبت صدق دعوته ..
معجزة هود
((.....قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون*من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون* إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم )) هود: ٥٤ - ٥٦
يأتي لهم هود (ع) بمعجزة غاية في العظمة تتناسب مع ما يؤمنون به .. هؤلاء المفتونون بقوتهم الظاهرية أصحاب شعار من أشد منا قوة .. قال لهم يا من تتفاخرون بقوتكم ..أصحاب منطق من أشد منّا قوة .. أنا بينكم هل تقدرون ومعكم إلهتكم المزعومة على إيذائي ؟ .. انه تحد عجيب واية كبرى .. فهم بالفعل لا يستطيعون تحريك ساكنا أمامه وهو الأعزل من القوى الظاهرية المألوفة لديهم مالذي حال بينه وبينهم ؟؟
.. إن قوة غريبة تمنعهم منه .. ورجعوا الى أنفسهم يسألوها بصمت وخيبة مالذي أصابهم ؟ لقد عجزوا تماما وظل كل منهم ينظر للآخر بذهول .. وأسئلة حائرة يتبادلونها بصمت لا يعرفون لها إجابة ..
لقد سقط فجأة شعارهم .. سقط المنطق الذي آمنوا به وجعلوه محور لحياتهم .. منطق القوة والتحدي .. لاذوا بخزيهم .. ولكنهم وكأي عاجز جبان مهزوم لجئوا الى بذاءة اللسان والتطاول على نبيهم الكريم
لقد رموه بالسفه وهو ضعف العقل ونسبوا اليه الكذب وهي خصلة ذميمة هم يدركون تماما انه بعيدا عنها فهو صاحب الخلق القويم الذي لم يعرفوا عنه الا كل خصال الخير .. بدليل رده عليهم فهم لم يستفزوه لم يخرجوه من حقه بباطلهم ..
انه منطق السماء بعليائها يرد على منطق الأرض بتسافلها .. لغة لم تغادر الأدب مليئة باللين واللطف والمنطق وسعة الصدر والثقة بالنفس .. لقد رد على اتهامه بالسفاهة ببساطة بانه ليس به سفاهة وانه رسول من رب العالمين الرسول الذين وعدوا بظهوره ولا يليق برسول السماء ان يكون سفيها وعلى اتهامه بالكذب بانه لهم ناصح أمين ..
انه درس في أدب الرد وانتصار المبدأ على الانتصار للذات والتشفي من الخصم وعدم النزول لمستواه المتدني .. لقد برهن هود على عظم الرسالة والرسول وأقام الحجة الكاملة على قومه المعاندين ...
هزيمة أخلاقية معنوية جديدة تلحق بقومه الذين وصلوا حدا من الإصرار على الذنب لايرجى معه صلاح وسلكوا طريق اللاعودة ...
استعجال العذاب
((واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم* قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين* قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون* فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم* تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين* ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون))الأحقاف: ٢١ – ٢6
فما كان منهم الا ان يختاروا الانتحار بجنون فيقولون لنبيهم (( فإتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين )) هم يدركوا تماما انه من الصادقين ..ولكنهم بغباء أرادوا استعجال العذاب ..خيار المعاند الأخير..
لكن نبيهم المبعوث رحمة و هداية وليس للنقمة والعذاب يحزنه كثيرا ماوصل اليه حال قومه ويسعى جاهدا وللمرة الأخيرة أن يعودوا لرشدهم .. يرد على استعجالهم بالعذاب (( إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ))
أراد ان يقول لهم ان وعيد الله لكم بالعذاب حق .. وسيأتي .. ولكن توقيت نزول ذلك العذاب ونوعيته بيد منزله وما إنا الا منذر لكم و إن مدة الإمهال هي الفرصة الأخيرة لكم فلا تفرطو بها ..
ولكن القوم وبسخافة عقولهم وانغلاقها أخذوا يعدّون تأخر نزول العذاب دليلا على العجز .. وانتصار مزعوم يمنون النفس به ..
و فيما بلغ تماديهم وعنادهم مداه يستنفذ هود النبي كل وسيلة لهدايتهم ويبلغ صبره عليهم غايته .. يفوض أمره الى الله تعالى ويقول لهم ((.... فانتظروا اني معكم من المنتظرين ))
المفارقة والموعظة
القحط يحيل القوم الى بقايا منهكة وخزينهم الذي ادخروه ينفذ وطوابير الجائعين تترك قصورها لتنزل مفترشة الطرقات ...
وهم ينظرون الى السماء بحنق .. تلك السماء التي لم تبخل عليهم يوما بعطاياها وهباتها التي لا يستحقوها ..بل وكفروا بخالقها وخالقهم .. كانت تكفي بضعة كلمات لتنقذهم من الموت جوعا وعطشا وذلا ولكنهم لم يفكروا مجرد تفكير في ذلك ..
ان الخطر الذي توقعوه وهو الطوفان واستعدوا له وبنوا القلاع والحصون لمواجهته لم يأتي بل أتاهم ما لم يكونوا محتسبين له لقد ابتلوابالنقيض منه في حكمة بالغة لا يعقلها الا أولي الألباب ابتلوا بالقحط والجفاف.. تفصح عن قدرة جبار السماوات والأرض وحكمته و ضآلة هذا الإنسان وجهله.. الذي لا يدرك قدر نفسه ..
الملاذ الخادع ..
بدلا من الرجوع الى الله واللجوء اليه تهرع قطعان البشر الضال .. وبعد أن أحسوا بانهيارهم وفقدان القدرة على المقاومة.. يجمعون كل أركان دولتهم .. وفي يوم عيدهم الأكبر وكان يوم الأربعاء ( سنرى ان هذا اليوم سيتكرر كثيرا كيوم شقاء للكافرين ) ويجتمعوا لكبير أصنامهم .. ليسألوه الماء يسجدوا يمرغون وجوههم الكالحة في التراب دون جدوى .. وما عسى حجر أصم ان يفعل ما عجز عنه الأنسان .. مسألة العقيدة مسألة محيرة حقا..فما الذي يجعل الإنسان أن يتخلى عن حريته ( ان كان يعتقد ان العبادة تسلب حريته ) لصنم ولا يتخلى عنها لله تعالى وهو يعلم بقرارة نفسه وبفطرته أنه الأولى بالعبادة .. عجيب أمر هذا الكائن ! والأعجب هو عظيم حلم خالقه على جهله وكفره ..
كان يكفي لهؤلاء الحمقى المعاندين ان يسجدوا لحظة لخالقهم .. ما عساهم ان يخسروا لو جربوا .. لكنهم لوشاءوا لما استطاعوا الا ان يشاء الله رب العالمين ..
أجساد منهكة متهالكة يائسة بائسة متناثرة وسط الصحراء التي لم تكن تطيق حملهم على ظهرها .. تحرقهم بلهيب رمالها .. فيما قصورهم الشامخة المحصنة ضد الطوفان خاوية فارغة .. و أصبح مجرد رؤية الغمام حلما.. نبيهم الكريم ينظر لحال قومه المعاندين ولا يفتر عن وعظهم وان كان قد تيقن من هلاكهم واقتراب الوعيد الإلهي بالعذاب ..
وفجأة وفيما هم جماعات منتشرة وسط الصحراء وأذا بهم يروا سحابا ثقيلا مقبلا عليهم رقصوا فرحا فهي المرة الأولى التي يروا فيها سحابا منذ ثلاث سنين عجاف .. بغرورهم وجهلهم شكروا ألهتهم على استجابة دعاءهم وسخروا من جديد من هود النبي الذي أعتزلهم مع المؤمنين بدعوته في ناحية بعيدة عنهم .. ولكن فرحة هؤلاء السذج لم تدم الا لحظات .. حين اقترب منهم عذاب الله .. انه العذاب الذي استعجلوه وغضب ربهم الذي تعجلوه ..ريح عاصفة تضرب حضارة الأعمدة والقصور المحصنة .. ريح تقتلع كل شيء .. لجؤا الى الجبال فلم تنجيهم .. غاروا في باطن الأرض فلم تحميهم ..
كانت الريح غاضبة كأنها تنتظر أمر الانقضاض على هؤلاء المغرورين أصحاب شعار من أشد منا قوة .. كانت الريح تصعد بهم الى شاهق ثم تهوي بهم الى أعماق الأرض لتسحقهم سحقا .. حينها عرفوا يقينا إجابة سؤالهم ..من أشد منهم قوة ؟ .. لقد أجابتهم الريح جندي من جنود الله (عزوجل) ولا يعرف جنوده الا هو .. وفيما كان غضب الريح يشتد على القوم الظالمين .. كانت ذات الريح تتحول الى نسيم رقيق تحمل معها رائحة زكية تعطر الأجواء على نبي الله هود والمؤمنين معه .. في آية كبرى جديدة تدل على قدرة الجليل الأعلى ...
وأصبحت حضارة الأعمدة العملاقة والعمران حكايات تتناقلها الأجيال عبرة و موعظة .. ولكن ثقافة من أشد منا قوة بقيت للأسف تجري في دماء الأجيال تغيب فترة لتعود من جديد كلما تهيأت اسبابها .. كلما أخذ هذا الكائن البشري الزهو والغرور بأمكاناته المادية ..ان شعار الأفتتان بالقوة يرفع اليوم وتضطهد الشعوب تحت لوائه ..
أخيرا.... رحمة الأستئصال
قد يبدو الاستئصال في ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة خالصة .. فلم تكن (عاد) تشكل ظاهرة كفر عادية .. فما أكثر الأجيال الكافرة في المجتمعات قديما وحديثا وقد أستوعبها الحلم الإلهي الكريم .. لكن عاد الكافرة التي أقيمت عليها الحجة الكاملة .. شكلت مفصلا في سلسلة التواصل البشري .. ولو استمر كفر عاد لما اكتملت حلقات الإنسان على الأرض إذ ان عاد قد سارت تماما عكس اتجاه القوانين التي تحفظ الوجود وأرادوا قتل الفطرة وخرقوا كل قانون الهي لحركة الحياة .. فأصبحت كالعضو الموبوء ان لم يستأصل فسد الجسد بكامله .. فالنظر الى بتر العضو قد يبدوا عملا مؤذيا وصعبا ولكن إن توقف عليه استمرار الحياة فإن ذات العمل يعتبر ليس مقبولا فقط بل وضروريا أيضا .. من هنا تأتي فلسفة الرحمة الإلهية في الاتصال ...
جيل آخر من أجيال البشر يفشل في حمل أمانته .. جيل آخر يسير عكس اتجاه الفطرة ..جيل آخر يستأصل ..
ولكن الحياة تستمر بأجيال قادمة .. تمهد لتطبيق نظرية الاستخلاف في الأرض .. الإنسان الكامل المخلوق الذي نفخ فيه من روحه وسجدت له الملائكة بأمر الله ... قد يبدوا الطريق طويلا .. وقد تشكل هذه الأقوام بداية الركب والذي لايعلم نهايته الا الله سبحانه .. ولكنه سيأتي اليوم الموعود .. وان السبب الرئيسي الذي اهلك عاد هو أنها لم تهيأ نفسها بما يكفي .. لم تنتظر كما يجب .. ظهور النبي الموعود .. فالانتظار ثقافة واعية لا يجيد التعامل معها الا من وفقه الله تعالى لذلك ..
في رحاب قصة نبي الله صالح (عليه السلام )
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات المباركة:
((كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون *إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون* وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين* أتتركون في ما هاهنا آمنين* في جنات وعيون* وزروع ونخل طلعها هضيم* وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين* فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين* الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون* قالوا إنما أنت من المسحرين* ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين* قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم*ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم*فعقروها فأصبحوا نادمين*فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين*وإن ربك لهو العزيز الرحيمالشعراء: ١٤١ -159
إنتهاك الخطوط الحمراء : ثمود أصحاب الجريمة الأستثنائية
بعد مائة عام من هلاك عاد قوم هود .. تظهر حضارة جديدة .. لتكون مركز عالم ذلك الزمان ..هذه المرة عند ثمود حول جبل الجودي المكان الذي أستقرت عليه سفينة نوح (عليه السلام).. من هم ثمود ؟
انهم قوم ثمود عابر بن أرم بن سام بن نوح النبي .. تقع بلدتهم بين الشام والحجاز ..
لقد كانت بداية عقيدتهم التوحيد دين الفطرة في أعماقهم .. ثم ابتعدوا رويدا .. رويدا حتى وقعوا في حبائل الشيطان الذي زين لهم أعمالهم وقعوا في دائرة العمى والضلال بعد ان كانوا على الهدى ....
ويحمل صالح (ع ) لواء الرسالة بكل أخلاص و حرص على هدايتهم ليعيدهم الى دائرة الاستبصار ..... المهمة لم تكن سهلة على الإطلاق .. فقد تمكن الشرك والجحود والكفر من نفوس القوم ..
لذا كانت مواجهتهم عنيفة منذ البداية مع نبيهم .. الذي بدأ بالموعظة الحسنة والإرشاد وتنبيههم لغفلتهم ولكنه يواجه بذات الشعار المقيت الذي رفع من قبل في وجه نوح وهود (على نبينا وعليهم السلام ) شعار ما أنت الا بشر مثلنا .. وقد سبق ذلك وصفه بأنه من المسّحرين وهم الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم ..
إن البشرية في نظرهم نقطة ضعف لا تليق برسول السماء ناظرين الى بشريتهم المدنسة بآثامهم وكفرهم ..
ثمود و وهم القوة
بعد الطوفان الذي أغرق قوم نوح والريح العاتية التي أهلكت عاد ..ظنت ثمود أنها تفطنت الى الأسباب التي أدت الى فناء الأقوام السابقة .. فبدأو يدرسون الأسباب المادية التي تنجيهم من الفناء ..فعمدوا الى بناء بيوتهم بطريقة تقيهم الطوفان والريح معا.. فعمدوا الى نحت بيوتهم في بطون الجبال وجعلوا لها أبواب ضيقة للتحكم فيها عند هبوب الريح .. فيما حصنوا أنفسهم من خطر الطوفان باتخاذهم الجبال العالية ..
ان من يمعن قراءة أحوال الأمم الغابرة لا يجد تغيرا يذكر في طريقة التفكير خصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع المادة والغيب .. فمثلما تعاملت عاد مع الطوفان والاستعداد له ففوجئت بالقحط ينخرهم قبل ان تقتلعهم الريح .. ومثلما تعاملت ثمود ومن قبلها عاد مع الغيب.. تتعامل اليوم القوى الكافرة للتصدي مع مظاهر الغضب الإلهي والكوارث الطبيعية ويعتبروها نتاج لتغييرات بيئية ..
إنهم يتعاملون عن المظهر المادي للحوادث الطبيعية دون البحث عن السبب الغيبي الذي يكمن وراءه ..
بعث صالح النبي (ع)
بعث صالح وهو ابن ( ستة عشر) عاما وقيل ثلاثون عاما ..ولبث في قومه مائة وعشرون عاما وقيل ثمانون عاما...
وعاش معه جيلين .. الأول عاش زمن المعجزة ( التي سيأتي ذكرها ) وآمن بها و برسالته والجيل الثاني .. سمع بالمعجزة ولم يشاهدها فعاش معه مترددا بين الأيمان والكفر برسالته ..
كالعادة يبدأ صالح النبي والرسول بدعوة قومه الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والتذكير بنعم الله عليهم والتحذير ان يحل بهم ما حل بالأقوام السابقة ان أصروا على كفرهم وضلالهم ...ٍ
فبعد أن دعا قومه للتوحيد بين لهم حقيقة الأمر الذي يجهلونه .. وخوفهم من المجهول .. وان هرولتهم للأحتماء بالطبيعة من غضب خالقها هو محض غباء .. وان النعم المادية التي يتمتعون بها من بيوت فارهة وزرع ونخل مثمر وجنات وعيون وخيرات لا تحصى لابد من شكر المنعم والخالق لتدوم .. وان طاعة الله وحدها هي الكفيلة بسعادتهم .. وانه لا يريد منهم مصلحة أو منفعة مادية فأجر الرسالة هو عند ربه الكريم .. وحذرهم من أطاعة أمر المسرفين الذين غرقوا في متعهم الدنيوية وتمادوا في غيهم وكفرهم فإن ذلك لا يقودهم الا للهلاك كما آل اليه مصير الأمم السابقة ......
لقد كان بيانا تفصيلا لدعوته .. وشرحا كافيا ووافيا لطبيعة رسالته .. فماذا كان جواب قومه ...؟؟؟
بعد هذا البلاغ آمن بصالح عدد قليل من الناس أغلبهم من الفقراء والمستضعفين مع عدد أقل ممن حكموا عقولهم وانتصروا على أنفسهم .....فيما أعترض الهمج الرعاع وأئمة الكفر ...
أول أعتراض سجله المعاندون هو صغر سن نبيهم ... وهو إعتراض ينم عن سخافة عقولهم وعجزهم عن مواجهة المنطق الذي تكلم به نبيهم ..
وقفة :
مسألة صغر السن هذه مسألة افتتن بها الكثيرون فبعض النفوس التي تحمل في داخلها كبرا لا تتقبل في كثير من الأحيان أن يتقدمها الأصغر منها سنا .. معتقدين خطأ أن الخبرة و التجربة والتي لا تأتي حسب منطقهم الا من طول العمر وما يكتسبه المرء من تراكم في المعلومات هو المعيار في الأفضلية وفق هذا المنهج البشري فالإذعان لرأي الأصغر سنا مسألة شاقة على بعض النفوس...والله جل شأنه الخبير البصير بعباده ..يريد أن يرسم منهجا آخر ويغرس ثقافة ( الله يعلم أين يضع رسالته ) يريد ان ينتزع الكبر من النفوس ويعلم عبادة المنهج الصحيح والمقبول من العبادة .. وهو التسليم والإذعان بقناعة بكل ما يأمر الحق (سبحانه وتعالى ) دون اعتراض ولو كان قلبيا .. فالاعتراض يعنى ان المعترض يرى رأيا في مقابل أمر الله تعالى وهو لون من ألوان الكفر القلبي ..
والاعتراض على صغر سن المرسل والولي ... حدث كثيرا في التاريخ البشري و تاريخنا الإسلامي ولسنا بصدد الدخول في تفاصيل ذلك ولكن يكفي أن نشير الى أن أحد الاعتراضات التي سجلها المعترضون على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام ) للأمة هي صغر السن مقارنة بغيره اجتهادا من بعضهم و نفاقا من البعض الآخر !! مع أقرار الجميع بعلمه ودرايته وحكمته..
************************
الاعتراض الآخر الذي تشبث به المعاندون من قوم صالح أكثر من سابقه ... هو تغيير سنة الأوليين .. والسؤال هو أي سنّة يقصدون ؟ فالأخيار والمصلحون والصالحون كانوا أيضا من الأولين ولهم سنّة صالحة فلماذا لا يتمسك القوم بسنتهم لماذا ينحصر التمسك والاهتداء بالمسيئين والسيئين ؟...... ان السنن التي يحرصون على أتباعها هي تلك التي توافق الهوى وتناغم رغباتهم وتحقق مصالحهم غير المشروعة ... اما سنن الأنبياء والصالحين فهي مناهضة لشذوذهم وانحرافهم .. فهي سنن يجب أن تحارب و تندرس .
و مسألة تغيير السنن كانت من بين أهم موانع أنتشار الرسالات وتقبلها فبعض النفوس التي أشربت بحب الموروث وصار جزءا من ضميرها الجمعي وموروثها الثقافي هذه النفوس تظل تدافع عنه وتتمسك به كجزء من وجودها وتعتبر الدفاع عنه أمام التغيير والتعديل مسألة دفاع عن هوية و وجود..
آية صالح (ع)
ثبات موقف صالح (ع) وحججه الدامغة لقومه أفشل كل محاولاتهم البائسة للقضاء أو الحد من دعوته .. ولم تنفعهم أساليب الاستهزاء والسخرية والتهديد والوعيد من النيل من إرادته .. أُرغم قومه على مطالبته بالمعجزة التي تثبت صدق إدعاءه وطلب المعجزة هو بداية النهاية لكل معاند ..
كان قوم ثمود أصحاب أبل ولهذا الحيوان منزلة كبيرة في حياتهم وثقافتهم فهو مصدر خيرهم وعزهم ومفاخرهم ومنزلتهم الاجتماعية ..لقد كانت الإبل تمثل رمزا قوميا لدولتهم .. لذا فقد طالبوا نبيهم بمعجزة تحاكي أغلى ما يملكون ..
وفي يوم عيدهم الأكبر اصطف سبعون صفا وكل صف يحمل الصنم الذي يعبده في طقوس احتفالية... وبعد التشاور بينهم حول الأمر الذي يعجز نبيهم عن الإتيان به .. وهكذا توهموا !! تقدم كبير مسرفيهم .. وقال لنبي الله .. ان كنت صادقا في دعواك ياصالح .. فلتخرج لنا هذه الصخرة الصماء ناقة .. وأشار الى صخرة منفردة يقدسونها ويذبحون عليها الذبائح كل عام .. ولم يكتفوا بذلك بل انهم حددوا أوصاف خيالية نادرة تعجيزية .. ان تكون الناقة وبراء – سوداء-عشراء – نتوجا – حالكة صافية اللون – ذا عرف – وناصية – وشعر و وبر .. أوصاف لا توجد الا بخيال شيطان ماكر .. واخذ بعضهم ينظر لبعض وقد ظنوا انهم قد أعجزوا نبيهم ..الذي راح يبتسم وبثقة فهم سذج أغبياء لا يدركون مع من يتعاملون ؟ لقد ظنوا انهم يتعاملون مع صالح البشر الذي لا يملك حولا ولا قوة ولم يدركوا أنهم يتعاملون مع رب الأرباب الذي لا يعجزه شيء .. وأن الشيء الذي استعظمته جماجمهم الفارغة لا يعظم على خالق الكون ومبدعه من العدم وهو الذي أمره بين الكاف والنون ..
وتعالت الهتافات من قطيع البشر .. يا صالح :ادع لنا ربك يخرج لنا الناقة التي سألناك من هذه الصخرة ..
ويقول لهم نبي الله بلغة الواثق المستوثق .. وبهدوء وسكينة .. ياقوم لقد سألتموني عظيما ولكنه على ربي (عز وجل ) هين يسير .نبي الله ساجدا متضرعا مفوضا الأمر إليه ..فيما القوم في لحظات من الترقب والإثارة .. وما ان ينهي نبيهم سجوده حتى تبدأ الصخرة تتحرك وتتململ وبدأ يخرج منها حنين وأنين وسط ذهول القوم من هذا المنظر الذي زلزلهم ..ثم انصدعت الصخرة وتمخضت كتمخض المرأة لحظة ولادتها ..لتظهر ناقة وبراء – سوداء-عشراء – نتوجا – حالكة صافية اللون – ذا عرف – وناصية – وشعر و وبر بأوصافها التي طلبوها تماما..وقبل ان يستفيق القوم من هول ما يرون خرج من ذات الصخرة فصيل للناقة بذات الأوصاف .. ويفزع القوم حينها وتتحرك الفطرة فيؤمن خلق كثير....
يمكرون ويمكر الله .. فالناقة التي أرادوا تعجيز نبيهم بها هي بذاتها ستكون محل فتنة لهم ونقمة لمعظمهم فيما بعد ( كما سنرى ).. لقد ظنوا الأمر مزحة وفرحة يتوجون بها احتفالاتهم بيوم عيدهم الأكبر .. واذا بها تكون خزي لهم وبداية لأحداث جسام سيواجهونها ...
(( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر27/54ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر))/القمر: ٢٧ - ٢٨
يأتي نبيهم يبين الخطوات اللاحقة .. مسؤولياتهم تجاه ناقة الله المعجزة..
لقد حدد لهم صالح النبي ان الماء مقسوم بينهم وبين الناقة وهم من اليوم ليسوا أحرارا في حصولهم على الماء .. وهذه أولى مراحل الابتلاء .. فهم سيشربون يوما وستشرب الناقة وفصيلها في اليوم التالي وهكذا ..
وقد حذرهم أشد التحذير من التعرض للناقة بالعقر أو النحر فهي ناقة الله وآيته لهم والتعرض لها يعني تعرض لحرمة الله (جل شأنه ) ..
((وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم)) الأعراف: ٧٣
بعد ان أستفاق القوم من هول ما رأوا راح المسرفون ..قادة معسكر الضلال يجمعون صفوفهم من جديد .. ويرصون ما تخلخل من جبهتهم خصوصا أنهم خسروا كثير من الناس الذين أعلنوا إيمانهم ...
وكان لامناص من الاعتراف بقوة صالح (ع) ونجاح دعوته .. لذا فإنهم لجئوا الى أسلوب جديد .. دليل آخر على غباءهم وجهلهم .. لقد عرضوا عليه أرفع المناصب في دولتهم ومايتبع ذلك من امتيازات مادية ..
وقفة :
ان الإغراء بالمنصب والمتاع الدنيوي الزائل .. كان الامتحان الأصعب لصدق النية لمعرفة المصلح من مدعّي الإصلاح ورافع لواء التغيير .. فكثير من (الدعاة ) قد فشلوا في الصمود أمام فتنة الترغيب رغم صمودهم أمام كل وسائل التعذيب وأشرسها ولكنهم انهاروا وبلا مقاومة كبيرة أمام مغريات السلطة ومتع الحياة الدنيا .. ولم يتخلوا عن مبادئهم فقط بل إنهم تاجروا بتلك المبادئ متخذين منها بضاعة باعوها بثمن بخس بعد أن اعتلوا أعواد المشانق دفاعا عنها ..إنهم لم يسقطوا في فتنة الضراء لكن فتنة السراء هي التي أسقطتهم ودائما يجدون مبررات لسقوطهم..وحدهم أولياء الله تعالى من يصمدون أمام كل ترهيب وترغيب رافعين شعار الثبات في جميع الأحوال والظروف ..
….
لقد ظن هؤلاء الجهلة ان صالح النبي من ذلك النوع المدعي للإصلاح .. سخر نبي الله من سذاجة عقولهم وذكرهم من جديد بمبادئ دعوته التي أعلنها أول مرة .. وهي توحيد الله الواحد الأحد وتذكيرهم بنعمته عليهم وانه تعالى خلقهم من هذه الأرض يفسدون فيها وما هم الا مستخلفين فيها ومؤتمنون على خيراتها وليسوا أحرارا في التصرف بما يروق لهم .. لقد كان في هذا ثقافة جديدة لم يسمعوا فيها قبل صالح (ع) فاعتقادهم الراسخ إنهم أسياد الوجود والمتحكمين فيه.. اما منطق صالح النبي فهو يعكس الأمر تماما.. لذا فقد دعاهم للاستغفار والتوبة مما يعتقدون به من كفر وإشراك .. ..معلنا ذات مبادئه التي لم تتبدل او تتغير ...لا مساومة فيها ولا تنازلات ...
((وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب)) هود: 61
وحين عجز المسرفون المنحرفون عن التأثير عليه كشفوا عن وجوههم القبيحة وبدلوا إسلوبهم الدبلوماسي المنافق ..
((قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)) هود: ٦٢
حين ينحرف المجتمع ويسلك سبيل الانحطاط ..تبدل القيم الصالحة وتحل محلها مفاهيم فاسدة فيكون الانحراف هو الأصل وقيم العدل والأنصاف هي الاستثناء الذي يجب أن يحارب .. عندها يكون مقياس التقييم الاجتماعي هو أهواء نفسية ورغبات شاذة فالأصلح والأكثر احتراما هو ما تماشى مع تلك الأهواء وما تعارض فهو الأسوأ وان حمل مبادئ السماء .. لقد كان صالح مرجو فيهم قبل أن يأتيه أمر الله بالدعوة ويأملون فيه ان يكون من أشراف القوم وفق مفهوم الشرف لديهم .. ولكن بعد أن أعلن دعوته بعبادة الواحد الأحد وأمرهم بترك عبادة ما دونه صار غير مرجو فيهم..انه المنطق المقلوب في كل زمان ومكان ..
((قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير)) هود: ٦٣
لم يعبأ نبي الله بما يقولون ولا يهمه أمر خيبة رجاءهم فيه بل يسعده ذلك طالما هو سائر على الصراط السوي المستقيم فهو على بينة من ربه وأي قوة تزعزع ثقته بعد ذلك .. وان الهداية للحق هي نعمة كبرى ورحمة عظيمة فيكون جزاء شكر تلك النعمة هي العصيان والجحود وعلى فرض مستحيل تنزلا عند الجماجم الفارغة يقول نبيهم (على فرض مستحيل ) ان أذعن لكم فهل تستطيعون نصري أم أنكم لا تزيدونني غير خسارة ...
لم يقصد نبي الله من محاورتهم إلاالتنزّل وفق منطقهم مهما بلغت سذاجته .. كذلك فإنه (ع) أراد ان يعطي درسا عقائديا وسلوكيا ومعنويا في أدب الحوار و بإقامة الحجة على القوم ..
قوى الاستكبار والإفساد يكتشفون أنهم أمام خصم لا تلين عزيمته ولا يتزحزح عن مبادئه فيكشفون النقاب تماما عن وجوههم الكالحة بالصفحة التالية من مواجهة الحق .. يلمح نبي الله في عيون القوم الشر لناقة الله .. فيحذرهم بشدة من ذلك .. فيؤجلوا المواجهة الى حين ...
كان منظرالناقة حين تأتي ليوم شربها مهيبا .. فرغم أنها دابة مظهرا الا إن جميع من يراها كان قلبه يخفق إجلالا لسحر خلقها ..
كانت دواب القوم تهرب منها من غير خوف ..وتمتلئ نفوس القوم حنقا وغيظا .. ويعلو الهمس المنافق الى صوت عالي
وتتحرك قافلة البغي في مقدمتها المستكبرين وأئمة الكفر وفي ركابها الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق الذين يتبعون كل من يحمل لهم رغيفا ولو كان مغمسا بدمائهم وكرامتهم ..هؤلاء الإمعّة البائسون هم الوقود الذي يحرك عجلة الطغاة التي سيكونون يوما تحت عجلاتها بعد انتفاء الحاجة بهم..
أول هدف مباشر لحملة الكفر كان المؤمنون من أتباع نبي الله وهم أغلبهم من المستضعفين .. الأقوياء بأنفسهم الكبيرة التي عرفت الحقيقة ودافعت عنها بوعي وإيمان ..
((قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون*قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون)) الأعراف: ٧٥ - ٧٦
لقد أراد المستكبرون من سؤال المؤمنين حول صدق رسالة نبيهم ليس الاستفهام الذي يقود الى الحقيقة بل لاستفزازهم وزرع بذور الشك والارتياب في عقيدتهم .. لكن هيهات للخفافيش ان تشكك في وجود الشمس .. لقد جاء رد المؤمنين قاطعا وثابتا وقويا .. لقد آمنوا بصالح (ع) نبيا ومرسلا من رب العالمين ..جوابا لم يجد معه معسكر الضلال الا ابتلاع خيبتهم مرة أخرى .. مؤكدين كفرهم ليس برسالة نبيهم فقط بل بما آمن به المؤمنون.....
الصفحة التالية من المواجهة ..
كان عنوان هذه الصفحة هو التحقير والتشهير وحملات السخرية والاستهزاء وهو سلاح وان كان سلاح العاجز المنهزم الا انه يبقى سلاحا مؤثرا وله تأثيره في أكبر النفوس ثقة ..
ورغم قوة هذا السلاح الا انه لم يفت في عضد المؤمنين بل زادهم تمسكا بمبدئهم .. لينتقل المستكبرون لصفحة أخرى ..
في هذة الفترة وبعد تمادي القوم بطغيانهم أخذت الطبيعة تشح عليهم بخيراتها .. ويبدأ وضعهم الاقتصادي بالتدهور لذا فأن الكافرين أخذوا بإلقاء اللوم على صالح (ع) ودعوته .. ولم يربطوا بين ما آل اليه حالهم من سوء وبين عنادهم سوء أحواله وسوء عقيدتهم ونفوسهم .. ولم يلتفتوا الى تحذير نبيهم في وقت سابق لهم ..
قال جل شأنه (( قالوا أطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل انتم قوم تفتنون )) النمل - 47 .
وقفة
(( ان شعار ( إنّا اطّيرنا بك ) لطالما رفع في التاريخ بوجه المصلحين وعادة ما يرفعه أولئك المعاندون الذين تضررت مصلحهم غير المشروعة ممن اعتادوا حياة الترف والبذخ و الإسراف والذين يرون أي تبدل في الأوضاع الاقتصادية مصدر شؤم عليهم فلا يهمهم غير الحفاظ على تلك المنافع المادية بغض النظر عما يصيب المجتمع من انهيار قيمي .. وهم لا يرمون باللوم على سوء سلوكهم ونواياهم بل على الداعية المصلح الذي هو مصدر كل خير وفلاح في الأمة ..لقد رفع هذا الشعار بوجه الأنبياء والأولياء المصلحين تارة كفرا صريحا وتارة أخرى نفاقا وتلميحا .. وأحيانا يرفعه المحسوبين على صف الأيمان حين يتسلل الإحباط للنفوس التي لم تتحصن بجرعات الأيمان بما يكفي ..))
لم يتجاهل نبي الله هذا الشعار المرفوع خبثا لأنه يعلم انه شعار يحمل في شق منه حقيقة لا يمكن إنكارها .. فحقا ان أوضاعهم قد ساءت وتدهورت ولكن ليس بسبب دعوته المباركة بل بسبب عنادهم وكفرهم وتحديهم ...لقد أوضح لهم ذلك ورد ادعاءاتهم بشكل منطقي و واقعي وليس بأسلوب شعاراتي منفعل ..وأضاف عبارة (بل انتم قوم تفتنون ) لتأكيد أمرا يخص العقيدة وبالتحديد فتنة الابتلاء وفلسفته .. فالابتلاء ماهو الا فتنة واختبار وليس نقمة وعذاب انه تنبيهات ربانية لتصحيح المسار الخاطئ ومراجعة الذات في أخطاء مرتكبة ...
وتسقط هذه الورقة أيضا .. بل ويستثمرها نبي الله في تأكيد مبادئ رسالته ويكسب بها أنصار جدد ..
الوقوع في المحظور
بعد أن خسر أهل الكفر والضلال كل معاركهم المعنوية والنفسية مع معسكر الأيمان والهدي.. لجأوا الى التفكير في ذلك الأمر الخطير ..الذي حذرهم منه نبي الله وهو التعرض لناقة الله ..
ان معجزة الناقة لم تكن في خلقتها وخصائصها الظاهرية .. بل في تصرفاتها التي تثير الدهشة .((وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا))الإسراء: ٥٩
إن كلمة ( مبصرة ) تشير الى ان أفعالها تدل على وحدانية الله تعالى وترشدهم الى طريق الحق ،
كانت الناقة تسير بلا سائس يقودها لمكان شربها المعلوم لا تتعرض لأحد وتشرب في اليوم المخصص لها دون أن تخطأ مرة بغريزة الحيوان فتشارك القوم في يوم شربهم .. كانت وديعة هادئة مصدر خير وبركة للقوم حتى أولئك الذين يجحدون بنعمة ربهم وينوون بها شرا ففي اليوم المخصص لشربها كان القوم يشربون من لبنها فلا يبقى كبيرا ولا صغيرا الاّ و ارتوى من ذلك اللبن المبارك ...
ومن آيات الله الباهرة ان الناقة كان بداية أمرها تشرب جزء من الماء ومع مرور الأيام مع ازدياد كفر القوم وعنادهم كانت تزيد من كمية ما تشربه حتى صارت تشرب الماء كله أو معظمه .. وترعى ما شاءت بأمر ربها ..أنها حكمة بالغة لم تتمكن تلك العقول المعطلة والأدمغة الفارغة ان تستوعبها ...
لقد حاصرتهم الناقة اقتصاديا .. فكلما زاد كفرهم قل ماءهم .. لعلهم يرجعون فتنتهي معاناتهم فينعموا من جديد بخيرهم .. فالله تعالى هو الغني عن العباد فضلا عن عذابهم .. أنها إنذارات ليس الا ...
لكن القوم الذين توغلوا في طريق الكفر والضلال أغلقوا كل منافذ الهداية .. فلن يجدي معهم نفعا لا إنذار ولا تحذير ولا ابتلاء و لا حتى بلاء يصب عليهم استسلموا لشياطينهم التي تسيرهم الى نهايتهم التي كتبوها لأنفسهم ..
لقد فكروا بالأقتراب من المنطقة المحظورة .. ودخلوا في حدود دائرة تحدي الله تعالى في حرماته ..
التخطيط للجريمة
ان أي جريمة كبرى في التاريخ تحتاج لتهيئة الرأي العام لتقبل القيام بها .. لا بد للجناة ان يوفروا تغطية إعلامية تتناسب وحجم الجريمة المراد ارتكابها .. وبعد أن عزم المستكبرون من قوم صالح (ع)على عقر الناقة معجزة نبيهم التي طلبوها هم قاموا بالعزف على وتر الحاجة الى الماء .. والماء في ثمود يعني كل شيء ومسألة حرمان قوم يشتغلون بنحت الصخورمن الماء ليوم كامل يخصص لشرب الناقة التي مع تمادي القوم في كفرهم صارت تشرب الماء بالكامل .. لقد استغل المجرمون هذه المسألة تحديدا لتكون سببا لتأليب الرأي العام الغوغائي على ناقة الله التي يتغذون من لبنها ..
معدودة هي جرائم التاريخ الكبرى التي شكلت مفصلا رئيسيا في حياة الشعوب .. وترتبت عليها أحداث جسام .. هذه الجرائم يرتكبها مجرمون اختصاصيون محترفون لا يمتازون فقط بأبشع الصفات النفسية وأرذلها وأشدها قسوة بل بملامح جسدية شاذة ويتربون وسط بيئة شديدة الشذوذ والانحراف الأخلاقي والسلوكي فكل هؤلاء المجرمون هم أولاد غير شرعيين لآباء مجهولين .. وتلك مسألة تكررت في التاريخ كثيرا فقتلة الأنبياء وأولاد الأنبياء والأولياء والصالحين لم يقتلهم إلا وغد لا يعرف له أب ....إن هناك علاقة كبيرة بين نطفة الحرام التي تتكون من علاقة محرمة تنتهك القانون الشرعي ومخالفة قانون العلاقات الإنسانية السائدة وبين انتهاك قوانين الطبيعة الأخرى كالقتل والإفساد في الأرض ..من هنا نفهم تشديد الشارع المقدس على عدم مقاربة الزنا .. لأنه يمثل مصدر كل انحراف وطغيان وفساد ..
ظل القوم على إجرامهم مترددين خائفين .. ينظر بعضهم لبعض ... من يجرؤ على هذا الفعل المشين ؟؟
دام الصمت طويلا قبل ان يقطعه .. ذلك الوغد ذو النفس الخبيثة .. رجل أحمر أشقر أزرق ولد غير شرعي لا يعرف له أب ( وهذه الأوصاف الظاهرية المشتركة للمجرمين الخارقين للعادة ) رجل يقال له قدار وقد أغوته أحدى الساقطات بتزويجه من إحدى بناتها ..إذا عقر الناقة .. إنها أجساد آدمية تحركها غريزة الانتقام .. أما لماذا؟ فهو السؤال المحير الذي تصعب الإجابة عليه ..انه يرتبط بطبيعة النفس وكيف أنها تصل في مرحلة من مراحل تسافلها وانحطاطها الى درجة من الظلمة والعتمة ومع الشعور بالحقد على المجتمع الذي ينظر الى صاحبها بعين الازدراء والدونية وقبح المنظر ..كلها عوامل تتعاضد مع عوامل أخرى تجعل من هذا المجرم استثنائيا..يبحث عن خصم استثنائي .. لا يجده الا في قيم السماء حيث الطهر والنقاء والخيرمجسدة في أولياء الله والصالحين ..... وليس من الضروري أن تكون هناك علاقة عداء مباشرة بين الخصمين بل عادة لا توجد علاقة ظاهرة أصلا ..
ولكنه عداء ثنائية الأضداد ..ليل ونهار .. ظلمة ونور ..دنس وطهر ..الكون كله قائم على تلك الثنائية القدرية بالتالي فكلما كان هناك معسكر للخير يحمل قيم السماء سيقابله معسكر للشر يحمل قيم الأرض المنحطة .. وكلما سمت منزلة من يمثل معسكر الخير كلما ظهر خصم له عظمت درجة انحطاطه وتسافله وشقاءه ممثلا لمعسكر الشر ...
قدار اللعين لم يقدم على عقر الناقة الا كونها ناقة الله .. والقوم الكافرين ماتعاضدوا على قتلها الا انتقاما ونيلا من نبيهم الذي أوصاهم بها .. ماذا يعني ذلك ؟؟ ذلك يعني انهم ارتكبوا جريمتهم عن وعي وإدراك وتصميم ..ولم تكن ذريعة شربها للماء وتضررهم من ذلك سوى مبرر ظاهريللجريمة البشعة ..
ولو كانوا صادقين في دعواهم لرجعوا الى نبيهم لراجعوا الأمر ولخرجوا بحل .. ولكنهم تآمروا على قتل الناقة منذ وقت طويل حتى قبل ان تشرب كل الماء .. لقد انخدع بعض السذج من الهمج الرعاع بالمبررات التي ساقها قادة معسكر الضلال ..حتى تهيأ الرأي العام ليس في تقبل جريمة اغتيال ناقة الله بل والمطالبة في ذلك والمشاركة في ذلك الفعل المشين ...
وقفة :
مسألة تهيئة الرأي العام - وصناعته ان استلزم الأمر - مسألة غاية في الأهمية فكثير من القرارات التي فشلت كان سبب فشلها هو عدم وجود ذلك الرأي العام المعبأ لتقبلها مع ملاحظة أنه كلما كان الوسط الاجتماعي متخلفا ساذجا كلما كان صنع أو تهيئة الرأي العام سهلة يسيرة ..
تنفيذ الجريمة النكراء
في أحد الأيام السوداء في تاريخ البشرية الجاحدة .. وفيما كانت الناقة .. ذلك المخلوق البريء مصدر غذائهم وخيرهم وسعادتهم التي لم يعرفوا قدرها .. تخرج لشرب الماء كعادتها بلا حارس يحرسها ولا سائس ومعها فصيلها ..حتى تتبعها المجرمون وما إن أكملت شربها وأقبلت راجعة ..حتى انبرى لها ذلك الشقي خلاصة شر الأولين .. ضربها بالسيف مرتين وقعت على الأرض .. رغت رغاءا مخيفا لتحذير فصيلها الذي هرب الى الصخرة التي خرج منها .. ثم طعنها اللعين في لبتها فنحرها ..لترتكب أكبر .. وأبشع جريمة في التاريخ القديم ..
طبيعة الجريمة
حقا ان قدار اللعين هو من قتل ناقة الله .. وقام بدور فردي .. لكن المجتمع الكافر الجاحد هو الآخر يعتبرقاتلا فعليا ومباشرا .. ان الجريمة تتخذ صفة العموم حين يكون الضمير الجمعي راضيا بالفعل أو مرحبا بنتائجه حينها يكون المجتمع هو المرتكب لها وان نفذها شخص او أكثر بصورة مباشرة ..
فالمجتمع الذي لا يمنع الجريمة ويرضى بارتكابها ويغرس ثقافتها او تبريرها في نفوس أبناءه والمجتمع الذي يحتضن المجرم او يسهل فعله أو يمهد له أو يخطط أو يرحب بنتيجة فعله هو فاعل حقيقي ومباشر للجريمة ..والمجرم حين يجد الحاضنة الاجتماعية الفاسدة ويأمن العقاب الاجتماعي ..فإنه يرتكب الجريمة باسم المجتمع ونيابة عنه ...
الجريمة إذن نتاج طبيعي لانحراف اجتماعي والمجرم ابنا شرعيا لمجتمع ترسخت فيه ثقافة الأنحراف ..
من هنا نلتفت الى حقيقة تأكيد الشرع المقدس على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من التهاون بها فضلا عن تركها ..لقد أصبحت ثمود كلها مجرمة وخاطئة مستحقة لغضب ربها ..
بعد تنفيذ الجريمة
الناقة بجسدها المهيب وشكلها الجميل بضرعها الممتلئ لبنا المهيء لشربهم .. مصدر خيرهم وبركتهم .. الناقة التي لم تؤذي أحدا ولم ترتكب جرما .. تسبح في دماءها شاكية الى ربها ظلم قوم مجرمون ... الذين لم يكتفوا بقتلها بل أخذوا يأكلون لحمها يتقاسموه بينهم .
ويصل الخبر الفاجعة الى نبي الله صالح (ع) الذي ينتابه حزن شديد لقد كتب القوم الكافرين نهايتهم بأيديهم القذرة .. لقد تخطوا الخط الأحمر الذي رسمه لهم .. لقد استباحوا حرمة الله تعالى .. هرع مسرعا الى حيث مكان الجريمة المروعة
لقد نسب الحق ( سبحانه وتعالى ) فعل العقر اليهم جميعا كما أسلفنا ثم قال لهم نبيهم المفجوع بهذا النبأ تمتعوا بداركم ثلاثة أيام هي مهلة لا يستحقوها من حليم كريم ثلاثة أيام لا يستحقها القوم المجرمين وجاءت لفظة تمتعوا للدلالة على عظم ما سيواجهون من عذاب ..
هذه المهلة من التمتع بدأت من يوم الأربعاء ..هذا الأربعاء العجيب .. الذي يرافق غالبا الأحداث الجسام في التاريخ ( كما قلنا ) كان يوم عيدهم وهو يوم خروج ناقة الله .. ويقولون باستهزاء لنبيهم .. متى يكون ذلك ؟
يجيبهم نبيهم (ع) بكل ثقة من وعد ربه .. ان من علامات نزول العذاب ان تصبح وجوههم يوم مؤنس (الخميس ) مصفرة ويوم العروبة (الجمعة ) محمرة ويوم شبار (السبت )مسودة ...
ويأتي يوم الخميس فتصفر الوجوه فيقول بعضهم لبعض هذا ما وعد به صالح(ع) .. فيرد الطغاة منهم لا نسمع من صالح ولا نقبل منه وان كان حقا .. وتأتي الجمعة فتحمر الوجوه ويرجع بعضهم الى بعض هذا ما وعدنا صالح .. ويرفع المستكبرون لواء الإصرار .. وكان القوم كل ما تحققت علامة خافوا أكثر وحدّث قسم منهم نفسة باللجوء الى نبيهم ولكن كبار مسرفيهم وقادة الكفر أقعدوهم وخدعوهم بخطوة سيقدمون عليها سيكون فيها الحل .. ويصدق السذج ذلك وينتظرون سادتهم وعلى ماذا يقدمون ؟؟
وهم كبراء مجرمي وقادتهم ثمود .. وقد قرروا قرارا أخطر من قتل الناقة .. لقد قرروا قتل نبيهم هذه المرة .. أي قوم هؤلاء وأي انحراف أنتجهم وأي انحراف ينتجون ؟
لقد خططوا لاغتيال نبي الله وأهله ليلا فإذا طالبهم ولي الدم (لقد حسبوا حسابا لقانون العشيرة ) .. فقالوا ان حدث وشكّوا فينا سنحلف على عدم مشاهدة مهلك أهله اذ انهم شاهدوا قتل صالح مع أهله وليس أهله فقط .. هو مكر بائس يدل على ضحالة العقول وسذاجتها تلك العقول التي تحسب حساب للعشيرة وقانونها ولا تحسب حسابا لجبار السماوات والأرض ..
ويتحرك الحمقى لتنفيذ جريمتهم وهم سود الوجوه في يوم مهلتهم الأخير .. أي عناد هذا .. أي قابلية تحدي لدى هؤلاء ..؟؟ وحين يأتوا ليلا الى بيت نبيهم الكريم لتنفيذ ما خططوا له .. يجدون السماء التي لم يحسبوا لها حسابا بانتظارهم لتمطرهم بالحجارة .. بذلك الشيء الذي عبدوه هي ذات الحجارة تردهم جهنم وبئس المصير ..
حين عرف القوم بما حل بمجرميهم أتهموا صالح النبي بقتلهم وهموا بقتله بهم لولا ان عشيرته قالوا لهم ان الرجل قد وعدكم بعذاب ينزل بكم من ربه فإن كان صادقا فلا تزيدوا غضب الله عليكم وان كان كاذبا سلمناه لكم لتقتصوا منه .. انه رأي حكيم رضي به الجميع ..
وينتهي يوم السبت ويتيقن الجميع من نزول العذاب كما أخبرهم نبيهم .. والغريب ان لا أحد فكر بالعودة وركب الجميع قطار عنادهم حتى آخر محطاته .. ما الذي منعهم من ذلك ؟؟ يفترض أنهم يطلبون الدنيا والنجاة وقد تيقنوا من الهلاك ما الذي منعهم من أظهار توبتهم ولو نفاقا .. إنه التوفيق الإلهي للتوبة ..
وقفة :
التوبة ليست قرارا شخصيا منفردا يتخذه المرء متى شاء .. انه عون من الله (عزوجل ) و توفيق منه إبتداءاوإنتهاءا وإن رافقها وكان من ضرورياتها .. جهاد ومجاهدة واستبصار ويبقى الأمل ببلوغ التوبة قائما وفي كل الأحوال وإن تضاءل شيئا فشيئا .. لكن مع بلوغ الظلمة النهائية للنفس ووصولها لتلك الدرجة من العتمة والتي لا تسمح معها بتسلل أي مقدار من نور الهداية تتلاشى كل معالم طريق العودة ولا يبقى للتوبة وجود في قاموس المعاندين ..
********************
لقد أسودت قلوب قوم صالح قبل أن تسود الوجوه وما كان اسوداد الوجوه الا انعكاس لظلمة الأرواح ...
ويأتي يوم الأحد .. القوم الحمقى المعاندين محنطين أنفسهم ومكفنين ينتظرون نزول العذاب .. ويستبد بهم الخوف والترقب .. ترى ماهو شكل ذلك العذاب ؟؟ كيف هو ؟؟ من أين يأتي ؟؟ أهو طوفان كعذاب قوم نوح ؟؟ لقد أخذوا تدابير لذلك فجعلوا بيوتهم في أماكن مرتفعة جدا بمنأى عن أقوى طوفان .. أهو مثل عذاب عاد بالريح العقيم العاتية .. لقد حسبوا حسابا لذلك فنحتوا بيوتهم في الصخور وجعلوا ابوابا ضيقة يتحكمون في إغلاقها ..
لم يدم تحيرهم كثيرا وان كانت كل لحظة انتظار وخوف وذعر لديهم تساوي دهرا ..
في صباح يوم الأحد وفيما هم ينظرون من حولهم يترقبون بذعر الطبيعة حولهم التي بدت صامتة مخيفة وهي التي كانوا بها يمرحون بها يلعبون ويفسقون هي اليوم موحشة يرعبهم فيها حتى حركة أوراق الشجر اليابسة .. ويأتي عذاب ربهم .. صرخة من السماء لا يعلم ماهيتها ومدى قوتها الا الله تعالى .. تخرق أسماعهم .. وتفلق قلوبهم .. وتصدع أكبادهم .. فيموتوا مبهوتين مذعورين جاثمين على وجوههم تلك الوجوه التي طالما شمخت بأنوفها على عباد الله تستخف بهم وتحتقرهم .. هي اليوم ممرغة بالتراب .. لقد ركع الجبابرة أخيرا صاغرين .. ذهبت قوتهم .. متعهم الزائلة .. طغيانهم .. استهزاءهم بنبيهم الذي عانى منهم كثيرا .. لقد ذاقوا الخزي الدنيوي والعذاب السرمدي يوم القيامة .. لقد بقيت بيوتهم المحصنة على حالها لم يهدمها طوفان ولم تقتلعها ريح ولكنها اصبحت خاوية تحكي قصة الأنسان وغروره وجهله وعناده
أخيرا
لقد أضافت ثمود نفسها لقائمة المجتثين السوداء فأصبحوا عبرة لمن يعتبر ... لقد خرقت ثمود القانون الإلهي وسارت بعكس سنن الحياة .. وان بقاءهم يشكل خطرا على مسيرة الإنسان على هذه الأرض .. كان لابد من اجتثاثهم لتنشأ خلية صالحة للإنسانية في مكان آخر وتتعرض لامتحان جديد .. اما ان تفشل فتقتلع وأما أن تنجح ولا تخترق الخطوط الحمراء التي تستوجب الغضب الإلهي فتستمر وتمتع الى حين .. تلك سنة الله تعالى في خلقه ..
لقد فشلت ثمود في الاختبار رغم أنهم منحوا أكثر من فرصة .. كما فشل من قبلها من الأمم نوح وعاد ..فيما أنجا الله تعالى صالح النبي الذي نجح في أداء رسالته على أكمل وجه .. صبر وثبت وجاهد وأخلص لله سبحانه ومعه المؤمنين متعهم الى حين على أمل ظهور أجيال جديدة .. حضارة جديدة ..في مكان آخر ..لتستمر عجلة البحث عن الذات لبشرية ظالمة لنفسها ... بانتظار غد أفضل ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat