بسم الله الرحمن الرحيم
مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{178}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ) : يشير النص المبارك الى ان الهداية منه عز وجل , يوفق لها كل من طلبها في مواضعها .
2- ( وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) : اما من اختار طريق الضلالة مسلكا , فيخذله جل وعلا , فلا يكون الا من الخاسرين .
يلاحظ في الاية الكريمة , انها اوردت الهداية والمهتدي بصيغة المفرد , اما الضلالة والخاسرون فكانت بصيغة الجمع , لعل ابرز الاراء في ذلك :
1- للهداية طريق واحد فقط , اما الضلالة فلها طرق ومسالك كثيرة .
2- قلة سالكي طريق الهداية في كل زمان ومكان , وكثرة سالكي طرق الضلالة في كل عصر ومصر .
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{179}
نستقرأ الاية الكريمة في ثلاثة موارد :
1- ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ) : ( ذَرَأْنَا ) بمعنى خلقنا و اوجدنا " مصحف الخيرة/علي عاشور العاملي" الكثير من الجن والانس , ليكونوا حطبا لجهنم , النار تحتاج الى وقود , وذلك مصداق ما اشارت اليه الايتين الكريمتين { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً }الجن15 , { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }الأنبياء98, اما السبب :
أ) ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ) : لديهم قلوب لا يعقلون بها , ولا يميزون الحق عن ضده .
ب) ( وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ) : لديهم اعين لا ترى دلائل وقدرة الله تعالى .
ت) ( وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ) : لديهم اذان لا يسمعون بها ايات الله , سماع متدبر متعظ .
ينبغي الاشارة الى :
1-1- ان ( القلب – العين – الاذن ) المشار اليهم في الاية الكريمة , ليست الجوارح , بل البواطن الاعتبارية لكل منهم , فالقلب يشير ويدل في كثير من الايات الى الروح , اما العين تشير الى البصيرة لا البصر , واما الاذن فتشير الى استماع المتعـظ والمعتبر ! .
1-2- ان ترتيبهم بهذه الكيفية ( قلب – عين – اذن ) مهم جدا وحكيم , وان تغير الترتيب لفقد الكثير من معانيه السامية , وهذا ما يدل على تماسك القرآن الكريم , مفهوما معنى , فلا يمكن ان توجد عين ( بصيرية لا باصرة ) من دون روح ( قلب ) , ولا توجد اذن باطنية ( اعتبارية ) من غير وجود عين باطنية ( اعتبارية ) ايضا .
2- ( أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) : تضمن النص المبارك مثلا , يشبه من هم على هذه الحالة بالانعام , بل اكثر ضلالة منها , وقد يكون ذلك في امرين :
أ) لان الانعام تملك غريزة ولا تملك عقلا , اما هؤلاء , فلديهم عقولا وغرائز, فأن طفحت غرائزهم وحجب عقولهم , كانوا اقل شأنا من الحيوانات .
ب) ان الانعام تطلب منافعها ( غرائزها ) , وتهرب من كل مخوف , مهول , كالنيران والكوارث الطبيعية , اما هؤلاء , فيتركون ما فيه الامن والامان , ويلقون انفسهم في التهلكة والمهالك ! .
3- ( أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) : فهم غافلون عن امرين :
أ) غافلون عن الله تعالى , وربوبيته وألوهيته وملكه جل وعلا ! .
ب) غافلون عما هم مقبلون عليه من التهلكة في جهنم والنيران ! .
وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{180}
نستقرأ الاية الكريمة في موردين :
1- ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) : له جل وعلى الاسماء الحسنى الدالة على الكمال والعظمة والقدرة , فيأمر النص المبارك ان يدعى بها , ولذلك منحنيين :
أ) ان يدعو العبد ربه جل وعلا بأسم من اسمائه الحسنى , بما يتناسب مع حاجته , فمثلا طلب المغفرة بأسمه تعالى الشريف ( الغفور ) , وطلب الرزق بأسمه تعالى الشريف ( الرزاق ) , وهكذا .
ب) من عشق واحب لهج بأسماء محبوبه وصفاته , فيتلو العبد اسماء ربه جل وعلا , تلاوة عاشق محب , ويرددها في خلده , ترديد اجلال وهيبة ووقار .
2- ( وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) : يأمر النص المبارك بترك الذين يميلون عن الحق واسماءه جل وعلا , ويبين النص المبارك ان الله تعالى سيجزيهم بسيئات اعمالهم .
جاء في تفسير البرهان ج2 للسيد هاشم الحسيني البحراني ( عن ابي عبدالله (ع) في قول الله عز وجل ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) قال : نحن والله الاسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد الا بمعرفتنا ) , لا غرابة ولا شك في ذلك , لانهم ( اهل بيت النبوة "ع" ) نورهم من نور النبي الكريم محمد (ص واله) , ونوره (ص واله) من نور الله تعالى , كما وان اسمائهم (ع) مشتقة من اسمائه , فمحمد مشتق من اسمائه تعالى ( المحمود – الحميد ) , وعلي (ع) مشتق من اسمه تعالى الشريف ( العلي ) , وفاطمة (ع) مشتق من اسمه تعالى الشريف ( فاطر ) , وهكذا .
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ{181}
تختلف الاراء في الاية الكريمة , فنذكر منها :
1- تفسير الجلالين للسيوطي ( هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) .
2- تفسير البرهان ج2 للسيد هاشم الحسيني البحراني ( عن عبدالله بن سنان , قال سألت ابا عبدالله (ع) عن قول الله عز وجل ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) قال : هم الائمة , وفي حديث اخر ( العياشي عن حمران عن ابي جعفر (ع) في قول الله عز وجل ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) هم الائمة , وقال محمد بن عجلان عنه (ع) : نحن هم ) .
في الواقع , لا يمكن ان تكون امة محمد (ص واله) جميعا المقصودة في الاية الكريمة , لان الامة يجوز عليها الخطأ , ويمكن ان تنحرف عن المسار , كما نراه اليوم من انشغال الامة عن رسالتها وانغماسها في طلب ثقافات الغرب , ونبذ ثقافتها ورسالتها او تركها على الرف , فلابد ان يكون المشار اليه في الاية الكريمة هم الائمة الاثنا عشر , الذين ذكرهم الرسول الكريم محمد ( ص واله) في احاديث كثيرة لدى كافة المذاهب الاسلامية , فنختار ما جاء في صحيح مسلم ( يروى ان محمدا صلى الله عليه وسلم قال ( سيستمر الاسلام حتى قيام الساعة وسيتعاقب عليكم اثنا عشر اماما كلهم من قريش ) .
كل فرقة من فرق المسلمين تشير الى اثنا عشر اماما او خليفة , حسب ما يعتقدون , غير مبالين لنقد الفرق الاخرى , فجميع من اختاروه لا يصمد امام الجدل والنقاش , الا الائمة الاثنا عشر الذين اشار اليهم الشيعة , فجميعهم (ع) لا يمكن نقدهم والطعن فيهم من الفرق الاسلامية الاخرى , بل على العكس من ذلك , نجد ان كل الفرق الاسلامية تمتدحهم , وترى لهم الاولوية والاسبقية العلمية والايمانية .
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ{182}
تشير الاية الكريمة الى ان الله تعالى سيقرب الذين كذبوا بآياته من اهل مكة وغيرها سيقربهم للهلاك قليلا قليلا , درجة بعد درجة , وذلك بكثرة الخيرات وموارد الرزق , وتيسير سبل العيش .
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ{183}
تكمل الاية الكريمة سابقتها الكريمة , وتضيف ان استدراجه عز وجل يكون ايضا بالامهال , فيزدادوا ظلما واجحافا , فيتضاعف لهم العذاب اكثر واكثر , فــ ( إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) شديد , لا يطاق , ولا يمكن دفعه بأي وسيلة كانت ! .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ{184}
تشير الاية الكريمة لمن كذب ببعثته (ص واله) , ان يتفكروا ويتدبروا بعقولهم , فيدركوا ويعلموا ما به (ص واله) من جنون , وانه (ص واله) الا نذيرا لهم من عقاب وعذاب لا محالة واقع بهم .
أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ{185}
تستمر الاية الكريمة في اشارتها لهم , وهذه المرة توجههم للنظر في ملكوت السماوات والارض , وما خلق الله تعالى فيهما من الاشياء , ما يدل على بديع صنعه , وعظم ملكه وملكوته جل وعلا , عسى ان يكون قد اقتربت اعمارهم على نهايتها , فأن لم يؤمنوا بما جاء به الصادق الامين (ص واله) كما كانوا يدعونه ويلقبونه ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) ! .
مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{186}
تشير الاية الكريمة ان من يضله الله تعالى , فلن يكون له هاديا غيره جل وعلا , وسيتركهم جل وعلا في غيهم وطغيانهم يتحيرون ! .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{187}
مما يروى في سبب نزول الاية الكريمة , ان قريشا ارسلت عدة انفار الى نجران لسيألوا اليهود الساكنين فيها مسائل ملتوية ثم يلقوها على النبي (ص واله) عند رجوعهم اليه , ظنا منهم انه (ص واله) سيعجز عن اجابتهم . " تفسير البرهان ج2 / هاشم الحسيني البحراني , مصحف الخيرة / علي عاشور العاملي" .
ونستقرأها في ستة موارد :
1- ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ) : سأل اهل مكة بعد ان اشار عليهم اليهود عن الساعة ( يوم القيامة ) متى قيامها , او متى موعدها الثابت ؟ , فيخبر النص المبارك النبي محمد (ص واله) ان يجيب ان علمها عند الله تعالى .
2- ( لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) : لا يظهرها الا هو جل وعلا .
3- ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : عظمت وثقل علمها على اهلها لهولها وعظمة امرها .
4- ( لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) : تأتي بشكل مفاجئ , البشر يستعدون ويعدون العدة للكوارث الطبيعية , بعد ان يتنبؤوا بها , فيجتنبوا اضرارها بما تيسر وامكن , لكن الساعة , لا يمكن لاحد ان يتنبأ بها , ولا تنفع معها العدة والاستعداد ! .
5- ( كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ) : كأنك عالم بها , او حريصا على معرفتها , جادا ومستقصيا بالسؤال عنها .
6- ( قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) : يخاطب النص المبارك الرسول الكريم محمد (ص واله) ان يجيب , ان علمها عنده عز وجل , لكن اكثر الناس لا يعلمون ذلك , فمن طبائع الانسان حب الاستطلاع وتقصي الامور , دائما يبحث عن موعدا او ميقاتا ليوم القيامة , فيجد بالسؤل لاهل المعرفة , ويتتبع علاماتها التي وردت في الاحاديث الشريفة .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat