بصائر عاشورية 4 ( روائع كربلاء المسؤولية )
مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مكتب سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)

<<< بصائر عاشورية >>>
الحلقة : الرابعة
بعنوان : ( روائع كربلاء المسؤولية )
ان في واقعة الطف لقطات متعاظمة بصورة لا تنتهي إلى حد يقف عنده الأمل والرجاء، ولا تنقطع الإرادة عند مدى تستنزف فيه الطاقة. فما هي تلك وماهو المخزون الممد لذلك.. فبدءاً بسيد العترة فإنه منذ قبل ولادته وهو حَملٌ بُشرت به البضعة البتول (عليها السلام) وما يجري عليه من عظايم الكروب ومحن البلاء وشدائد المصائب. ورغم التذكير الوحياني تدريجاً بتفاصيل الأحداث التي ستقع في ملحمة الطفوف على النبي وأصحاب الكساء -أهل آية التطهير- (عليهم السلام) لم يكن ذلك يثني حسين المسؤولية ولا ينثني عن المضي قدماً إلى مواجهة الكابوس الذي جثم على الدين والأمة، يجاهد قسطل الكفار تدبيراً وتعبئة للإمور والأجيال فاتحاً سنة في منهاج الشريعة تبقيها محفوظة مصونة عن عبث بني أمية وطلقاء قريش. ولم تزلزل أبا الأحرار (عليه السلام) كل الإخفاقات التي انتكست بها الأمة ولا التقاعس الذي تخاذلت به ولم يبعده عن ثاقب التدبير وبعيد غور حكمة الإدارة لتداعيات الأحداث بما تتصل وتصل إلى الأجيال اللاحقة للأمة، بنحو فاعل لا يعرف الخمود، وجهد لا ينتابه كلل، وتدبير لا يعيي في إتقان ما وراء الحدث المحتوم من خيارات عديدة وتموجات كثيرة محلاً للتخطيط وأمل متدفق لا يقنط ورحابة أفق لا منتهى لمداه، حتى بعد تساقط واحد بعد واحد من عيون أهل بيته ونجوم أنصاره، بل حتى آخر أنفاس تلفظها أبي الضيم (عليه السلام) لم ينثني عن طريقه ولا انكسر عن منهاجه، حتى قضى فاتحاً بتدبيره وإرادته أبواب الهدى قامعاً ظلام الردى الذي أُسس في السقيفة وأثنيَ بمسلم بن عقيل، فمهما تركته كل الأمة وبقي وحيداً فها هو لا يستسلم انكساراً عن مشروعه، ولا يتضرع وإن وقع في قبضة الدعي بن الدعي. وأثلث بالعقيلة (عليها السلام) التي تجرعت جبالاً من المآسي وبحاراً من الغصص وهوائل عاصفة من الهزات النفسية، إلا انها لم تحد قيد شعرة عن طموح الإصرار على إنجاز أهداف المسؤولية، سواء في الكوفة أو الشام وبعدها في مدينة جدها المصطفى (صلى الله عليه وآله) إلى درجة اضطرت سلطات بني امية إلى إبعادها عن المدينة. مع ان العقيلة تعلم بكل ما يحدث عندما أخبرت من أمير المؤمنين (عليه السلام)، فما الذي كانت تسعى لبؤة حيدر لإنجازه؟! انظر إلى قولها المنبثق من الأفق المفتوح الواسع بسعة الإيمان باسم الله الواسع العليم، المتولد منه تدبير وتخطيط معرفي إداري للأزمات المستصعبة بما يوجب قلب أوراق الأحداث إلى درجة تتقوض تماسك السلطة الاموية إلى إبعادها عن مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن واجهت مسرح المواجهة المحتدمة الملتهبة في مركز القدرة الأموية في الكوفة والشام.. قالت: “أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء فأصبحنا لك أسارى نساق إليك سوقاً في قطار وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هواناً وعليك منه كرامة وامتنانا وان ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك …. حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور لديك منسقة وحين صفا لك ملكنا وخلص لك سلطانا فمهلا مهلا لا تطش جهلاً؟ أنسيت قول الله عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}”، فانظر كيف شقت كابوس البلايا والأفق المظلم المطبق بنظرة معرفية قرآنية استراتيجية ينبثق منها وضوح الرؤيا الإيمانية بسعة حكمة اقدار الله تعالى وغور تقديره وثاقب بالغ أمره الذي لا يفلت من قبضة مقاديره وتدابيره نمرود الفراعنة الأمويين ولا صرح بنيان السفيانيين ولا فتنة السقيفيين. فتلخص ان باهر روائع صمود ابطال مدرسة الحسين (عليه السلام) في تحملهم للمسؤلية إنما يتدفق الأمل وقوة وحزم التدبير في إدارة الواجب الوظيفي العام تجاه مصير الدين وحضارة بناء الامة من جملة من الامور :-
1- ان البداء -لا سيما البداء الأعظم الذي تشيد معرفته بالله المتعال- لا يحول دون احتمال وقوعه إلا ما كان وعداً ميعاداً إلهياً، وما سواه فكله في معرض البداء، وإن كان قدراً محتوماً وقضاءً مبرماً قد تنزل وحيه منه تعالى، وفي القرآن أمثال لذلك كثيرة بينها أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، فقبل الوقوع للحدث الفرصة لا تغلق والسعي وسيع بوسع مشيئة الله ولا تناهي علمه.
2- لو قدر ان أصل الحدث واقع لا محالة لا تبديل ولا تغيير فيه كشهادته (عليه السلام) فإن خصوصيات الحدث والواقعة زماناً ومكاناً وظروفاً وملابساته وآلياته وغير ذلك من جزئيات مشخصات الواقعة ليست بالضرورة محتومة ومبرمة بل مجال التبديل والتغيير وتحسين النتائج واستثمار الفرصة فيها واسع وسيع وهو مما يترتب عليه خسارة العدو وتفويت فرص النجاح لمشروع إفساده.
3- انه لو قدر ان الأمرين السابقين محتومان ومبرمان لكن تداعيات الحدث وآثاره وما وراءه من نتائج وردات أمواج ليست كذلك بل مجال المعالجة والتدبير وأفق التخطيط فيها مفتوح رحب رحاب آفاق البحور والمحيطات، فساحة الحركة والحراك فسيحة لا إغلاق فيها ولاضيق ولا إضيقاق.
كل تلك المعرفة الوجه الآخر لمعرفة مدى قدرة وقوة وسعة تدبير الله تعالى وانه لا يحكم على الله حدث ولا واقع مهما تعقدت مكارهه وحدت شدائده.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat