صفحة الكاتب : بشرى الهلالي

عرض شيق (للموت)
بشرى الهلالي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يا له من عرض ممتع، شاشة كبيرة على عرض حائط الاستديو، مذيعة تحشر نفسها بجينز ضيق وترفرف خصلات شعرها مع حركاتها الرشيقة وهي تؤشر بـ(عصا) رقيقة لتحدد المواقع الجغرافية على العارضة او شاشة العرض. عرض يشبه عرض الأنواء الجوية الذي نشاهده في قنوات عربية وعالمية مثل (بي بي سي) و(سي ان ان) وغيرها. لكن الفرق هو ان العرض الذي تقدمه هذه المذيعة الـ(المودرن) من على شاشة احدى القنوات الفضائية العراقية هو عرض لحصيلة القتلى (كما صار اسمهم) في كل محافظة من محافظات العراق. حتى الآن، قد يبدو الأمر طبيعياً، فقد انتشر القتلى في كل محافظات العراق خلال الشهر الماضي، وربما يصبح من الضروري شرح توزيعهم الجغرافي على خارطة، ليفهم المشاهد الاعداد قبل ان يخطأ ويتهم احدى المحافظات بالزيادة اوالنقصان، وايضا لمساعدة الارهابيين على معرفة الاعداد الحقيقة لحصادهم (إن لم يكن هنالك مبالغة من بعض القنوات، وتعتيم من قنوات أخرى). لكن ماشاهدته أمامي هو ليس خارطة جغرافية، بل هو مجسمات وصور متحركة على طريقة الالعاب الالكترونية (البلي ستشن) و(الاكس بوكس)، حيث يتم تصوير القتلى والارهابيين او المواجهات التي حصلت بين الطرفين وانفجار السيارات المفخخة بشكل مثير يجعلك تشعر انك امام لعبة (آكشن) مجسمة ولا ينقصك سوى ان تمسك بيدك (الجويستك) لتحريك الشخوص ومقاتلة احد الطرفين، حتى اني التفت وانا أشاهد هذا (الشو) ان يكون ابني قد شاهده، وهو المدمن على العاب (الاكس بوكس) فيطالبني باقتناء فترات الاخبار اليومية لهذه القناة.

لا أريد ان انتقد اسلوب القناة في بث الخبر، فلعلها تبحث عن التفرد في بث الخبر من خلال استخدام التكنلوجيا الحديثة التي سبقتها في استخدامها معظم القنوات الاجنبية والعربية، ولكن ليس مع الموت. فما شاهدته كان يعطي المشاهد فكرة دقيقة عن حصاد العمليات الارهابية لذلك اليوم، لكنه يعكس استخفافا بقدسية الدم. فمن قتلوا صباح ذلك اليوم لم يكونوا جنودا في معركة ـ اذا افترضنا ان الموت هو من حصة الجنود ـ بل هم اطفال ونساء ورجال وشباب ابرياء. وبدا ذلك واضحا في اليوم التالي عندما استعرضت القناة في عرضها لاخباري المشوق عن الموت العراقي ماحصل في سجن تكريت، حتى بدت عملية اقتحام السجن ومقتل الاثني عشر شرطيا مثيرة للضحك وليس فقط للمتعة!

ربما علي أن أشد على يد مخترع هذا (الشو) الاخباري الذي يصدر فكرة القتل باسلوب طريف لكي يقنع العراقيين ان الدم صار (ميّة)، وأن الارهاب لعبة يتسلى بها القابعون خلف سواتر المنطقة الخضراء، وأن (صداري الفتيات والقمصان البيض) في اول يوم دوام غسلت بالدم قبل ان تتسخ في مذبحة المدرسة لا لشيء الا لغرض استمرار هذا (الشو) الممتع للموت. وبهذا تكون هذه القناة قد ساهمت في إراحة اعصاب العراقي من احتقان وجه المذيع وارتجاف شاربه وهو يتكلف مسحة الحزن ليذيع اخبار القتل، لينقذه المخرج بفاصل دعائي يضع خاتمة لحزن لا يدرك حجمه الا اهل القتيل او (الذي كان اسمه شهيد).

في صباح اليوم التالي، لم اذهب للعمل لوعكة صحية، اوقظني اتصال زميل لي يسألني عن سلامتي، فقد حدث انفجار في احدى الساحات التي غالبا ما أمر بها في طريقي الى عملي، شكرت زميلي واخبره بأني ولحسن الصدف للمرة المائة بعد الالف، لم اذهب للعمل، واني سأتابع بث خبر السيارة المفخخة التي انفجرت في هذه الساحة ليلا في عرض شيق للموت العراقي...

alhelali_bu@yahoo.com


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


بشرى الهلالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/03



كتابة تعليق لموضوع : عرض شيق (للموت)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net