الجواهري شاعر العرب الاكبر
خالد محمد الجنابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري في محافظة النجف الاشرف في السادس والعشرين من تموز عام 1899 م ، وكان والده عبد الحسين عالما من علماء النجف و أراد لابنه ان يكون عالما بعد ان بدت عليه ميزات الذكاء لذلك ألبسهُ عباءة العلماء وعمامتهم وهو في سن العاشرة .
تحدَر الجواهري من اسرة نجفية عريقة في العلم والادب والشعر تعرف بآل الجواهر ، نسبة الى احد اجداد الاسرة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر ، والذي ألَف كتابا في الفقه اسماه (جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ) وكان لهذه الاسرة ، كما لباقي الاسر الكبيرة في النجف مجلس عامر بالأدب والأدباء يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية .
لقد قرأ الجواهري القرآن الكريم وهو في سن مبكرة لذا فقد ارسله والده الى مدرسين كبار ليعلموه النحو والصرف والبلاغة ، وقد كان قوي الذاكرة ، سريع الحفظ ، ويروى انه في احد المرات وضعت امامه ليرة ذهبية وطلب منه ان يبرهن عن مقدرته في الحفظ وتكون الليرة له فغاب الفتى ثماني ساعات وحفظ قصيدة من ( 450 ) بيتا واسمعها للحاضرين وقبض الليرة ،وكان ابوه يريده عالمًا لا شاعرا‘ لكن ميله للشعر غلب عليه ، وفي عام 1917 توفي والده وبعد ان قضيت ايام الحزن عاد الى دروسه وأضاف اليها دروس البيان والمنطق والفلسفة .
كان في بداية حياته يرتدي العمامة لباس رجال الدين لأنه نشأ نشأة دينية محافظة ، وأشترك في ثورة العشرين وهو لابس العمامة ، بعدها أشتغل فترة قصيرة في بلاط الملك فيصل الاول عندما توج ملكا على العراق وكان لايزال يرتدي العمامة ، ثم ترك العمامة كما ترك الاشتغال في البلاط الفيصلي وراح يعمل بالصحافة بعد ان غادر النجف الى بغداد ، وقد اصدر مجموعة من الصحف منها جريدة الفرات وجريدة الانقلاب ثم جريدة الرأي العام .
الجواهري ومنذ ان وعى ذاته وقدراته الذهنية والاستيعابية والابداعية في مجال الشعر راحت تعتمر في داخله غربة عارمة اكتشف من خلالها كل مايدور من حوله وكانت شخصيات البحتري والمتنبي وابي تمام وبشار بن برد وابي العلاء المعري تتلبسه بعنف وتلوي عنقه باتجاه ابداعاتها وطرائق حياتها ، واساليب معيشتها ومواقفها أزاء مجتمعاتها ، في النهاية أضحت واحدة من هذه الشخصيات تعيش وتأتلف معه وتنادمه ووجد ذاته تتغرب تدريجيا وتبتعد عن تلك الاجواء المفعمة بطقوس الفقـــه وعلوم الدين ، وتتجه صوب ماأراد لها ان تكون ، وتتغنى بلغة هي ليست اللغة التي أرادها له ابوه ، وليست اللغة المستعملة بين الناس في التفكير ، لأن الناس لايفكرون شعرا .
الجواهري واحد من ذلك الرهط الشامخ بل هو اولهم ، رهط امرىء القيـس ، وطرفة بن العبد ، وعروة بن الورد ، والبحترى ، وابي تمام ، والمتنبي ، وابي العلاء المعري ، ينتمي اليهم في شموخهم ولغتهم وفنهم ، ولكنه لاينتمي الى عصورهم ، وتفرد عنهم في شخصيته الابداعية المتميزة .
مع مرور الوقت ونتيجة الموهبة الشعرية التي يمتلكها بدأ بكتابة ابيات من الشعر وسرعان ماتحولت الابيات الى قصائد ثم الى روائع ، وأول قصيدة له كانت قد نشرت في شهر كانون الثاني من عام 1921 ، وأخذ يوالي النشر في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية ، ومن القصائد التي نشرها وهو في العشرينيات من عمره قصيدة جربيني وفيها يقول .
جربيني قبل ان تــزدرينــــــــــي واذا ما ذممتني فاهجرينــــــــي
لاتقيسي على ملامـــــح وجهــــي وتقاطيعه جميــــــــع شؤونــــي
إن لـــي في الحياة طبع رقيــــــق يتنافى ولــــون وجهــي الحزين
قربينـــــي من اللذاذةِ المسهـــــــا اريني بداعـــــــــــة التكـويــــن
انزليني الى الحضيض اذاماشئت او فــــوق ربـــــــــــوة فضعيني
احمليني كالطفل بين ذراعيـــــــك احتضــــانا ومثله دللـــــــــــيني
واذا ما سئلــــت عنــــي فقولـــــي ليــــــس بدعا ً اغاثة المــــسكينِ
ِلـــــست أما ً لكـــن بأمثال هـــــذا شـــــاءت الامهات ان تبتلــــيني
بسبب الموهبة الشعرية الفذة التي كان يمتلكها تمكن وفي فترة مبكرة جداًً من مجاراة كبارالشعراء آنذاك كالزهاوي والرصافي حتى انه كان يدخل في مزاحات معهم بحيث قال في نهاية قصيدته ( جربيني ) مخاطبا الزهاوي .
فغدا يستبيــــــــــك رضـــوان ويلقيك بين حـــــــــور وعيــــــن
وأنا فــــــي جهنـــــــم بيـــــن أشيــــــــــاخ بغيـــــــــم غمروني
عـــن يســــاري اعمى المعرةِ والشيخ الزهاوي مقعدا ً عن يمني
ولما قرأ الزهاوي القصيدة ( وكان مصابا بداء أقعده عن الحركة ) كتب الى الجواهري يقول ( أما يكفي أنني مقعد في بيتي حتى صيرتني مقعدا في جهنم ) ، أما الرصافي فقد كان يطرب لسماع قصائد الجواهري ويترنم بها وبدأ يحفظــــها ويــرددها حتى غــدا الشاعر الكبير الرصافي معجباً كـــبيراً ومحباً نادراً لقصائد الجـــــــواهري وتعـــبيرا ًعـــن هــذا فلــقد كتب الرصافي رائعته التي تحمــل عنــــوان ( الجواهري ) وفيها يقول :
اقـول لرب الشعرمهدي الجواهري الى كم تناغي بالقوافي السواحرِ
فترسلها دررا ً تصاعـــد في العلى يــــزودُ منها سمعه كل شـــاعرِ
استمرت العلاقة الحميمة بين الجواهري والشاعرين الكبيرين الزهاوي والرصافي حتى أخذ الزهاوي يردد قصائد الجواهري في المجالس الادبية التي تعقد في مقهى الادباء المعروف بـ (مقهى الزهاوي) الشهيرالذي يقع في شارع الرشيد ببغداد وكان الزهاوي يطلب من الجواهري الحضور الى تلك المجالس وراح يحضرها لحين وفاة الزهاوي فما كان من الجواهري إلا ان ينعية برائعة خالدة عنوانها ( الزهاوي) والتي مطلعها :
على رغم أنف الموت ذكرك خالد ترنُُُُ بسمع الدهـــــر منك القصائدُ
نعيت الى غر القوافـــي فأعولـــت عليك من الشعــر الحسان الخرائد
حروف القصيدة كانت تبكي بعضها بعضا بسبب ما جاشت به قريحة الجواهري العظيم من كلمات مؤثرة ولا عجبا بذلك حيث ان الذي يرثي هو الجواهري والذي يرثى هو الزهاوي ، يستمر الجواهري في رائعته مخاطبا الزهاوي قائلا :
أبا الشعر ، إن الشعر هذا محلــــــه فقد نصت الاسماع والجمع حاشد
وهذي جيوش العلم والشعر تبتغـــي لها قائدا فذا فهل أنت قائـــــــــد؟
بعد ذلك يخاطب جمع الشعراء فيقول :
أقول لرهط الشعر يبغون باعثـــــا عليه ، تثير الشعر هذي النضائد
هلمٌوا الى قبر الزهاوي نقتنـــــص به نفســـا من روحـــه ونطــارد
ثم يختتم رائعته الخالدة بأبيات أسمى من الوصف ، أبيات أمتزج فيها الحزن بالشموخ ولوعة الفراق بروعة التعبير ، حيث أختتم القصيدة بهذه الابيات :
أبا الشعر والفكر المنبَــة اُمــــــــةً عزيز علينا إنك اليوم راقــــــــدُ
وإن الذي هزَ القـلـــوب هوامــــدا وحركها في الترب ثاوٍ فهامــــد
وإن فؤادا شعً نــــــــورا وقـــــوة هو اليوم مسوَدُ الجوانب بــــارد
فهل أنت راض عن حياةٍ خبرتهـا ممارسة أم أنت غضبانٌ حـارد؟
أضاعـوك حياً وأبتغــوك جنـــازة وهذا ألذي تأباه صيدٌ أماجـــــــد
ومن قصائده الشهيــرة التي كتبها في أيام الشباب قصيــــدة ( ليلة معها ) والتي قال فيها :
لااكذبنك أننـــــــي بشـــــــــرٌ جمُ المساوي آثم أشـــــــــــرُ
لاالحب يطأ من نفســـــــــــي ولا رفيقــــــــي النظـــــــــرُ
ترك النجف عام 1927 ليعين مدرسا في المدارس الثانوية ولكنه فوجىء بتعيينه على الملاك الابتدائــــي في الكاظميــــــة وخلال عام 1928 أصدر ديوانـــــه الذي اسمـاه (بين الشعور والعاطفة ) نشر فيه ماأستجد من شعره ، ثم استقال من البلاط عام 1930 ليصدر جريدته ( الفرات ) وقد صدر منها عشرون عددا ثم الغت الحكومة امتيازها فآلمه ذلك كثيرا ، وحاول ان يعيد اصدارها لكن دون جدوى ، فبقي بدون عمل الى ان عين معلما في اواخر عام 1931 في مدرسة المأمونية ، ثم نقل الى ديوان الوزارة رئيسا لديوان التحرير وفي عام 1935 أصدر ديوانه الثاني بأسم ديوان الجواهري .
في عام 1936 أصدر جريدة ( الانقلاب ) اثر الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي وعندما شعر بأن الانقلاب بدأ ينحرف عن اهدافه التي أعلن عنها أخذ يعارض سياسة الحكم في ما ينشر في هذه الجريدة ، فحكم عليه بالحبس ثلاثة اشهر وبأيقاف الجريدة عن الصدور شهرا واحدا وقد غير اسمها في ما بعد الى جريــــدة ( الرأي العام ) بعد سقوط حكومة الانقلاب ، لكن ايضا عطلت عن الصدور اكثر من مرة لما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة .
في عام 1936 توفيت عقيلته ( أم فرات ) بسبب عارض مؤلم لم يمهلها سوى يومين وقد كان الجواهري في بيروت لحضور المؤتمر الطبي العربي مندوبا عن العراق ، وعند وصول الخبر اليه تخلَى عن الالتحاق بالمؤتمر وقد نظم وهو في بيروت رائعته الخالدة التي يرثي بها عقبلته وعنوانها ( ناجيت قبرك ) والتي نشرت في جريدة ( الرأي العام ) العدد 178 في 18 /3 / 1939 ، ومنها :
في ذمة الله ما ألقى وما أجــــــد أهذه صخرة أم هذه كبــــــــــــــد
قد يقتل الحزن من احبابه بعدوا عنه فكيف بمن احبابه فقـــــــــدوا
ليت الحياة وليت الموت مرحمة فلا الشباب ابن عشرين ولا لبـــد
يستمر الجواهري في رائعته ثم يحيي (أم فرات ) ويطلب منها ان ترد التحية بروحها التي تعيش معه ، حيث لم يتبقى له منها سوى صلة الروح ، فيقول :
حيَيـت ( أم فرات ) ان والـــــدة بمثل ما انجبت تكنى بما تلــــــــد
بالروح ردي عليها انها صلــــة بين المحبين ماذا ينفع الجســـــــد
البكاء والدموع التي ذرفهــــــا الجواهري لم يسبــق لغيره من الشعــــراء أن يصفهما ، الوصف كان اعجازا متناهيا ، تفوق على كل وصف من هذا النوع ورد في شعر المعلقات وقصائد الشعر الجاهلي الاخرى بل كان اروع مما ورد في رائعة المتنبي التي رثى بها أخت سيف الدولة ، حيث قال الجواهري :
عزت دموعي لولم تبعثي شجنـا رجعت منه لحر الدمع ابتــــــــرد
خلعت ثوب اصطباركان يسترني وبان كذب ادعائي انني جلــــــــد
بكيت حتى بكى من ليس يعرفني ونحت حتى حكاني طائر غــــرد
كما تفجر عينا ثرة حجــــــــــــر قاس تفجر دمعا قلبي الصلــــــــد
الحميمية الكبيرة بين الزوجين ( أبا فرات وأم فرات ) تجعل الجواهري يستمر في بناء القمة الشعرية بيتا فبيتا ، فيقول :
مدي الي يدا تمدد اليك يـــــــــــد لابد في العيش او في الموت نتحد
ناجيت قبرك استوحي غياهبــــه عن حال ضيف عليه معجلا يفــد
ولفني شبح ما كان اشبهـــــــــــه بجعد شعرك حول الوجه ينعقــــد
أيام ان ضاق صدري استريح الى صدر هو الدهر ما وفى وما يعــد
لايوحش الله ربعا تنزلين بـــــــه أظن قبرك روضا نوره يقـــــــــد
وان روحك روح تأنسين بهــــــا اذا تململ ميت روحه نكــــــــــــد
بعد ذلك ينتقل الى وصف ( أم فرات ) الوالدة وكيف كانت الصدر الرحب والحنون لاطفاله ، معادلة شعرية يجسدها الجواهري حين يصف ذلك بما يمتلك من عاطفة جيَاشة وحس مرهف حيث يقول :
غطى جناحاك اطفالي فكنت لهـم ثغرا اذا استيقظوا ،عينا اذا رقدوا
ثم يتألق ويسمو حين يذكر صفاتها وخصالها التي عرفت بها ، يذكر نقاء قلبها وصفاء سريرتها ، بمعاني ودلالات فاقت الصورالرائعة التي وردت في معلقة (النابغة الذبياني ، ودع هريرة إن الركب مرتحل ) يسمو يتألق ، ثم يقول :
لم يلق في قلبها غل ولا دنــــــس له محلا ، ولا خبث ولا حســــــد
ولم تكن ضرة غيرى لجارتهــــا تلوى لخير يواتيها وتضطهـــــــد
قالوا اتى البرق عجلانا فقلت لهم والله لو كان خير ابطأت بـــــــرد
لعلني قارىء في حر صفحتهــــا اي العواطف والاهواء تحتشــــــد
بعد ذلك بدأ هاجس الروح الثورية يكبر بقوة لامثيل لها حيث كان لا يتفق مع أي جهة سياسية و كان يعبر عن ذلك صراحة ًو أمام الملأ حتى بدأت المضايقات تنهال عليه من كل جانب و بشكل خاص في مورد معيشته حيث كانت الجريدة التي يفتتحها تغلق لأبسط الاسباب و هكذا ، فما كان منه الا ان يكتب رائعـــــــــة ( المحرَََّقه ) والتي ختمها بالبيتين التاليين :
ذممتُ مقامي في العراق وعلنــــي متى أعتزم مسراي أن احمد المسرى
لعلي أرى شبرا من الغدر خالــــيا كفانــي اضطهاداً انني طالبٌ شبــرا
انه ثائراً عنيفاً يحمل قدره معه ، ومعتداً بنفسه بشكل كبير يثور ويغضب و لا يمكن ان يخفي غضبه فبمجرد النظر الى عينيه تعرف مقدار ثورته كان لا يخشى ما يقول و يهزأ و يستهجن الامور التي يرى انها مدعاة للسخرية و الاستهجان و بدا ذلك واضحاً في رائعتين له الاولى ( عدّا عليَّ ) و التي مطلعها :
عـــــدّا عليَّ كمــا يستكلب الذيب ُ خلــــقٌ ببغــداد انمـــاطٌ أعاجيبُ
و الثانيه كانت رائعته الشهيرة (طرطرا) التي جسد فيها أروع الصور والمعاني الساخرة والتي لم ترد مثلها في دواوين الشعر العربي قديمه وحديثه ، ( طرطرا) صورة ناطقة للمجتمع العراقي آنذاك ولاتحتاج لاي وصف أو شرح لانها تصف وتشرح نفسها بنفسها ، ( طرطرا ) رائعة ساخرة تتفوق على كافة الاعمال الساخرة لــ ( برنارد شو ) وبفارق كبير ، حيث يقول وماأروعه حين يقول :
أيْ طرطـــــــرا تطرطــــري تقدمــــــــــي تأخــــــــــــري
تشيعــــــــــي تسننـــــــــــــي تهــــــــــــــودي تنصــــــري
تعممـــــــــــي تبرنطــــــــــي تعقلــــــــــــــــي تســــــــدري
تقلبي تقلب الدهـــــــــــــــــــر بشتـــــــــــــــــى الغيـــــــــــر
تصرفـــــــــي كما تشــــــــــا ئيــــــــــــــــــن ولا تعتـــذري
لمن ؟؟ أللناس ! وهــــــــــــم حثالـــــــــــــــة البشــــــــــــر
أم للقوانيــــــــــــــــن ومــــــا جـــاءت بغيــــــــر الهـــــــذر
تأمـــر بالمعـــروف ، والمنكر فـــــــــــــــــوق المنبـــــــــــر
أم للضميــــــــــــــر والضمير صنـــــــــــــــع البشـــــــــــــر
لمن ؟ أللتاريــــــــــــــخ وهـو فـــــــــــي يــــــــد المحبــــــر
مسخــــــــر طـــــوع بنـــــان الحاكــــــــــــــــم المسخـــــــر
بدرهــــــــــــــم اقلب الحـــال يــــــــــــــــــد المحــــــــــــرر
قد تقــــــــــــرأ الاجيــــــــال في دفــــــــــة هذا المحضــــــر
عــن مثــــل هذا العصــــــــر ان كان زيـــــــــن الاعصــــــر
وأنــــــــــــه مــن ذهــــــــب وأنــــه مــــــــن جوهــــــــــــر
أم للمقاييـــــس أقتضاهــــــن أختـــــــــــــلاف النظــــــــــــر
أن اخـــــــــــــــــــــا طرطـر من كــل المقاييــــس بــــــــــري
كانت الموهبة الشعرية فياضة و جياشه تفوق التصور فالصورة الشعرية كانت ضرباً من الخيال بحيث جعل من صوت الضفدعة صورة نادرة في بيت من ابيات رائعتــه ( المقصوره ) والذي قال فيه :
سلام على جاعلات النقيـق على الشاطئين بريد الهوى
لكنه سرعان ما يعود لحزنه وشجنه الذي رافقه سنين طويلة من حياته بسبب ما كان يواجهه من مصاعب جمة لا لشئ سوى انه كان يعيش آلام المجتمع واحزانه وبكل التفاصيل ويتجلى ذلك بوضوح في رائعته الخالدة ( سائلي عما يؤرقني ) والتي يقول فيها :
سائلـــــي عمـــا يؤرقنـــــي لا تسلْ عني ولا تلــم ِ
حال ريعان الشموس ضحى وتقضّى العمر كالحلم ِ
نــــــــدمٌ فـي اثره نــــــــدم ٌ عظمت كقارة النـــدم ِ
يــــا حبيبي و المنـــــى قسمٌ بين مرجـــو ٍ و مغتنم ِ
لكنه سرعان ما يخرج من صومعة الحزن و يتحدى الايام والزمن و يزهو شامخا بتحديه كما قال في مطلع قصيدته ( عناد ) التي إبتدأها بثورة عارمة ضد الظلم والاضطهاد الذي كان يتعرض له حيث قال فيه :
عنادٌ من الايام هذا التعسف تحاول مني ان اظام وآنف ُ
كانت المضايقات تنهال عليه من كل جانب و جريدته التي هي مصدر رزقه تغلق باستمرارومرت به ايام عصيبة جدا ً نتيجة الضائقات المالية التي يتعرض لهـا وذات يوم كان يجلس في داره و كانت حرارة الصيف شديدة وهو لا يمتلك مروحة وكذلك الحال بالنسبة للشتاء فهو لا يمتلك مدفأة فما كان منه الا ان يصف الحال بهذين البيتين :
شتاءٌ عصـــــرٌ زمهريـــرُ و صيف ٌ كتنور يفـــــور ُ
افٍ لعمـــــــرٍ لا يســـاوي ســعْرَ مروحـــةٍ تـــــدورُ
كان يمر بلحضات يأس و احباط لكنه ينهض من جديد ولا يترك مناسبة الاّ و يعَبر عنها حيث قال مناجياً نفسه :
خبتْ للشعـــــر أنفــــــاس أم اشتط بـــــك اليـــــاس
في منتصف الاربعينيات تلقى دعوة لحضور مهرجان المعري بمناسبة الذكرى الالفية لوفاته فغادر بغداد الى دمشق لحضور المهرجان الذي حضرته شخصيات ادبية مرموقة جدا وعلى رأسهم عميد الادب العربي ( الدكتور طه حسين ) ، إعتلى الجواهري المنصة وبعد ان القى التحية على الحاضرين قال : الرجاء عدم استعادة الابيات لان القصيدة طويلة وابياتها تؤلمني ، لكن وبعد ان بدأ الجواهري بالالقاء بدأ الحاضرين يستعيدون البيت تلو الاخرمن تلك الرائعة الخالدة التي قال في مطلعها :
قف بالمعرة وامسح خدها التربــا واستوح من طوق الدينا بما وهبا
ثم دوت القاعة بالتصفيق بعـــد هــــذا البيت ودوت اكثر بعد الابيات التالية :
يابرج مفخرة الاجداث لاتهنـــــي ان لم تكوني لابراج السما قطبــا
فكل نجم تمنى في قرارتــــــــــــه لو انه بشعــــاع منك قد جــــــذبا
نور لنا ، اننا في اي مدَلــــــــــــج مما تشككت ، ان صدقا وان كذبا
أبا العلاء وحتى اليوم ما برحــــــت صناجة الشعرتهدي المترف الطربا
تعود به الذاكرة الى ماقبل الف عام ، يستذكر موعظة المعري ، فيتفجر بما جادت به قريحته العملاقة في تلك اللحظة ، فيقول :
من قبل الف لو انا نبتغي عظــــة وعظتنا ان نصون العلم والادبــا
على الحصير وكوز الماء يرفــده وذهنه ورفوف تحمل الكتبــــــــا
اقام بالضجة الدينا واقعد هــــــــا شيخ أطل عليها مشفقا حدبــــــــا
بكى لاوجاع ماضيها وحاضرهـا وشام مستقبــلا منها ومرتقبــــــــا
تناول الرث من طبع ومصطلــــح بالنقد لايتأبى أيَــــــة ً شجبـــــــــا
لثورة الفكر تاريخ يحدثنــــــــــــا بأن الف مسيح دونها صلبــــــــــا
ان الذي ألهب الافلاك مقولـــــــــه والدهر ، لارغبا يرجو ولا رهبا
لم ينس ان تشمل الانعام رحمتــــه ولا الطيور ، ولا افراخها الزغبا
حنا على كل مغصوب فضمــــــده وشج من كان ، أيا كان ، مغتصبا
استمر حتى انهى رائعته ( المعري ) ببيت اروع مايكون من ابيات الشعر العربي :
أ من حكمة ان يجتني الرطبـــــــا فرد بجهد الوف تعلك’ الكربــــــا
بعد ان انتهى الجواهري نهض (الدكتور طه حسين ) من كرسيه وقا ل للجواهري
أعدها ألفا ثم الف ، فــرد الجواهري تكريما لك ساعيدها مرة اخرى وبعد ان انتهى من الاعادة نهض ( الدكتور طه حسين) من كرسيه وقال ( قودوني اليه انه رب الشعر ) فقادوه اليه وقبّله وحيًاهُ على تلك الرائعة الخالدة .
بتلك الابيات الخالدة استذكر الجواهري العظيم ابي العلاء المعري ، فكيف يستذكر ابي الطيب المتنبي ، لقد استذكره في مناسبات عديدة بأبيات وقصائد لايمكن لكاتب او ناقد ان يصفها لكونها اسمى من كل وصف واروع من اي تعبير وعلى سبيل المثال لا الحصر الابيات التي وردت في رائعتــــه ( ياابن الفراتين ) ، ورائعتـــــــه الشهيـــرة ( فتى الفتيان ، المتنبي ) والتي كان مطلعها :
تحدى الموت واختـــــزل الزمانا فتى لوى من الزمـــــــــــــن العنانا
فتى خبط الدنى والنـــــــاس طرا وآلى أن يكونهمــــــــــــا فكانـــــــا
ان مفردات البيت الثاني لاتقل روعة عن مفردات البيت الاول ومضمونه انما هو تصعيد بعيد المدى لما ورد تمهيدا في البيت الاول الذي كان تفجيرا مباشرا لما سيأتي بعد ذلك ، يتابع الجواهري ذلك التفجر المقصود منذ البداية فيقول :
أراب الجـــــن أنـــس عبقـــــري بوادي ( عبقر ) أفتـــرش الجنانـــا
ان انتقال الجواهري الى هذه الصورة ، فان المعنى ياتي امتدادا طبيعيا ومدهشا لما ورد في بيتي المطلع ، ذلك ان الذي ( تحدى الموت ) والذي ( اختزل الزمانا ) والذي ( لوى ) عنان الزمان ، والذي ( خبط الدنى والناس ) والذي قرر ان يكون الدنى والناس ، فكان له ذلك ،، ان هذا الذي حقق كل ماتقدم ، لايكون مكانه ، اذن ، الا ( وادي عبقر ) يستمر الجواهري فيقول :
دما صاغ الحــــــروف مجنحــات رهافا ، مشرئبــــــــــات ، حسانــا
انه مورد اعتيادي فيه تمهيد ، على الرغم من الوقع المؤلم لكلمة ( الدم ) ، يمضي الجواهري في تأسيس المورد الذي يعنى بالحروف التي عالجها المتنبي ، فيقول :
فويق الشمس كن لـــــه مــــــدارا وتحت الشمــــس كن له مكانــــــــا
وآب كما اشتهى يشتــــــط آنــــــا فيعصـــــــف قاصفا ويرقُ آنــــــــا
وفي حاليـــه يسحــــــرنا هـــــواه فننســــــــــى عبر غمرته هوانــــا
بعد هذا التغني بمواهب ( المتنبي ) في اللغة وشعرها يتفجر الجواهري ببيت عجيب لايمكن لسواه على الاطلاق أن يأتي بمثله حيث قال :
فتــى دوىَََ مع الفلــــــــك المــدوي فقـــــال كلاهمـــــا : أنَا كلانـــــــــا
ترى كيف يكون دوي الفتى ؟ ثم كيف يكون دوى الفتى موازيا لدوى الفلك ( الكون ) أو متناغما معه ؟ انه التصعيد المثالي والمدهش الذي يكاد ان يخرج هذا البيت من مضمار المديح ليضعه في مضمار ظاهرة طبيعيـــــة ، رغم انها في منتهى الخيــــال ، ونحن هنــا لانملك الا ( الدهشة الموافِقة ) أزاء تعبير لغوي غير مسبوق ، بل هو نتاج خيال خارق .
ان هذا البيت يضعنا في محنة نرضاها بنشوة كبيرة ، بين عظمة المتنبي الذي استحق هذا الوصف ، وعظمة الجواهري الذي اخرج هذا التعبير .
ترى أية مخيلة طرقت ذهن الجواهري في تلك اللحظة أم هــــــو الذي طرقهــــا أم انهما ( المخيلة والجواهري ) قد طرق كلاهما في ذات اللحظة ، فكان هذا البيت المدهش ؟
يتابع الجواهري سيرة روح المتنبي ، عبرسيرة روح الجواهري الحاصلة بعد اكثر من الف عام ، فيقول وكأنه يخاطب نفسه بالخشوع ذاته ، وهو يخاطب أبا الطيب :
حبتــك النفـــس أعظــم ماتحلَـت بـــه النفـــس مع المحــن امتحانــا
وذقت الطعم من نكبات دهـــــــر يمُــــد لكــل مائـــــــدة خوانــــــــا
وجهَلك المخافة فـــــرط علــــــم بكنــهِ حيــاةِ من طلــــــــب الامانـا
وأعطتك الرجولـــــة خُصلتيهــا مع النـــوب : التَمرس والمَـــــــرانا
فكنت اذا انبرى لك عنفـــــــوانٌ من الغمــــرات أفظــــــعَ عنفوانــــا
هذا الذي كان من أمر المتنبي ، وهو الذي كان من شأن الجواهري الذي كانت حصته مضاعفة وأشد مرارة ، لانه عاش مقدار عمرين من عمر المتنبي ، حيث بدأت معاناته منذ خروجه من النجف ، والمتنبي بدأت معاناته عند خروجه من الكوفة ، كلاهما غادر مكانه في بداية الشباب وكلاهما لم يعد اليه فلا الجواهري عاد الى النجف ولا المتنبي عاد الى الكوفة ،الكوفة التي ورثها الجواهري من المتنبي ، كمـا لم يرثهــــا شاعرغيره
في عام 1948 فجع بأستشهاد شقيقه جعفر في انتفاضة جسر الشهداء و عبّر عن فاجعته برائعة ( اخي جعفر) التي بدأها بأستفهام يشبه النذير كونه إحتوى على نبرة تهديدية خفية حيث قال :
أتعلم ؟ أم أنـــــــــت لاتعلـــمُ بأن جراح الضحايــــــــا فـــمُ
فم ليس كالمدعي قولــــــــــة وليس كآخـــــــــر يسترحـــــم
يصيح على المدقعين الجيـاع أريقوا دعاءكــــــــم تطعمــــوا
ويهتف بالنفــــــر المهطعيــن أهينــــــوا لئامكـــــم تكرمــــوا
يدخل الجواهري العظيم في المقطع الثاني وهو مرحلة الهجاء ، يتألم حين يهجو ، يمتزج ألألم بالهجاء فيقول :
أتعلم أن رقـــــاب الطغــــاة أثقلهــــــــا الغُنــــــــمُ وألمأثـم
وإن بطــــــون العتـــاة التي من السحت تهضـــم ما تهضم
وإن البغي الــــذي يدعـــــى من المجد مالم تحـز " مريم "
ستنهـــــد إن فار هذا الـــــدم وصوت هذا الفــــــم الاعجــمُ
بعد ذلك انتقل الى مناجاة أخيه ، وراح يتغنى به بما يملأ قلبه من حزن على فراقه الابدي فيخاطبه بالابيات التالية :
أخي جعفرا يارواء الربيــــع الى عفن بـــارد يسلـــــــــــــمُ
ويازهرة من رياض الخلــود تَعَوًلــــها عاصـــف مـــــرزم
وياقبسا من لهيب الحيـــــــاة خبا حين شب لـــــه مصــــرم
وياطلعة الِبشـــــرِ إذ ينجلــي وياضحكة الفجر إذ يبســــــــم
يستذكر ثلاثين عاما عاشاها معا وهي عدد السنين التي عاشها اخيه ، يخبره بأنه قد مصرعه قد آذى الجميع فيقول :
أخي جعفرا إن رجـــع السنين بعدك عندي صــــدى مبهـــــم
ثلاثون رحنا عليهــــا معــــــا نعـــــــذبُ حينــــاً ونستنعــــم
اخي جعفرا ان علم اليقيــــــن ان كنـــــــــــــــت تستعلـــــــم
صرعت فحامت عليك القلوب وخفَ لك الملأ الأعظــــــــــم
وسُد الرواق فـــلا مخــــــرجٌ وضاق الطـــريق فلا مخــــرم
كذلك قصيدة ( يوم الشهيد ) التي القاها بمناسبة اربعينية اخيه التي قال فيها :
يوم الشهيـــد تحيـــــــةٌ وسلام ُ بكَ و النضــــــالُ تؤرخ الاعـــوامُ
بــك و الضحايـــــا الِغرُُ يزهو شامخاً علم الحساب وتفخرالارقامُ
كان يعتصر من الالم والحزن وتجلى ذلك واضحاً في البيتين التاليين :
أاُخي لو سمع النداء رغـــــام ُ واستجاب لصريخيَ حِمـــامُ
مني أليك تحيــــــةٌ وســـــلامُ و لذكرك الاجلال والاعظامُ
ومن روائعه التي احتوت الرثاء والهجاء والحماسة في آن واحد هي رائعتــه الخالدة ( أبو التمن ) والتي نعى فيها ( جعفر أبو التمن ) حيث قال فيها راثيا أياه وبما لايحتاج للوصف :
باق ! واعمار الطغاة قصــار من سفر مجدك عاطر مـــــوار
متجاوب الاصداء نفح عبيره لطف ، ونفح شذاته إعصـــــار
رف الضمير عليه فهو منـور طهرا كما يتفتــــــح النــــــــوار
مع مرور الايام اصبح للجواهري شأ ن كبير بين الاوساط السياسية والاجتماعية حتى صار ممثلا ً للعراق في اغلب المحافل الدولية .
كان يدعى لحضور المحافل الدولية والاقليمية والمحلية , حتمــا انه يستغل كل مناسبــة واي مؤتمر يحضره للتعبيــر عـــن وطنيته وثوريته التي لــم يعــرف لها حــــدود وله روائع القيت في تلك المحافل منها رائعة ( في مؤتمر المحامين ) والتي القاها في ذلك المؤتمر ومطلعها :
سلام على حاقدٍ ثائــــــــر على لاحبٍ من دم سا ئـــــــر
يمجُ ويعلم ان الطريــــــق لابد مفــضٍ الى أ خــــــــــر
نلاحـــظ الثـــــورة التي احدثهــا في مطلـــــع القصيــدة وكــــذلك فعـــل في نهايتهـــــا حيـــث اراد ان يلقـــــي التحية على الحاضرين ولكــــن على طريقته الخاصة فقال:
ويا رسل الحق من اهلنــا سلام لجمعكم الــزاهــــــــــرِ
ومني اليكم تحايا الجموع على فمٍ شاعرها الشاعـــــــر
كان الجواهري يستنهض الشعـــب ويريد منه ان يثـر لكن دون جدوى, لاشيء سوى الصمت الرهيب والمحنة التي يعيشها الجواهري تكبريوما بعد يوم حتى تفجر برائعة
( اطبق دجى ) :
اطبـق دجى اطبق ضبـاب’ اطبق جهاماً يا سحـــاب’
اطبـق على متبلـــــديــــن شكا خمولهم الــذ بــــاب’
اطبـق على هذ ي الوجــوه كا نــها صور كــــــذاب’
اطبـق على هذ ي المـسوخ تعاف عيشتها الكــــلاب’
لم يعرفوا لــون السمــــاء فرط ماانحت الرقــــاب’
ولفرط ما ديست رؤؤسهم كما ديــس التـــــــــراب’
كالمعتاد اغلقت جريدته فوراٌ واجبر على الاقامة في بيته وخلال تلك الفترة تم الترويج لاقامة مهرجان تكريمي( للدكتور هاشم الوتري ) عندما سمع الجواهري الخبر كان
متأكدا انه سيدعى للمهرجان ، لم يكن امام المسؤولين الاَ ان يوجهوا الدعوة للجواهري لالقاء قصيدة بعد استحصالهم موافقة الجهات الحكومية .
يقول الجواهري ( اتصلوا بي بالتلفون وطلبوا مني حضور حفل تكريم الدكتور هاشم الوتري وتظاهرت بالرفض وكنت ارقص خلف التلفون وبعد اصرارهم وافقت)
ويقول ( ان زوجتي طلبت مني ان لا احضر المهرجان فقد يحصل ما لا َيسُر) .
فأجبتها سأحضر والقي قصيدة .
يتابع حديثه قائلا في اليوم المحدد وعند دخولي القاعة وجدتها ملئية بالمسؤؤلين من الاوساط السياسية والحكومية وشاهدت الدكتور هاشم الوتري بينهم وكان يتلفت( خائفا او كالخائف مستغربا او كالمستغرب) وكأنه يقول ماذا ستفعل يا جواهري وكنت اجيبه في سًري سأ فعل الكثير ياوتري بعد ذلك ابتدأ الالقاء وبدأت معه ثورة القصيدة ابتداءا مـن مطلعها الذي اخبر به الوتري انه حضر احتراما لــه وليس لهم من خلال هذين البيتين :
مجدت فيك مشاعراً ومواهبــــا وقضيت’فرضا للنوابغ واجبا
بالمدعين الخالقين تنورت شتى عوالـــم كن قبـــــل’خرائبـــا
صمت رهيب ساد القاعة والاوساط السياسية والحكومية تنظر الى بعضها البعض ماذا فعل الجواهري ؟ وسط هذا الصمت باغتهم ببيت يستذكر فيه انتفاضة جسر الشهداء عام 1948 :
والجسر يفخر ان على جانبيه جثث الضحايا قد تركن مساحبا
بعد أن استذكر شقيقه الشهيد جعفر والشهداء الاخرين ، انتقل لمهاجمة رئيس وزراء العراق في اوائل عام 1948 صالح جبر ، لقد هاجمه بشدة وبشكل عنيف جدا ، الالم والهجاء اختلطا معا في تلك اللحظات فكانت الابيات التالية :
ولقد رأى المستعمرون فرائسا منا ، والفوا كلب صيد سائبــــا
فتعهدوه ، فراح طوع بنانهـــم يبرون انيابا له ومخالبـــــــــــا
أعَرفتَ مملكة يباح شهيدهــــا للخائنيــن الخادميــن أجانبـــــا
مستأجرين يخربون ديارهـــم ويكافئون على الخـراب رواتبـا
متنمرين ينصبون صدورهـــم مثل السباع ضراوة وتكالبــــــا
حتى اذا جدت وغى وتضرمت نارا تلف اباعدا وأقاربـــــــــــا
لزموا جحورهم وطار حليمهـم ذعرا ، وبدلت الاسود ارانبــــا
بعد ذلك أنتقل لمخاطبة الدكتور هاشم الوتري ، وأخذ يناجي نفسه من خلاله بأبيات يقف عندها تاريخ الشعر العربي على مر العصور وتوالي الازمان بكل اجلال وإكبار، أبيات تأبى الوصف لانها أسمى منه حيث قال :
ايه عميد الدار! شكوى صاحب طفحت لواعجه فناجى صاحبــــا
خُبرت أنك لست تبرح سائـــلا عني ، تناشد ذاهبا ، أو آيبـــــــــا
وتقول كيف يظل نجم ساطــــع ملءُ العيون ، عن المحافل غائبـا
الان انبيك اليقين كمـــــــا جـلا وضح الصباح عن العيون غياهبا
فلقد سكت مخاطبا اذ لـــــم أجد من يستحق صدى الشكاة مخاطبـا
انبيك عن شرٍ الطغام مفاجـــرا ومفاخــــرا ، ومساعيا ، ومكاسبا
الذهول ساد الموقف , الترقب والتوجس من الجميع ، ماذا سيحدث بعد ذلك وماذاسيقول بعد الثورة الشعرية العارمة التي أحدثها ؟ فقال موجها كلامه للاوساط السياسية والحكومية :
يتبجحون بأن موجــا طاغيـــا سدوا عليـــــه منافذا ومســاربــا
كذبوافملء’فم الزمان قصائدي ابدا تجوب’ مشارقا ومغاربــــــا
تستل’ من اظفارهم وتحط من اقدارهم وتثل’ مجدا كاذبـــــــــــا
انا حتفهم الج’البيوت عليهـــم اغري الوليد بشتمهم والحا جبـــا
بعد انتهاء القصيدة اقتيد الى السجن واغلقت جريدته مرة اخرى بعدها تدخل الدكتور هاشم الوتري لاطلاق سراحـــــه واستبدلت العقوبـــة بالاقامة الجبرية في البيت وغلقت الجريدة .
بعد ذلك ضويق كثيرا فغادر بغداد الى منطقة علي الغربي وأثناء ذهابه استوقفه مشهد الرعاة المنتشرين على طول الطريق بين بغداد وعلي الغربي فنظم واحدة من اجمل روائعه ألا وهي رائعة ( الراعي ) والتي قال فيها :
لفً العبــــــــاءة واستقـــــــلا بقطيعــــه عجــــــلا ومهـــــلا
وانصاع يسحـــب خلفـــــــــه ركبـــــا يُعرٍسُ حيث حــــــلا
أوفى بها ، صِلاً يزاحــــــم في الرمال السمر صـــــــــــلا
يرمي بهـــا جبلاً فتتبـــــــــــعُ خطـــــــــوهُ ، ويحطُ سهــلا
وأرتدً يحمــــل ما يصـــــــون ذَمَاً ، وما أغنى وقـــــــــــلاً
ياراعي الاغنــــــام : أنــــــت أعــــــزُ مملكـــــةً وأعلـــــــى
لله ملكـــــــــــك مــــــــــا أدقً وما أرقً ، ومـــا أجَـــــــــلاً
حُييًت راعـي ألضأن يرعـــى ذمًــةً كبُــــــــــــــــــــــرت وإلاً
تلك ألامانة أودعــــــــــــــــت أثقالهــــــا كُفــــــــوا وأهـــــــلا
كانت له غـــــــــــــلاً وآخــــر شاءهــــــا للنـــــــاس غُــــــــلا
ما أقبح الدنيـــــا إذا ضــــــــل الرعـــــــــاةُ ومـــــــــــا أضــلاً
وأثناء وجوده في منطقة علي الغربي كتب رائعته الفريدة (ياأم عوف ) وأم عوف أمرأة قروية أستقبلته بما تملك من مقومات الضيافة العربية الاصلية رغم أنها لاتملك حتى القليل ، رائعة ( ياأم عوف ) ثورة شعرية سياسية لم ولن يجرؤ شاعر على بداية قصيدة كتلك التي كانت في رائعة الجواهري المذكورة حيث قال :
ياأم عوف عجيبات ليالينـــــــا يدنين أهواءنا القصوى ويقصينا
في كل يوم بلا وعي ولا سـبب ينزلن ناسا على حكم ويعلينـــــا
يدفن شهد ابتسامٍ في مراشفنـــا عــــذباً بعلقم دمعٍ في مآقينـــــــا
يروي لأم عوف كيف تتقاذفه الايام وكيف يتعب لكنه يشمخ وينهض كعادته ، يروي لها كيف حطَ الرحال عندها فيخاطبها قائلاً :
يا ( أم عوف ) بلوح الغيب موعدنا هنـــا وعندكِ أضيافــا تلاقينـــــــــا
لم يبرح العام تلو العــــــــام يقذفنــا في كل يوم بمومــأةٍ ويرمينــــــــــا
زواحفا نرتمي آنـــــــاً وآونـــــــــةً مصعديــــن بأجواءٍ شواهينــــــــــا
حتى نزلنا بِســـــاحٍ منك محتضــنٍ رأدَ الضحى والندى والرمل والطينا
يتحسَر بشدة حين يطلق (ألآه ) حيث انه لايستحق ان تفعل به المقادير مافعلت ، يتألم على أكثر من خمسين سنة مرَت من عمره في تلك الفترة لم يعرف خلالها الراحة بل عانى ملا يطاق وما لايحتمل ، يروي ذلك لـ ( أم عوف ) فيقول :
يا ( أم عوف ) وما آهٍ بنافعـــــــةٍ آهٍ علــــى عابثٍ رخــصٍ لماضينا
على خضيل أعارته طلاقتهــــــا شمس الربيع وأهدتــــه الرياحينـــا
آهٍ على ملعب إن نستبد بــــــــــه ويستبد بنا ـــ أقصـــــى أمانينـــــــا
يا ( أم عوف ) وكاد الحلم يسلبنا خير الطباع وكاد العقل يردينـــــــا
خمسون زمًت مليئات حقائبهـــــا من التجاريب بعناهـــا بعشرينــــــا
يا ( أم عوف ) بريئات جرائرنــا كانت ، وآمنة العقبــى مهاوينــــــــا
في ختام رائعته يعود ويتأمل بزوغ الشمس التي طال انتظارها ، يتأمل ألاصيل والسحَر ولاشي لديه سوى التأمل فيقول :
لابد من مطلع للشمس يفرحنــــــا ومن أصيل على مهلٍ يحيينـــــــــا
واليوم نرقب في أسحارنا أجــــلاً تقوم من بعده عجلى نواعينــــــــــا
عند عودته الى بغداد وبسبب اوضاع المعيشة المزرية التي كان يعاني منها عموم الشعب العراقي آنذاك ، فما كان منه الاً أن يوجه رسالة عارمة الى الشعب تمثلت في رائعته الخالدة على مر السنين وتوالي العصور ( تنويمة الجياع ) والتي كانت نموذجا فريدا من نماذج الشعر العربي وقد بدأها بهذه الابيات :
نامي جياع الشعب نامـــي حرستك آلهــــــةُ الطعـــــــام
نامي فأن لم تشبعــــــــــي من يقظـــة فمن المنـــــــــــام
تتنوًري قـُـــرص الرغيف كدورة البـــــــــد رالتمـــــــام
وتري زرائبـــك الفســـاح مبلطــــــــــات بالرخـــــــــام
بعد الثورة العنيفة التي أحدثها من خلال أبيات القصيدة ، بعد الاستهجان والنقد الساخر اللاذع ، وبعد وصف كل الاوضاع التي كانت سائدة آنذاك ، ينتقل لمناجاة أبناء الشعب واصفا اياهم بشذاة الطهر حيث قال :
نامي شذاة الطهــر نامـــي يادرًة بيــــــن الركـــــــــــام
يانبتة البلــــــــــــوى ويــا ورداً ترعــــرع في إهتضـام
ياحــــرة لم تـــــــــــدر ما معنــــــى إضطغانٍ وانتقــــام
ياشعلة النُــــــــــور التـــي تعشــي العيون بلا إضطــرام
سبحــــان ربك صــــــورة تزهو على الصـــــور الوسام
سبحــــان ربك صــــــورة هي والخطوب على إنسجــام
استمر اغلاق جريدته وبعد ان تكررت معارضته واستهجانه لهذا الاغلاق اجبر على مغادرة العراق فذهب الى والدته كي يودعها, يقول غصت عيوني بالدموع حيث كنت اعلم اني سوف لن اراها مرة ثانية فأحتضنته وغصّا بالدموع عند ذلك غاب الكلام فقط يبكي ويقبل والدته وهي الاخرى تبكي وتقبله .
غادر العراق الى تشيكوسلوفاكيا وبالتحــديد في العاصمه براغ التي يسميها براها حسب ما يحلو للتشيك تسميتها وبعد وصــوله بفتـــرة قصيرة تلقى نبـــأ وفاة والـــدته حتى تفجــرّ برائعة ( قفص العظام ) والتي خاطب فيها والدته ومطلعها :
تعالــــــــــى الهمُّ يا قفص العظام ِ وبـــورك في رحيـــــــلكِ والمقام ِ
في عام 1961 وفي براغ كان يجلس مستذكرآ العراق باهلهِ وشعبهِ مستذكرآ كل الشوارع والازقة فجاشت مخيلته العملاقة بالرائعة الخالدة أمد الدهر ( دجلة الخير) عصارة الالم ومرارة الغربة كانتا القاسم المشترك لهذه الرائعة .
دجلة الخير قصيده وسمفونيه لا يمكن لكاتب ان يتمكن من وصفها مهما بلغ من قوة التعبير لانها اسمى من كل وصف واقوى من كل تعبير وفيها قال :
حييّت ُ سفحـــــــكِ عن بعـد فحيينــــي يادجلة الخيــــر ياام البساتيـــــــنِِِ ِ
حييت سفحــــــــكِ ظمأنآ الوذ بــــــــه لوذ الحمائمِ بين المـــــاء والطــينِ ِ
وانت يا قاربـــــآ تلــــوي الرياح بــــه لـــــــيَََّ النسائم اطراف الافانيـــنِِ ِ
وددت’ ذات الشراع الرخص لو كفني يحاك منه ،غـــــــداة البين يطويني
يادجلة الخيــر يانبعــــــــا افارقــــــــه على الكراهة بين الحـــين والحـــين
أني وردت عيـــــون المـــــاء ِ صافية ً نبعــا ً فنبعـــا ً فما كانت لتروينــــي
يادجلة الخير قد هانت مطامحنـــــــــا حتى لادنى طماح غير مضمــــــون
ينتقل بعد ذلك وبما يملء قلبه من ألم الفراق ينتقل ليغازل دجلة الخير ، يغازلها لانها الطيف الساحر ، وغصن الزيتون ، وأم شهرزاد ، وحاضنة اليالي الملاح للشاعر الكبيرابي نؤاس فيقول في ذلك :
يادجلة الخير ياأطيـــاف ساحـــــرة ياخمر خابيـــــة في ظل عرجـــون
ياسكتة الموت ياإعصــــــــارزوبعة ياخنجرالغـــــدر ياأغصـان زيتــون
يأم بغداد من ظرف ومـــــــن غــنج مشى التبغدد حتى فـــي الدهاقيـــــن
ياأم تلك التي من الـــــــف ليلتهــــــا للان يعبق عطرا في التلاحيـــــــــن
يامستجم النواسي الذي لبســت بــــه الحضـارة ثوبــــــا وشي هـــــارون
يتقاتل مع الغربة ، يتوسل بدجلة الخير ، يطلب أن تعينه على غربته وأن تلهمه الصبر حيث لانديم ولا أنيس له هناك ، ولم يجد من يواسيه في هذه المحنة الشديدة على الرغم من إن الكثيرين يعلمون بما جرى له فيقول :
يادجلة الخير شكوى أمرها عجـب إن الذي جئت أشكو منه يشكونـــــي
يادجلة الخير منيني بعاطفــــــــــة وألهميني بسلـــوان يسلينــــــــــــــي
من كل الأُلى خبـــــــــروا بلـــواي لم أُلف حتــى من يواسيـــــــــــــــي
يادجلة الخير خل المـــوج مرتفعـا طيفا يمر وإن بعـــــــض الأحاييـــن
وحمٍليه بحيــث الثلـــج يغمرنــــي دفء الكوانيـــن أو عطر التشاريــن
يادجلة الخير يامن ظل طائفهــــــا عن كل ماجلت الأحلام يلهينـــــــــي
لو تعلمين بأطيافي ووحشتهـــــــــا وددت مثلي لو أن النوم يجفونــــــــي
بين هذه العواطف الجياشة استذكر الجواهري لفيف من ادعياء الثقافة الذين يتذرعون بعدم وصول بعض المطبوعات اليهم وانهم لم يطلـعــوا على الاعمال الادبية لبعض الادباء والمثقفيـــن بحيث لا يكلفون انفسهم عناء البحث عن المطبوعات فقال بحقهم :
ويا زعيما بان لم ياته خبــــــــــر عما ينشر’ من تلك الدواويــــــــن
كانت عباقرة الدينا وسادتهــــــــا تاتي المورق في اقصى الدكــاكين
في نهــاية القصيــــدة كــان يستذكر والـــدته واخــيه جعفـــر , فيقـــول :
وياضجيعي كرى اعمى يلفهــــما لف الحبيين في مطمــــورة دونَِ
حسبي وحسبكما من فرقة وجـوى بلاعج ضرم كالجمر يكوينــــــــي
قد مِتّ’سبعين موتا بعـــد يومكـــا ياذل من يشتري موتا بسبعيــــــــن
مرارة الغربة كانت اكبر مما يحـتمل , فراق الاهل والاحباب كان غاليا , لا شي له سوى الذكريات والاشتيــاق فكــانت رائعــته ( اشتياق ) ومنـــها :
سهرت’وطال شوقي للعـــــــراق وهل يدنـــو بعيـــــدُ باشتيـــــاق
واني والشجــاعــة فـــيََّ طبـــــعٌ جبان فـــي منازلـــة الفــــــراق
كتب روائع خالدة في غربته الطويلــة جــــدا وجمعهــا في ديـــوان عنـــوانــه (بريد الغربـة) عبر فيــه بما جاشت نفسه وقريحتــه انذاك وتضمــن الديـــوان رائعتيـــن من تلك الروائـــــع :
الاولى ( لقــد اسرى بي الاجــل’) ومنـــها :
لقـــد اسرى بيًٍ الاجــــــل’ وطــــول’ مســــير مــــــلل’
وطـــول مسيرة مــــن دون غـــا ي مطمـــــح خجــــــل’
علــــى انــــــــي لان ينـــهى غــــداً طــول السرى وجـــل’
تماهـــل خشيــــة وونـــــــى وعقبـــى مهــــــلـه عجــــــل’
حتــى ختمـــها باروع من ذلـــك :
سلاما ايهــا الاحبــــــــــــاب ان محبــــــــــــة أ مــــــــــــل’
سلاما ايهـــا الخــالــــــــــون ان هـــــواكـــــــم شغــــــــــل’
سلاما ايهــا الندمــــــــــــــان اني شـــــــــــارب ثمــــــــــل ُ
سلاما ايها الثـــــــــــــــاوون اني مزمــــــــــعٌ عجـــــــــــل ُ
سلاما كلــــــه ُ قُبُـــــــــــــــلُ كأن صميمهــــــــا شعـــــــــلُ
والقصيدة الاخرى (يا غريب الدار) وفيها يقول :
من لــــهم ٍلا يجــــــــــارى ولا هـــــــــات ٍ حيــــــــارى
و لمطوي ٍ علـــى الجمــــرِ ســــــــــــرارا و جهـــــــارا
طالبـــــا ثأرا لدى الدهـــــر ِ الــــــــذي يطـــلب ثــــــــارا
يـــــا غريب الدار لم تكفل لــــه ُ الاوطــــــــــــان ُ دارا
يـــــا غريب الدار فـــــــي قافلـــــــــة ً سارت و ســــارا
لمصـــــــيرٍ واحدٍ ثـــــــــم تناســــت ايــــــن صـــــــارا
ســـــامح القوم واختلــــــق لهــــــــم منك أعتـــــــــــذارا
علهــــــــم مثلــــــــك فـــي مفترق الـــــدرب حيــــــارى
أستمرهـــذا الحال فترة الستينات بأكملها كان يعتصر ويكتب يشتاق و تأتي القصيــدة ، يتألم و يسحرالاخرين بكلماته العذبة الرنانة .
في عام 1969 عاد الى العراق بعد تلك الايام القاسيه التي مرت عليه أثناء غربته وعند عودته نُظمت له احتفاليه كبيره ألقى فيها رائعته الخالده (أرح ركابك) والتي مطلعها :
أرِح ركابك من اين ٍ ومن عثـــــــرِ كفاك جيلان محمولا على خطرِ
كفاك موحش ُ دربٍ رحـــت تقطعهُ كأن مغبرّه ليل ٌ بلا سحــــــــــرِ
في هذه الرائعة تغنى بالوطن وعبرعن ذلك بأسمى تعبير كما جاء في هذين البيتين:
يا صورة الوطن المهديك معرضه أشجى وأبهى ما فيه من الصورِ
غيومه وانثلاج الليل والســـــــحر و قيضه وانبلاج الشمـس والقمرِ
ومن ثم تفجرت عاطفته الجياشة التي لم تعرف لها سنين عمره حدود كان يتألق و يسمو في كل بيت من ابيات القصيدة يتذكر ايام السهر والنجوى فما عساه ان يقول لنرى:
يا سامر الحي بي شوقٌ يرمضني الى النجوى الى اللدات الى السـمر
لا أدّعي سهر العشاق يشبعـــــهم يا سامر الحي بي جوع الى السهر بعد ذلك وكشأنه ذكّر الحاضرين بحلاوة اللغة العربية وجماليتها وعرّج على أيام غربته الطويله مؤكداً ان هذا هو حال اهل العلم والمعرفه في كل مكان ، كان يتحدث بلغة الشاب الثائروليس الشيخ الكبير وبكل عزم واصرار حيث قال:
ويا صحابي و للفصحى حلاوتها لا تنكروا ناقلاً تمراً الى هجـــــرِ
أنى ثوى ذو طماح فهو مغتــرب ٌ في دارة الشمس او في هالة القمرِ
سبع توهمتها سبعين لا كــــــــدرا لكن لحاجتها القصوى الى الكــدرِ
ناشدتكم بعيون الشعرلارمداً شكت ولم تكتحل يوما ســـوى الحـــــورِ
هل عندكم خبر عن قرب ملتحـــمٍ أو وشك معتركٍ أو قرب مشتجرِ
فذاك والله عندي اصدق الخـــــبِرِ اني اقايض فيه النفع بالضــــــررِ
رثيت للعقرب اللدغى جبلتهـــــــا فرط ما حمّلت سُماً على الابــــرِ
لولا مغبة ما تجني ذنابتها لقلـــتُ رفقاً بهذا الزاحــــــف القـــــــذرِ
ملاعب الطفولة و صورة الوطن و العودة أليهِ لم تغب عن ذهنهِ لكنه يتذكرها بحسرة حيث كانت العودة في الشيخوخة و بعد أن ضاعت أيام الشباب في الغربة .
ويا ملاعـــــب اترابـي بمنعطفٍ مـن الفراتِ الى كـــوفــــان فالــــــــجزر ِ
تصوبي من عـــــلِ حتى اذاانحـدرت بــي الحتوف لـــذاك الرمل فأنحدري
وأنت ياساحرالنفس ياوطناًكالشيـطان يهـــوى ويصفى على الويلات والغير
ما أن تزالُ على ما ذقت من غصصٍ لديك من صلب حاجاتي ومن وطري
تبنت الدم من روحي ومن بدنـــــــي وأستلت ألضوء من ليلي ومن قمري
عــــودٌ اليك على بدء وقــــد قرُبـــت مسافة البد من عـــودٍ الى الحــفــــرِ
عــــودٍ أليك بأقدامٍ موطأةٍ علـــــــــى دروبٍ جــــراحي فوقها أثـــــــــري
(دجلة ألخير) كانت حاضره في رائعة (أرح ركابك) حيث كان يظن انه سوف لا يرى العراق ولا يراها ثانيةً لكنه عاد و رآهما و تغنى بهما قائـــــــــلآ ً:
يا دجلة ألخير ما هانت مطامحنا كمـــــا وهمنا ولم نصدقكِ في الخبرِ
ها قد اقلنا بين جنبيكِ يؤنسنــــــا لــــــوذ الحمائمِ بين الطين والنــــهرِ
في عام 1970 نظم مهرجان المربد الشعري الاول ببغداد وقد حظي المربد بشرف مشاركة الجواهري برائعته الخالده ( يا أبن الفراتين ) ومطلعها :
يا ابن الفراتين قد اصغى لك البلدُ زعماً بأنك فيهِ الصادح ُ الغردُ
زعمٌ بحبكَ منهُ الفخرُ ان صـــدقوا أو لا فواجد همّ ٍ بثّ مـــا يجـــدُ
قبل المهرجان كان قد تعرّض الجواهري للانتقاد من قبل سهيل أدريس احد المتطفلين على الشعر والشعراء , لم ينسى الجواهري ان يرد على كلمات أدريس بحيث جعله يترك قاعة المهرجان وسط استهجان الحاضرين قائــــــلا ً :
وصاحبٍ لي لم ابخسهُ موهبـةً وان مشت بعتابٍ بيننــــا بـــردُ
نفى عن الشعرِ اشياخاً و أكهلةً بأن يزجي يراعاً حبرهُ الجــردُ
كأنما هو في تصنيفــهم حكـــمُ وكأن قوله الفعلِ ميثاقٌ ومستنــدُ
وما اراد سوى شيخاً بمــفردهِ لكنه خاف منــه حين ينفـــــــردُ
مهلاً رويدك لا تبعدنك موجدةٌ عن السبيل سواءا ً نهجهـا جــددُ
بيني وبينك اجيـــالٌ محكمـــةٌ على ضمائرها في الحكمِ تعتمــدُ
قالوا أتتك حريفـــــاتٍ بمــلأمةٍ قلــت ُ الف كريم قبلـــــــها يفــدُ
اسلمتها لعيون الناس تخزرها خـزر الصقور فتستثني و ترتعدُ
بعد تلك الابيات الرائعة يستــذكر المتنبي و شجاعته ومقتله مذكرا اياه بأنه ابن كوفته, ببلاغته المعروفه يناشـــــد المتنبي :
أمس استضافت عيوني ًفي الكرى شبحاً به تلاحم امس مشرقٌ وغدُ
ناشــدته وعلى أثوابــــه علــــــقُ مـــن الدماءِ ومن حباتهــــا زردُ
فكان به تأليفةٌ مـن هيـكلٍ عـجبٍ به الحمامة ُ جنب النسرِ تتحـــــدُ
أنا ابن كوفتك الحمراءُ لي طنبُ بها وان طاحَ من اركانها عمـــدُ
جوارُ كوخكَ لا ماءٌ ولا شــــجرُ ولصقُ روحك لا مالٌ ولا صفـــدُ
ولا شكاة أيشكو السيف منجـرداً لا يخلق السيف الا وهو منجــردُ
لم ينس الجواهري تذكرة الحاضرين بمشاريع الوحده العربية التي ظلت مجرد احلام بعيده عن ارض الواقع وأنه كافح من اجل ذلك لكن من دون جدوى حيث قال :
دعوا ألى الوحدةِ الكبرى قلت لهم نذرٌ لذلك مني الروح والجســـدُ
خمسين ظِلْت أناغيها كماُ نغمـــت أم الوليد يناغى عندها الولــــــدُ
ولا مباهاة اهلي كلهم رضعوا اللبان منها ومن احشائها لُحـــــــــدوا
في منتصف السبعينات نظم الملحمه الشعريه الخالده ( يا نديمي ) وعدد ابياتها(444) بيت نظمت باسلوب الرباعيات أي كانت مكونه من (111) رباعيه ، في هذه الملحمه جسد تاريخه ومسيرته وغربته ومشاعره كانت ضرباً من الخيال ابتدأها بالمقطع التالي:
يا نديمي نفسي جذاذات طرسِِِِ ِ عريتُ فوقها بطهرٍ ورجــــــسِ ِ
من مراقى نعمى و هواةِ بؤس ِ ومن اشم ٍ أشمِ ومن أخس ٍأخسِ ِ
كذب البحتري اذ قال امـــــِس صنت نفسي عما يدنس نفـــسي
دنس النفس ِ حلةٌ من دمقــــسِ ِ لن تغطى ولو بمليون عــــرس ِ
ثم يتذكر غربته قائلاً:
سألتني وقلبهـــــــــا يجــــبُ أمدى الدهرُ انت مغتــــــربُ
أملولُ أم أنـــــت مجتـــــنبُ أم هو الدهرُ أمـــرهُ عجـــــبُ
قلتُ مالي بـذا وذا نســــــبُ أنا لي من جبلتي عصـــــــبُ
قـدَّ صوانه مـــــــن الحـــجر فهــولا يستلذ ُ بــالســــــــــرر ِ
بعد ذلك يقدم النصيحة لنديمه ولكن أذا اراد الجواهري ان ينصح شخصا ً فماذا يقولُ له لنرى:
يا نديمي لك النصيحةُ منــي ليس لي في نصيحتي ما أُغــلُ
خذ بعرس ِ القرود دفاً وغني وقُل الاهل أنتــــم والمحــــــلُ
صيدُ أُنسٍ أنتم واقيال جـــنِ جنة الخلد دون قـــــردٍ تمـــــلُ
لا نبالي من يجتوى او يبلُ ما تمشى منكمُ على الارضُ ظلُ
ولسقراط ايضا ً كانت وقفة تأمل في تلك الملحمة الخالدة :
يا نديمي أمس أستمعت هتافا مــن بعيد من غابرات القرون
إن كن المرء لا يهاب مطافا لنجــتاءٍ مشى بـــه أو كميــــنِ ِ
إن سقراط ذاق سُماً ذعافـــا ليـرى الفكر فوق ريب الظنونِ ِ
يا نديمي ورغم كَرْ السنين ظل سقـــراط فوق ريب المنون
ِفي عام1976 حصل على جائزة (اللوتس ) وهي جائزه أفرو آســــيويه تمنح لافضل عمل أدبي ومنحت في تـــلك الســـــنة لرائعة الجواهري الخالــــــــدة ( أزح عــن صدرك الزبدا ) أو ( الجواهري ينتصر للجواهري) كما يحلو له تسميتها:
نظمت الرابطه الادبيه في النجف الاشرف انذاك حفلا تكريمياً له القى خلاله تلك الرائعة:
ازح عن صدرك الزبـــــــدا ودعـه يبـــــــــثُ ماوجـــــــدا
وخلِّ حطــــــام موجـــــــدةً تنـــاثـرُا فــوقــه قـصـــــــــدا
ولا تحفل فشقشقةٌ مشــــــت لـــك أن تـــجيــش غــــــــــدا
ولا تكبت فمــــن حقـــــــب ذممت الصبـــــر والجلـــــــدا
أأنت تخـــــــــاف من احـــدٍ أنت مصانــــــــــع ٌ أحـــــــدا
أتخشــــــــى الناس أشجعهم يخافك مغضبــــــــــاً حــــردا
يسمو ويفخر واعتدادهِ بنفسه لا حدود له يرفض الاغراءات و يبقى زاهداً نزيها بتاريخه الطويل وسفره الخالد :
ويدنو مطمح عــــجب ٌ فتطلب مطمحٌا ً بـــعدا
ويدنو حيثُ ضقت يداً وضعتَ سدا وفات مدا
أفالآن المنـــــــى منحٌ وكانت رغــوةً زبــــدا
وهبكَ أردت عودتهــا وهبك جُهدتَ أن تجـدا
فلســـت بواجدٍ أبـــــدا على السبعين ما فُقـــدا
ردد الجميع و بصوتٍ واحد (عمرك طويل) ثم تابع :
أزح عن صدرك الزبدا ولا تتنفـــــس الصعـــدا
ولا تحـــزن لأن قطعت يـــداك الزندُ والعُضــدا
فغيرك من اذا أكـــــــدى ترضى الناس والبلــــدا
ترفع فوق هامهـــــــــــم وطر عن أرضهم صعدا
يستذكر رائعته ( يا ابن الفراتين) يستذكر الصادح الغردُ ، ولم يجد أفضل من ( البوم ) وصفا لحسادهِ
أزح عن صدرك الزبدا وهلهل صادحا غردا
وخلِّ البــــــومَ ناعبــةً تقىء الحقد والحسدا
مخنثـــةً فـــأن ولَـــدت على عجلٍ فلن تلـــدا
سينهي الفجرُ وحشتها ويلحقهـــا بمن طـردا
يعود لخلـّه ونديمه الذي خاطبهُ في ملحمة ( يا نديمي ) يحدثـّه عن حساده وقد وصفهم بالذئاب التي تزعج الاسود بأصواتها القبيحة وكيف أنهم عراة من ناحية الادب وهو الآداب بأكملها
ويا خــــــلاً برمت به ِ إذا حاججته ُ اجتهدا
ألا أُنبيك عـــــن نكــدٍ تهــــونُ عنده النكدا
بمجتمــــع تثيــــرُ بـهِ ذئاب الغابة الاُســدا
عــــــراة وهو مشتمل على أكتافــــه اللبـدا
بهم عوز الـــــى مــدد وأنت تريدهـــم مددا
يخاطب نفـــسه و قصائده التي وصفها بالغـــرر المحجّـلة ويطالبها ان تبقى شامخة فكانت نهاية رائعه للقصيدة :
أزح عن صدرك الزبدا ودعهُ يبثُ ما وجـــدا
وقل يا نفس لا تــــردي على أعقاب من وردا
وياغــــــرراً محجــــلةٍ سعيتُ بها لمن قعــدا
أثرتُ غبـــــــار حلبتها على صنمٍ فمـــا عُبـدا
خــذي مسعاكِ وأستبقي مساف الشوطِ والامدا
وعــاذرةٌ إذا عثـــــرت صواهل تنشد الجــددا
وحسبك ركعةٌ عرضت وكـــم من راكعٍ سجدا
في نهايـة الحفــل كررالجواهري التحية التي حيــّا بهــا الحضـــورعند البدايــــة وكانت:
مُقامي بينكــــــم شُكـــرُ ويومي عندكم عُمـــرُ
سيصلحُ فيكم الشعــــــرُ أن لـــم يصلح العـــذرُ
آخر المهرجانات التي حضرها في العراق كان في جامعة الموصل عام 1980 وهو حفل تكريم و ترحيب اُقيم له من قبـــل الجامعة ألقى فيه مجمــــوعة من قصــائد السبعينات من بينها ( يا ابن الفراتين ) و عندما قال :
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ زعماً بأنك فيهِ الصادح ألغردُ
قاطعهُ الدكتـــور (علي جواد الطاهر) الـــــذي كان يحضــر المهرجان إضـــافة ً الى الدكتــور( مهدي المخزومي ) قائلاً اسمح لي بقراءة البيت فأجابه الجواهري تفضَل يا دكتور فقال ( الطاهر ) :
يا ابن الفراتين قد أصغى لك البلدُ علمـــاً بأنك فيه الصادح الغردُ
فردد الجميع : علماً بأنك فيه الصادحُ ألغردُ .
دواوينه لا حصر لها صدرت له عن وزارة الثقافة :
1. ديوان الجواهري بسبعة اجزاء .
2. ديوان الجواهري بأربعة أجزاء .
3. بريد الغربة .
4. بريد العودة .
5. الجواهري في جامعة الموصل .
6. خلجات .
7. بين الشعور والعاطفة .
8. ياأيها ألارق .
كما صدر له :
1.ديوان بمجلدين عن دار العودة ببيروت .
2.ديوان بمجلدين في دمشق .
3.عدة دواوين في مختلف البلدان العربية .
4 . العمال الشعرية الكاملة مجلد يضم سبعة اجزاء .
في السبعينات وخلال مقابله أجرتها معه مجلة الاذاعة والتلفزيون سأله الدكتور علي الحلي (مَنْ قمة الشعر من بعدك ؟) فأجابه الجواهري (لا قمه في الشعر من بعدي ) ونحن نقول لا قمة في الشعر من بعد الجواهري مطلقاً .
توفي في السابع والعشرين من تموز عام 1997 تاركا خلفه ذلك الارث العظيم للادب العربي على مر العصور حيث سجل تاريخ العراق السياسي في ما يقارب قرن من الزمن وذلك من خلال روائعه الخالدات .
لا يمكن لنا أن ننصفه حين نكتب لانه اسمى من الوصف فهو القمة في الهرم الشعري ، هو الشاعر الشاعر .
رحم الله شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري الذي رحل عنّا جسداً وبقي بيننا روحاً حاضرة وشعرا لا يموت امد الدهر.
khalidmaaljanabi@yahoo.com
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
خالد محمد الجنابي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat