الحديث عن ثقافات عاشوراء
لعاشوراء وجهان: وجه مأساوي ملحمي, ووجه آخر ثقافي. أمضينا الوجه المأساوي والملحمي وحان الوقت لنبدأ مع الوجه الثقافي لعاشوراء. عاشوراء صفحة زاخرة بالثقافات, وثقافات عاشوراء هي الخطاب الحسيني الذي نتلقاه جيلا بعد جيل. قبل أن أتحدث عن ثقافة عاشوراء, أود أن أقول جملة مختصرة عن الثقافة. الثقافة هي الجهة التي توجّه سلوك الإنسان, توجّه عقل الإنسان, وتوجّه عواطفه أيضا. فالعِلْم لا يوجّه سلوك الإنسان, مثلاً, الصيدلة يتعلمها الصالح والفاسد, الرياضيات يتعلمها الصالح والفاسد, طبقات الأرض يتعلمها الصالح والفاسد, أي إنه ليس لها علاقة بالتوجّه السلوكي للإنسان. المثقِّفات لا توجه سلوك الإنسان, كيف يعيش, أو كيف تكون علاقاته مع الآخرين, مع الله, مع نفسه, مع المجتمع, مع عائلته, بما يعني أنها لا توجّه سلوكه. بعكس الثقافة, فالقرآن كتاب ثقافي, صحيحٌ أنَّ هناك في القرآن علمٌ كثير, وآخر المستحدثات أحيانا نجدها في القرآن, ولكن من الخطأ قولُ أن القرآن كتاب علمي. القرآن كتاب ثقافي, القرآن جاء ليوجّه سلوك الإنسان, عقل الإنسان وعواطف الإنسان. هذه مهمة القرآن في حياة الإنسان (هذا القرآن لا ريب فيه هدىً للمتقين)،(هذا القرآن يهدي للتي هي أقوَم). القرآن يعلمنا كيف نعيش, بينما العلم نأخذه من أي يد, من اليهود, من النصارى, من المسلمين, أو من المنحلين. أينما وجدتم العلم خذوه ولا تقولوا هذه اليد التي تقدم العلم طاهرة ، أو نجسة ، أو قذرة. خذوا العلم وان كانت اليد التي تعطيك العلم يد ملوثة وملطخة. العلم سلاح وقوة, خذ منه هذه القوة, وإن كان الذي يعطيها إنسان غير صالح, أنت إنسان صالح, أنت استلم هذه القوة. العلم نأخذه من أي مكان, والحديث معروف, لكن أنا لم أره في أي كتاب (اطلب العلم وان كان في الصين) ويجب أن نستقي الثقافة من مصادر الوحي, واخذ الثقافة من مصادر بشرية وحضارية. هذا خطأ, إذ أنّ الثقافة هي المعرفة التي توجّه سلوك الإنسان, ارجع إلى ثقافات عاشوراء. عاشوراء صفحة زاخرة بالثقافات, غنية بالثقافات, ثقافة المقاومة, ثقافة إباء الضيم, ثقافة الاستعانة بالدنيا, ثقافة مواجهة التحديات, ثقافة الصبر, ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ثقافة التضحية, ثقافة العطاء, زاخرة عاشوراء بالثقافات, وتختزل عاشوراء ثقافات واسعة. أنا قَدر ما يسعني الوقت أحدثكم عن بعض من ثقافات عاشوراء. وأنا أحضرت في مذكراتي عشرة من مذكرات عاشوراء. وإن وسعنا الوقت اشرح لكم عشرة من ثقافات عاشوراء, الثقافة الأولى: ثقافة المقاومة, في الفكر في التاريخ الإسلامي عندنا فقهين: الأول- فقه تجاه الحكام الظلَمة, تجاه الحكام الفاسدين. الثاني- فقه المطاوعة والاستسلام والانقياد والتجاوب مع الظالم. وهذا فقه بنو أمية, هم الذين أسسوا هذا الفقه حتى يسلموا من الثورات الشعبية التي تتفجر هنا وهناك. أسسوا هذا الفقه ووضعوا أركانه وشيدوا بنيان هذا الفكر. وهذا الفقه موجود إلى اليوم في بعض طوائف المسلمين.
ولكن في ظل هذا الفقه تظهر فتنة يكون فيها القائم خير من الساعي, والجالس خير من القائم, والمضطجع خير من الجالس, يجلس في بيته ويسد أبواب بيته ويكسر سيفه ويتخذ بدل سيفه سيفا خشبيا. طيب من يخمد الفتنة؟ الفتنة تشتعل, تلتهب ساحة المجتمع وتفرغ للفاسدين. يعني عملية منظمة, منظومة لإخلاء الساحة للفاسدين. الصالحون يسمعون هذا الفقه, فيتجنبون الدخول في الفتنة, فالساحة تخلو وتفرغ للفاسدين الذين ينشطون في الساحة ويحتوون الساحة. هذا هو الفقه الأموي وهذا الفقه شيدوه بني أمية ولولا ثورة الحسين عليه السلام لكان هذا الفقه هو الفقه السائد إلى اليوم وهذا الفقه لا يزال إلى اليوم عند بعض الطوائف من المسلمين. أما الإمام الحسين فقد طرح مشروعا آخر, فقه آخر, هو فقه المقاومة بدل فقه المطاوعة. فقه المقاومة, هو فقه عكسي, يعني مقاومة الظالم ومجاهدة الظالم, ومكافحة الظالم. الذي يسكت عن الظالم يحشره الله مع الظالم يوم القيامة. يقول لله "أنا لم اظلم احد", فيقولون له "كلا أنت لم تظلم احد, ولكنك سكتَّ عن الظلم, والذي يسكت عن الظلم يحشره الله مع الظالم" هذا الحديث عن الرسول, وذاك العد النازل, أما هذا فهو العد الصاعد (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, "المرحلة الأولى أن يدخل الساحة ويغير بيده, يخرج على الظالم, يثور على الظالم", فان لم يستطع فبلسانه وان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان). الإمام الحسين عليه السلام بخروجه شيّد هذا الفقه وهو فقه القرآن. الله عز وجل يقول في كتابه الكريم (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) الذي يركن ويطيع, ويطمئن إلى الظالم تمسه النار. هذا الفقه شيّده الحسين عليه السلام ولا أقول أسسها لأن القرآن هو المؤسس الأول لهذا الفقه ولولا فقه المقاومة لكان للتأريخ الإسلامي وجه آخر. الثورات التي حصلت بعد الإمام الحسين في وجوه الظالمين, هذه الثورات هي نتاج هذا الفقه وهو فقه المقاومة في مقابل فقه المطاوعة. وإذا نظرنا اليوم إلى العالم العربي, نرى أن هناك ثورات في إفريقيا ضد ثلاثة من طغاة في ليبيا ومصر وتونس, وفي آسيا- في اليمن, والبحرين. هذه الثورات تأتي امتداد لتلك الذهنية "ذهنية المقاومة وخلفية المقاومة" ولو تُرك الأمر لفقه المطاوعة عندها ستنفتح الأبواب بأوسع ما يمكن لتسلط الطغاة والجبابرة. بما يعني أنه لا يوجد شيء يربّي ويمهد ويهيئ الأرض للطغاة والجبابرة مثل فقه المطاوعة, هذا الفقه من شأنه أن يربّي, أن يهيئ الفرصة لرجال مثل بورغيدا, مثل كمال أتاتورك, أمثال صدام, أمثال حسني مبارك ومعمر القذافي. هؤلاء وجدوا في فقه المطاوعة الفرصة الذهبية المؤاتية لهم. الإمام الحسين وضع أساس في فقه المقاومة ولو لم يكن في هذه الثورة العظيمة شيء إلا هذه المدرسة التي شيدها الحسين "فقه المقاومة" لكفانا خطب الإمام الحسين في منزل البيضة على أصحابه وأصحاب الحر فقال (أيها الناس قال رسول الله- من رأى سلطانا جائراً مستحِلّاً لحرام الله, ناكثا لعهد الله, مخالفا لسنة رسول الله, يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان, ثم لم يَغِرْ عليه بفعل ولا قول "هذا سلطان جائر, يفتك, يبطش بالآخرين, يفسد في الأرض وهذا الإنسان المسلم المتدين الذي يصوم ويصلي بقى في موضع المتفرجين لم يتحرك لم ينزل للساحة إنما بقى على مدرجات المتفرجين" كان حقاً على أن يدخله يوم القيامة معه) يدخله الله أي يحشره مع الظالم الفاتك الفاسد الذي يبطش, يحشر هؤلاء معهم، ربنا نحن لم نظلم, لم نفتك بأحد, لم نفسد بالأرض, ولكنكم سكتم عن الظلم والفساد والفتك والبطش, فانتم تتحملون هذه المسؤولية. هذه هي الثقافة الأولى ثقافة المقاومة .
الثقافة الثانية: ثقافة إباء الضيم. رفض الظلم ليس كل احد يحسن ان يقول للظالم "لا" الرفض ليس له علاقة بالقوة العسكرية والمال والإعلام والسلطان. الذي يعجز عن أن يرفض الظالم, هذا عنده عجز نفسي, ليس بالضرورة عنده عجز في ميزان القوة العسكرية وفي الميزان المالي والإعلام ولكن عنده عجز نفسي. وهذا العجز لا تسده القوة العسكرية والذي يملك أن يقول "لا" تجاه الظالم, يرفضه. هذا ليس بالضرورة أن يكون عنده قوة عسكرية, مال أو سلطان أو إعلام. قبل عدة أيام اجتمعت 23 دولة عربية في القاهرة, وغزة تلتهب, وتمخض الاجتماع وليتهم لم يجتمعوا, عن شجب إسرائيل وتأييد غزة وفي أمان الله. هؤلاء عندهم النفط والمال والإعلام والقوة العسكرية ولكن الشيء الوحيد الذي ليس عندهم هو القرار والموقف. عندهم عجز أن يقرروا, وعندهم عجز أن يتخذوا موقف القدرة العسكرية. مسألة نفسية ،الذين يملكون الجيوش والعسكر والقوة العسكرية والمال والنفط والإعلام لا يملكون القرار, يملكون النفط ,في كل يوم ملايين البراميل من النفط, والنفط قوة ولكن من لا يملك القرار ليس عنده قوة على اتخاذ القرار, وهذا هو العجز. والذي لا يملك شيء (شباب في غزة لا يوجد عندهم نفط ولا جيش, عندهم عدد معلوم من الصواريخ, غير معلوم متى تنتهي) ولكن عندهم قدرة على القرار والموقف, واتخذوا قرار المقاومة ومواصلة المعركة حتى تعلن إسرائيل عجزها عن مقاومتهم, هي التي تطلب الهدنة. هؤلاء الشباب خربوا وهدموا القبّة الحديدية التي كانت تتغنى بها إسرائيل. هدموها على رأس الصهيونية, على رأس إسرائيل بإمكانيات محدودة. أنا أرى فيكم ناس شيبة عاشوا سنة 1967م بوعي سياسي كانوا يفهمون ما يجري, ويتذكرون حين انتكست 18 دولة عربية أمام إسرائيل, سُمِّيَت انتكاسة ولكن هي هزيمة نغلفها باسم الانتكاسة, وبعد ذلك مجموعة قليلة من شباب لبنان, شباب حزب الله صمدوا أمام إسرائيل, ولكن خلال 6 أيام كانت هزيمة الدول العربية أمام إسرائيل وبقيت إسرائيل تتغنى بذلك.
لا نحتاج إلى عدة عسكرية, ولكن نقول أن العدة العسكرية والقوة العسكرية ما لم تصحبها القوة النفسية واتخاذ القرار لن تكون منتِجة. في سنة 1967 أنا اذكر كنت في عمر الوعي السياسي, كانت عيون العرب على موسكو, متى تشيد موسكو الجسر الجوي بين موسكو- القاهرة, الله خيبهم جميعا, شباب حزب الله كانت عينه بعين الله بإمكانات يسيرة جدا والله عز وجل نصرهم أولئك انتكسوا بـ 6 أيام وهؤلاء قاوموا 33 يوم وإسرائيل لم تتقدم شبراً واحداً. عاشوراء تعلمنا ثقافة إباء الضيم, كيف نأبى الضيم. سلام الله على الحسين يقول "ألا وان الدعي ابن الدعي" يعني ابن زياد يشتمه مرتين, يشتمه وهو منسوب إلى أبيه, غير معلوم من أبوه, وزياد غير معلوم من هو أبوه, لان زياد أبيه ، "ألا وان الدعي ابن الدعي" قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة, يأبى الله لنا ذلك, وحجور طابت وطهرت من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام, لو خيروني بين طاعة اللئام أضع يدي بيد يزيد أو أن ارفع راسي. أنا مستعد أن أقدم مصارع الكرام على طاعة اللئام, يقول عليه السلام "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل, ولا افر فرار العبيد". كان للإمام الحسين عليه السلام ثلاث خيارات. الخيار الاول: ان يضع يده بيد يزيد ويعيش براحة. الخيار الثاني: امتنع الحسين عليه السلام من أول يوم أعلن الـ"هيهات" وهيهات في اللغة العربية تستعمل لحالات الرفض المؤكدة "هيهات منا الذلة", يعني أبدا لا تتصوروا ولا تفكروا, فكروا في كل شيء ولا تفكروا أن أضع يدي بيد يزيد. الخيار الثاني- أنا لا يعجبني أن اتهم هؤلاء الذين كانوا يحبون الحسين, وكانوا لا يحبون أن يذهب الحسين إلى العراق ليقتل, وكان ابن عباس منهم فيقول له: "لأبيك شيعة في اليمن وجبال اليمن صعبة ومناطق أمينة وصعبة, توجّهْ إلى اليمن ولأبيك شيعة هناك حتى ينتهي هذا الطاغي" ولكل حادث حديث الإمام يقول "ولا افر فرار العبيد" انتم تقولون لي أن أغيّب وجهي عن الساحة, وأنا لا أغيّب وجهي, أنا لا أضع يدي بيد الطاغية ولا أغيّب وجهي عن الساحة, اذهب إلى اليمن وبلاد المسلمين تشتعل فتنة, وأنا أغيّب وجهي عن الساحة وأَسلَم بنفسي وأهلي؟ بقي عنده خيار ثالث: خيار المقاومة والمواجهة (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل, ولا افر فرار العبيد) لا الاقتراح الأول ولا الثاني.
ثالثاً: من ثقافات عاشوراء تعرية الظالم وفضحه. الظالم يحيط نفسه بجلال كاذب, والمديح والتملق والشعر والهيبة الكاذبة. هيبة السلطان الكاذبة, يغطون أنفسهم بهذا, والإرهاب له أيضا دور بهذا الجلال الكاذب. الإمام عليه السلام يعلّم الناس لا تخافوا من هذه الأيدي الكاذبة, عرّوا الظالمين, هذه هيبة كاذبة, سقّطوا عنهم هذه الهيبة لا يهمّكم. الحسين عليه السلام يُعرّيهم, يفضحهم, يقول "ألا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان". بنو أمية تركوا طاعة الرحمن, واظهروا الفساد وعبّدوا الحدود, واستأثروا الفيء, واحلوا حرام الله, وحرموا حلاله, وكان عصر الإجرام الأموي. ولما امتنع (عليه السلام) من البيعة ليزيد استدعاه الوليد حاكم المدينة ليلاً حتى يأخذ منه البيعة, فامتنع وقال "نصبح وتصبحون ونرى وترون". مروان كان واقفاً, فقال "لا تدعه يخرج! إذا خرج لن تستطيع أن تدرُكه". الإمام كان معه شباب من بني هاشم قال لهم "إن سمعتموني أصيح اقتحموا دار الأمير (قصر الأمير) وسيطِروا على القصر" وقال مروان لا تدعه يخرج اذ خرج لن تحصل منه على شيء. فقال له الإمام الحسين "ويلي عليك يا ابن الزرقاء". الزرقاء جدة مروان ومن ذوات الرايات في مكة معروفة بالبغاء, يشتمه الإمام الحسين "يا ابن الزرقاء, كذبتَ ولؤمتَ" ثم اقبل على الوليد وقال له "إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة, بنا فتح الله وبنا يختم, ويزيد رجل فاسق, شارب الخمر قاتل النفس, معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله". هذه آخر كلمة, وخرج الإمام من القصر ، هذه هي تعرية الظالم, يجب تعرية الظالم ، الظالم يعيش في هذا الجلال الوهمي الكاذب, الهيبة الكاذبة, نسقّطه مرة بعدها ثانية بعدها ثالثة بعدها رابعة حتى ينتهي .
رابعا: الفتح بالدم. كتب الحسين عليه السلام إلى بني هاشم من مكة رسالة موجزة : (أما بعد, فان من لحق بي استشهد, ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح) هاتان معادلتان إذا تأملنا فيهما جيدا نستخرج منهما معادلة ثالثة. المعادلة الأولى: الذي يلتحق معي يستشهد, المعادلة الثانية ومن لم يلحق بي فاتَهُ الفتح "ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح" هاتان المعادلتان فكروا بهما. فكروا بهما تستخرجون معادلة ثالثة وهي إن الشهادة تساوي الفتح. الذي يستشهد مع الحسين هؤلاء هم الفاتحون, هذا مفهوم جديد للفتح. الإمام الحسين عليه السلام يفتتحه عندنا, فتح عسكري من قبيل فتوحات الاسكندر المقدوني, من قبيل فتوحات المغول, من قبيل فتوحات نابليون بونابرت, من قبيل فتوحات هتلر, والفتوحات العسكرية. فهذه الفتوحات محدودة, عمرها قصير, وسطحية, عمرها ضحل, لا تغير شيء, لا تغير وقائع ولا تاريخ, وعندنا فتح حضاري. الإمام الحسين عليه السلام هنا يشير إلى الفتح الحضاري, عسكريا لم ينتصر الحسين عليه السلام, ولكن بالمقاييس الحضارية الإمام الحسين عليه السلام انتصر. الإمام يطرح هذا الفتح, فتح القلوب والعقول, هذا هو الفتح الذي يقصده الإمام عليه السلام, هذا الفتح هو السبيل إلى التضحية والصبر والمقاومة. أنا لا أقول لا حاجة إلى القوة (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ولكن القوة من دون تضحية, من دون صبر, من دون مقاومة, لا تنتج فتح حضاري, بل تنتج فتح عسكري محدود, وهذه دائمة ومتصلة, فالفتوحات الحضارية عميقة. الإمام الحسين عليه السلام لما كان يخاطب الناس لا يطلبهم إلى مال ولا إلى سلطان, وإنما يدعوهم إلى الموت. الخطاب الأول له في مكة, هذا الخطاب الذي يمكن أن نسميه "البيان الأول للثورة" (ألا خط الموت على ولد ادم مخط القلادة على جيد الفتاة), صورة رائعة للموت لم أرى في الشعر ولا النثر لوحة رائعة جميلة للموت تشهي الإنسان للموت مثل هذه. القلادة تحاصر جيد الفتاة صار طوق كل قلادة طوق ولكن شتان بين الطوق الذي يطوق السجين, والقلادة التي تزين جيد الفتاة الحسناء. هذه القلادة تزيدها حسنا وجمالا, الموت زينة للرجال, الموت الذي يدعوا إليه الحسين عليه السلام جمال الرجال, والهروب إلى الموت قبيح على الرجال, ثم يقول عليه السلام (من كان باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإنني راحل, مصبح إن شاء الله تعالى).
خامسا: من الثقافات العاشورائية (انتصار الدم على السيف) هذه ثقافة عاشورائية محضة, أخذناها من عاشوراء. المظلوم الضعيف له حالتان (يستسلم للظالم أو يقاوم الظالم) لا توجد حالة ثالثة. يستسلم للظالم وعندها يبقى المظلوم مظلوماً ويبقى الظالمُ ظالماً لا تتغير هذه المعادلة بينهما أبدا. الظالم يبقى في موقع الظالم والمظلوم يبقى في موضع المظلوم ولو مرت 1000 سنة. الضعيف يبقى ضعيف والقوي يبقى قوي لو إن الضعيف لا يقاوم القوي الظالم. هذه سُنّة الله عز وجل, لو إن الضعيف انقاد للقوي الظالم 1000 سنة, أو 10000 سنة سيبقى جيل بعد جيل بعد جيل, ضعيفا, وسيبقى الظالم جيلا بعد جيل بعد جيل, ظالما. هذه المعادلة لا تتغير. وأما إذا قام المظلوم بمقاومة الظالم, عندها لم ينقد, وتحول من موقع المطاوعة إلى الانقياد إلى موقع المقاومة, والله عز وجل ينصره. تسألني كيف ينصر الله المظلوم الضعيف ضد الذي يمتلك القوة العسكرية والجيش والشرطة و, و, و إلى آخره .
أين التعادل بينهما؟ الله كيف ينصره؟ أنا نفسي أقول لك لا اعرف ولكن الله ضامن أولا في كتابه, الله معطينا ضمان ما من مظلوم يثور على الظالم ويتحمل ويصبر ويوحد ويقاوم إلا ونصره الله, هذه ضمانة إلهية. وثانيا التاريخ ما من مظلوم يقاوم ويصمد ويثبت ويضحي ويعطي إلا وينتصر على الظالم. أمّا من كتاب الله (وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبلدنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) هذه وعد الهي ولا يخلف الله وعده, هذا ينصره الله, ويتحول القوي إلى الضعيف, ويتحول الضعيف إلى القوي, والهرم الاجتماعي ينعكس تماماً. وهذه قاعدة, إذ تكون فوق وفي قمة الهرم, ثم تصير تحت. سلام الله على بطلة كربلاء زينب بنت علي أمير المؤمنين عليه السلام, تخاطب طاغية عصرها يزيد بن معاوية بهيبته وجلالته وسلطانه الكاذب في الشام تقول له : "فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحوا ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها لا تغسل عنك عارها وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد."
الثقافة السادسة: احتقار الظالم, احتقِر الظالم. الظالم حقير لا تغُرنّك هيبة الظالم الكاذبة, الظالم حقير, والظالم جبان, هذه قاعدة, لا ترون ظالم شجاع, كل ظالم جبان, وكل ظالم حقير. أنا لا أقول لا تأخذوا الحذر, لا. الإنسان يأخذ حذره من عدوه, هؤلاء الظالمون أعداؤنا, نأخذ حذرنا ونحتاط, ولكن لا نخاف منهم, نحتقرهم ولا نخاف منهم, الحذر والاحتياط لا بد منهما, نحن في ساحة صراع, في ساحة مواجهة, إذا لا يأخذ الإنسان حذره في ساحة المواجهة, يُطعن, يُغتل, يُقتل. لحظة واحدة من الغفلة كافية للقضاء على الإنسان. ولكن احتقروا الظالم, واحتقروا المستكبر المتجبر, احتقروه ولا تخافوا منه. سلام الله على القاسم بن الحسن, فتى مراهق, من كتب السيرة أنه لم يبلغ الحلم, في وسط ساحة المعركة, والذئاب يتناوشونه من كل جانب, محيطين به, وهذا الفتى بينهم راكب الفرس. هكذا يقول أرباب السير "انقطع شسع نعله في ساحة المعركة" ما هو قيمة شسع النعل, انحنى فعقده في ساحة المعركة والسيوف على رأسه, بريق السيوف على رأسه, انحنى وعقد شسع نعله ثم عاد إلى مصاولة أعدائه. لو تسأل مدرب عسكري هل إن هذا الفعل صحيح من الناحية العسكرية أو لا؟ يقول "لا" هذا الفعل غير صحيح, المفروض أن لا يهتم لذلك. لكن القاسم بن الحسن عليه السلام له رسالة, يريد أن يدلها إلى أعدائه, وهي احتقاره لهم. "أنا محتقركم, محتقر بريق السيوف علَي, انتم خارجين حتى ترجعون إلى بيوتكم, أنا خرجت من الخيمة وأنا لا ارجع, الحد الفاصل انتم سترجعون وأنا لا ارجع إلى عمي, انتم خرجتم حتى تعودوا بجوائز الأمير" وهذه رسالة احتقار لهؤلاء.
رحم الله عبد الله بن عفيف, رجل كفيف البصر, فقد إحدى عينيه في الجمل والعين الأخرى في صفين, كفيف البصر, هذا جليس المسجد, مسجد الجامع في الكوفة, امتلئ جامع الكوفة عند عودة أهل البيت عليهم السلام إلى الكوفة. ابن زياد جمع الناس يريد أن يحتفل بالنصر الذي رزقه الله تعالى, صعد المنبر ومسجد الكوفة يتسع لعشرة ألاف أو خمسة آلاف (أنا لا يوجد عندي معلومة عن مساحة المسجد الأعظم وكم تستوعب) مسجد هائل, يقول أرباب السيرة, صعد ابن زياد المنبر وخطب "الحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية على الكذاب ابن الكذاب" لم يعطه فرصه قام على قدميه وقال له (الكذاب أنت وأبوك ومن ولاك وأبوه) رحمةُ الله على عبد الله بن عفيف كم كان يتوقع هذا الرجل أن يعيش خمس سنوات ست سنوات لا أكثر ولكن خلّد نفسه. أنا أود أن أعطي خمسة وعشرين سنة من عمري لعبد الله بن عفيف مقابل هذا الموقف.
في العراق توجد ساحة صراع نعيش بها بالمعنى الدقيق. وهي ساحة صراع واسعة كذلك في البحرين, في إيران وفي لبنان أيضاً, ساحة صراع مدججة. المرء يدخل ساحة صراع من دون وعي. من أفدح الأخطاء التي ارتكبها بنو أمية هو أنهم بذلوا جهد كبير حتى يسلبوا الناس وعيهم. الحسين عليه السلام كان همه أن يعيد إلى الناس وعيهم. الذي يتتبع كلمات الإمام الحسين عليه السلام من مكة إلى المدينة, يجد أن من اكبر اهتمامات الإمام الحسين هي أن يعيد إلى الناس وعيهم, الوعي السياسي, الوعي شيء مهم, الوعي يصنع الموقف, من دون الوعي لا يوجد عندنا موقف, الوعي يصنع القرار, القوة من دون الوعي لا تمكّن الأمة من اتخاذ القرار, الوعي يعني القوة والشجاعة, الوعي يجر جبار وطاغية ليبيا من العرش الذي استقر فيه أربعين سنة إلى الأوحال. وفقدان الوعي يجلسه على عرش السلطان أربعين سنة, مَن أجلَسَ طاغية ليبيا على عرش السلطان أربعين سنة هو فقدان الوعي. بعد ذلك من الذي جرّه إلى الأوحال؟ الوعي، الوعي شيء مهم في حياتنا السياسية, يجب أن نعطي لامتنا وعياً. الوعي يخلق الإرادة والمقاومة في حياتنا. أنا لا أقول وعي النخبة, لا بد من وعي النخبة, ولكن وعي النخبة وحده لا يصنع شيء. الثورات التي وجدناها في عصرنا الحاضر ابتداءً من الثورة الإسلامية في إيران إلى الثورة في العراق إلى ثورة ليبيا إلى ثورة تونس إلى ثورة مصر في ساحة التحرير إلى الثورة في اليمن إلى الثورة في البحرين, تجدون الوعي السياسي. هذه الأمة تخرج إلى الشارع وتستقر في الشارع وتنادي وتقدم التضحيات ولا تعود إلى بيوتها. هذا ما نسميه "الوعي" نحن نحتاج إلى وعي النخبة ووعي الشارع في آن واحد.
أختتم قولي وعظم الله لكم الأجر, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://www.hamoudi.org/arabic/news.php?action=view&id=1191
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat