صفحة الكاتب : عماد يونس فغالي

أديب صعيبي: الناطق شعرًا
عماد يونس فغالي

 

 
تعود بي الذاكرة إلى النصف الأوّل من ثمانينات القرن الماضي، الفترة التي تعرّفتُ فيها به! تعرّفتُ بأديب صعيبي معلّمًا للغة العربيّة وآدابها، سيّدَ صفّه ومالكَ مادّته! تعرّفتُ به رجلَ منبرٍ منذ الصفّ. يتوجّه إلى تلاميذه شعرًا بطبيعيّةٍ معبّرة، يتلقّون تعليماتِه أبياتًا، وملاحظاته لاذعةَ الوزن والقافية! 
لكنّه في كلّ أحواله، مالكٌ قلبَ أب. تَراه مربّيًا حاضنًا طلاّبه، أبناءَ يقيهم شطط المسير، مشذّبًا اعوجاجات موروثاتهم اللغويّة، وملقّحًا تعلُّماتهم بتصاويبَ قلَّ مُدرِكوها!
وفي نبْشٍ لمعرفة شخصه المتمايز، تعرّفتُ بابن بجّةَ الجبيليّة، متفوِّقًا في المدارك العربيّة، تلقّنها أوّلاً على والده، المعلّم سليم صعيبي، مؤسّس مدرسة القرية، الذي أرسى في ابنه محاصيل الصرف والنحو وأسس البيان والبديع والعروض، حتى أضحى لا متمكّنًا منها وحسْب، بل مرجعًا لها وعلاّمة. ولم يكتفِ! فقد جعل بمطواعيّةٍ غرفةَ المكتبة في مدرسة ميفوق العريقة مبيتَه، وقد أضحت له صومعةً يغرف من معينها الكتبيّ، نهلاً متواصلاً ولا ارتواء! 
هذا الشاعر الذي قرأ الحياة في سفر الخلود، تخيّله الناس متخبِّطًا في المهاترات ولاهيًا في مباهج الدنيا، وهو القائل:
وكم قلتُ للآسي بمنطق جاهلٍ أنا للهوى والخمر لا أتنكّرُ
ولستُ عن التدخين أُقلعُ، إنّنا صديقان لسنا بالصداقةِ نكفرُ   
وقد ظنّه الناس غاربًا عن عالم ما بعد، لِما نبذه من روحٍ بغيضة في التعامل باسم الدين، وتمثّل العبادة في ممارساتٍ تخلو من الله، هو الذي عرف ربّه في حقيقة لاهوته ومحبّة الإنسان ذروةً إيمانيّة، على ما نقرأ في قصيدة "الميلاد":
يا ابنَ داودَ يا سليلَ ملوكٍ بعُلاهم تغنّتِ القيثارهْ
مُلكُهم زاهرٌ وعالٍ، ولكنْ هو من ملككَ العظيم نثارهْ
وتأنّسْتَ لا لتَخبِر حضْنًا من ثناياه فاح عرف الطهارهْ
بل لتُحيي صرعى القنوط وتمحو عن أبينا، أبي البريّة عارهْ
وإن ظننتَ أنّه ربّما يقلّل من اعتبار الممارسات التقويّة أو يستخفّ بأهمّيتها، فلكَ في كلامه على القدّيس شربل في 
قصيدة "قدّيس من لبنان" لا مدحًا بل تمجيدًا لله من خلال صوفيّة العبادة الشربليّة:
"يناجي الواحد القدّوس نجوى تشقّ إليه أطباقَ الفضاءِ
ويسأله مواهبَ سامياتٍ تقيه من العثار والالتواءِ...
... ومن كانت العذراءُ له أمًّا تحدّى زأر آسادٍ ظِماءِ...
صفيَّ الله مجدُكَ سرمديٌّ يهون أمامه عصف الفناءِ..."
حسبُ أديب التعبير الصادق عمّا يخالج نفسه من إيمانٍ بثوابت الله حقائقَ ناصعة، صارخًا ثورةً باطنيّة على الطائفيّة والتعصّب الدينيّ، نابذًا إيّاهما سمًّا زعافًا ينخر أساساتِ الكيان المجتمعيّ، فيقضي على إنسانيّته.
أديبٌ يدعوه المنبر في كلّ محطّة، فيحمله سيّدَ الكلمة تجذب الأنام إلى عيشٍ للحدث الذي قصدوا المشاركة فيه! يدعوه المنبر ليهتزّ له "طربًا بشعرٍ جيّدِ". إذا رثى أبكى، وإذا مدح طال بمدحه طقوسيّة العبادة. وما القول في حبّه الوطن، وهو المنشد:
أنا مغرمٌ عصفَ الهوى بفؤادي وهوايَ ليس بزينبٍ وسعادِ
عفوًا عيونَ الفاتنات فإنّني أقسمتُ لا أهفو لغير بلادي
لبنانُ في مفهومه، يتخطّى أرضًا ينتمي إليها، إلى عقيدةٍ وطنيّة أساساتها خلائقُ إلهيّة وإبداعاتٌ إنسانيّة كم يليق بها التمجيد.
أدركه داء السكّريّ في يفاعه، فقلَبَ حياته وهو غير راضخ! بل بالعكس، لم يحفلْ به! حتى استفحلَ مستشريًا، وراح ينهشُه شيئًا فشيئًا، مستطيبًا جوارح الشاعر وأوصابه. ولكن لم ينلِ المرض منه إلاّ الجسد. فالروح مشرقة والنفْسُ أبيّة، سكرى بالحياة حتى النفس الأخير. كان السكّري هذا، مرضُ الشاعر، موضوعَ قصيدةٍ شاملة، عنوَنَها هو "وداؤكَ سكّرُ"، لتأخذَ في "الأعمال الشعريّة الكاملة" عنوان"دائي"، عرض له فيها منذ ألمّ به
"عراني وأبرادُ الشباب تلفّني وعودي صليبٌ لا يلينُ فيُكسَر"
"والشاعر المسكين نوّاحا" هوى مستسلمًا، لا يرى في الأفق جرّاءه إلاّ
"ذوى أملي والعمرُ بات على شفًا وما قد تبقّى منه بالهمّ يزخرُ 
ولم يبقَ قدّامي سوى الموتِ، إنّه مريحٌ ومن أوصاب جسمي محرّرُ".
قصيدةٌ أشبه بسيرةٍ ذاتيّة كرّسها لدائه، عارضًا لأعراضه وتداعياته، لكأنّه طبيبٌ يشرح هذا المرض في وصفٍ دقيق واضح، مستشهدٍ بمريضٍ يعانيه!
كما نقرأ في قصائد النهايات "شرارات المغيب"، معاناة الشاعر من "داء السراة"، ألمًا نفسيًّا فائقًا وتمنّيًا بالانعتاق رماديًّا، توجّه فيه يومًا مخاطِبًا رفيقة عمره:
"متى تنتهي المأساةُ يا بنتَ أسعدِ فأصبحُ لا أحتاج رجلي ولا يدي
وأرقدُ غربيَّ الكنيسة رقدةً تُثير أسى صحبي وتفرحُ حُسّدي".
ذاك أنّه ألفى نفسه أعزل، مجرّدًا من أطايب الحياة، لا الماديّة فقط والملذّات، وإن عَنَت له، ولكن خصوصًا من مواقف العزّ في جلسات الأدب وعلى منبر الشعر. وفي قصيدته "بهجة العيد" خير تعبير عن تمزّقات الروح التي قهرتها النكبات الصحيّة والجسديّة:
وغدوتُ مع متع الحيا ةِ كناسكٍ متعبِّــــــــــــــــــدِ
...لا أرتوي من خمــــرةٍ كانت شعاعًا في يدي
لا أسلخ السهراتِ مع وتــــــــــــــــــــــــــــــرِ المغنّي المنشِدِ
لا منبرٌ يهتــــــــــــــــــــــــــــــــــــزّ لي طربًا بشعرٍ جيّـــــــــــــــــــــــــــــــــــدِ 
حتى الكتابُ تنكّــــــــــرتْ لي فيه بنتُ الأبجـــــــــــــــــــــــدِ
ترك أديب صعيبي عالمَ الأرض باكرًا. رحل والشعرُ في فمه. وقلمه ينزف بعدُ قطراتِ سكّرٍ في قصائدَ لم تكتملْ، وهي كانت تكتحلُ حبًّا بالدنيا والفلَذات. سقط اليراع وهو يرقص حبورًا بابنةٍ تفوّقت، ترك على القرطاس أبياتًا تنتظر الخواتيم، لكنّها في القيمة وفّت قسطها. إذ خلُص إلى تهنئةٍ نادرةٍ تقول:
إن قيل لي: سمرٌ سادتْ بمعرفةٍ وكنتُ طيّ ضريحي أهجرُ الحُفَرا...
رحل أديب صعيبي عن عالمٍ هام به. عاشه ثملاً بما آمن به، لتتركَ آثارُه شاعرًا "من ثناياه فاح عَرْف الطهارهْ". شاعرًا يلتقي في القرن العشرين أخًا له، بل توأمًا لروحه، مرّ في هذه الدنيا منذ قرونٍ عشرة، ألهمه وامتلأ منه. أوَليس في أديب صعيبي ما يُرجّع في المدى، صدى أبي الطيّب المتنبّي ويبعثه حيًّا؟ أمَا تحاكي أشعاره حكمة الحياة عند الشاعر العبّاسيّ أبياتًا تروح في البطولة الإنسانيّة على ما قال مثلاً:
المرءُ يُبكى على مقدارِ همَّتهِ إن ماتَ غضّ الصبا أو أبيضَ اللممِ
وله في أبي نواس مرآةٌ تعكسُ في شعر الخمرة آلامًا مبرّحة راح يطيّبها بتلذّذاتِ كأسٍ تُلهي فتُنسي:
سأرشف الكأسَ تلو الكأس مترعةً لأستعيدَ نديّ العمر والذكَرا
إنّي في هذه العُجالة، لا أدّعي دراسةَ شاعرٍ عرفته وأحببتُه فحسْب، بل أكبرتُ شخصه ومكانته. ولا أحسبُني أدّيتُ تحيّةً لمن علّمني، لا لغةً وأدبًا، بل نهجًا أدبيًّا أسلكه في مسيرتي التخصّصيّة والمهنيّة، وخصوصًا في شخصي الأديبيّ. ولكنْ حسْبي أهديتُ سلامًا إلى من، رغم رحيله منذ ما يقارب الربع قرن، ترك هنا ذاته، شاعرًا خالدًا وإنسانًا يبقى بقاءَ الأدب. 
في 25 كانون الثاني 2013
                                                                                                عماد يونس فغالي 
 
  
 
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد يونس فغالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/13



كتابة تعليق لموضوع : أديب صعيبي: الناطق شعرًا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net