فـغــــــال... قريتنا
عماد يونس فغالي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عماد يونس فغالي

فغال قريتنا، نعرفها. نعرف فيها الحجر والبشر. وقد عُرفتْ مهدًا للحضارة في القرن العشرين، ثقافيّـًا واجتماعيًّا وسياسيًّا. عَرف الفغاليّون الاتّحاد في العمل الشبابيّ، فعاشوا الوحدة رغم انقسام القرية السياسيّ، ووقفوا في اتّحاد فغاليّ وتضامن في النشاط، في وجه أهاليهم الذين كانوا يغرقون في وحول الخصومات السياسيّـة، ويتخبّطون في الصراعات العائليّة.
فغالُ قريتنا، نعرفها تعيش الجوّ العائليّ السليم. فالعائلة هي مجتمع القرية الأساس. يحافظ على سلامتها الوالدان، وينقلان التمسّـك بالجذور العائليّة وتقاليدها إلى أبنائهم الذين يتابعون في الخط ّ نفسه بأمانة. وفي عواصف هذه الأيّـام التي تجرف الكثير من الشبّان والمراهقين، تقف العائلة في مبادئها والقيم التي تتحلـّى بها، سدًّا منيعًا يقي أبناء القرية شرّ الوقوع في ما لا تـُحمد عقباه، ولا ينفع فيه ندم أو تقويم.
ابنُ فغال، إنسانٌ ولدته أرضٌ عمل فيها المحراثُ، لتخرجَ جنائنَ معطاءة من اللوز أبيضَ الزهر، أخضرَ الثمرة، يستحيل ورودًا مشويّة ًبالسكر، تميّـز أفراحَ القرية وأعيادها.
ابنُ فغال، عصرته حبوب الزيتون على شجرة ٍ قلّما رآها تيبس أو تموت في أيّامه. فسقاها من عرقه لتطيّبَ مائدته مرصوصًا ومكبوسًا، وتحلو أطباقه بخضيرها المسكوب صافيًا رقراقا.
وكأسُ مُـدامٍ من كروم ٍذهبيّة أينعتها أشعّـة أيلول خرقتْ حبّـاتها هادئة دافئة، فأنعشتْ جسمًا مترنّحًا، وروحًا تسبح في حلاوات الحياة.
ابنُ فغال، كأرضها، صلب المواقف في وجه تيّارات الأيّام. لا يلين أمام أفكار ٍ تأتيه من الخارج الغريب، ولا ينجرّ وراء سياسات لا تقنعه، ولو كان إغراؤها قويّـًا. إنّه إذا اقتنع، دفع حياته ثمن قناعاته. وإذا اتّخذ موقفًا، دافع عنه بشراسة وإيمان جعلا خصمه يخاف المواجهة. يعاني الكثير في وجه عاتيات الأيّام وقهر الزمان. يفضّـل عرق الجبين في سبيل تأمين لقمـة العيش، لأنّه يؤمن أنّ عرق الجبين يرفع رأسه ويقوّيه في الأزمات. ويرفض تزليم نفسه للمتسيّدين الرخصاء وصغار النفوس.
إنسانُ فغال، رجل انفتاح ٍ على الآخر في عالمه. يخرج من بيئته ليتعرّف العالم الخارجيّ وينهل ممّا يقدّمه له من أطايبَ وجمالات، رافضًا كلّ ما من شأنه أن يأتيه بالضرر وأن يجرّ عليه من سوء. فتبقى بيئته نظيفة، لا يدخلها إلا ما شاء هو أن يستمدّه لخيره. وفي الخارج، يتعرّف الآخرُ العالمَ الفغاليّ ليحبّه، ويفرح بإقامة العلاقات مع أبنائه، مكتشفًا أنّ ما عندهم كنز يفتقر إليه.
فغالُ قرية ٌ تمتدّ في الجذور التاريخيّة على المستوى الإنسانيّ والقيَميّ. وتنطلق على امتداد الآفاق حبلى بالمواعيد على المستوى الحضاريّ والثقافيّ. لا قديمَ فيها إلا ّويستمرّ نبعًا يدفق خيرًا في نفوس أهليها، ولا جديدَ يدخل إليها إلا ّويتجلـّى مرصدًا للفضائل والأخلاق.
فغالُ قريتي، أحببتُها بما تقدّمه لي وتتطلّبه مني. فأظلّ ابنها الوفيّ، أفخر بانتمائي إليها، وأتعلّق بأرضها وناسها. أحمل اسمَها الذي يحدّد هويّتي. فيها أعرف نفسي، ويعرفني المجتمع كلّه.
فغالُ هي، وفغاليّ أنا. في ترابها يرقد أجدادي، وعلى أغصان أشجارها أشمّ رائحة أيديهم المبارَكة. وبين نـُسَيمات هوائها العليل، أتخيّل أطياف أجسادهم تذكّرني بمواسم أيّامهم، للزرع ِجنىً وبين الناس لقاء. وأصواتهم الدافئة لا تزال رنّاتها صافية ً في أذنيّ، تعود بي إلى ليال ٍخوال ٍ كانوا يملأونها فرحًا وعونًا وسلامًا.
إليكِ يا قريتي الحبيب محبّتي الفائضة، ووفائي الصـادق لِما أرثه فيك ِمن كنوزٍ أعتزّ بامتلاكها. لكِ عهدي الدائم بالمحافظة على الموروث الغالي، وبإيصاله إلى من أعطاني الله أن أهبَهم الحياة انتماءً إليك ِ.
كما أعاهدكِ بالمتاجرة بالوزنات التي بين يديّ، فأربحَ أضعافَ ما لي، هديّةً لك ِوأمانة ًلأجيال الغد الفغاليّة، على امتداد الزمان، وفي رحاب الوطن والعالم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat