الدولة والمجتمع في سورية، والممارسات الهمجية..؟
سليم نقولا محسن
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
سليم نقولا محسن

إذا كان لا يمكن فهم الأحداث السورية من خلال معطيات الحكومة السورية وحلفائها، فمن المؤكد أنه لا يمكن فهمها أيضا، من خلال المناخات المتشنجة لدول حلف الناتو وحلفائها وتصويراتها الافتراضية وأحيانا المتخيلة لطبيعة ما يحدث..؟
فإذا كانت معظم المطالب المقابلة للسلطة، كانت تتمحور حول الإصلاح والحريات، ومجالات أوسع في التعبير، من أجل مستقبل أفضل للدولة والمجتمع، فإن قطيعة تامة قد حدثت فيما بعد بين هذه المطالب، وبين حقيقة الممارسات، التي أصبحت تجري لاحقا على الأرض، من قبل أفراد وجماعات ودول، والتي قد تحسب سياسية، بينما يمكن إلصاقها يكل أنواع الممارسات العدوانية الهمجية، إلا الممارسات السياسية، والتي تهدف في النهاية، إلى تقويض الدولة واقتلاع السكان وأبادتهم وفي أفضل الأحوال تهجيرهم .
ولكن من ناحية أخرى يجب أن لا يغيب عن ذهن المتابع للوضع السوري من أن السلطة السياسية قد انزلقت أولا على حساب المبدأ الدولتي إلى استرضاء شرائح اجتماعية سابقة غير إنتاجية خارجة عن جسم الدولة، كانت تعيش على حساب المجتمع المنتج، التي سبق وأن تكونت من خلال التكون الاستقلالي للدولة السورية وتحولاته الاقتصادية، إن كانت متوضعة على شرائطها الحدودية، أو في جيوب لها داخل العمق المديني السوري، أو شرائح اجتماعية أخرى استفادت من الاستحداث المتتابع لسلطات الدولة، وتورم البعض منها اقتصاديا في ثرائها الطفيلي على حساب أطياف المجتمع، (عبر غض النظر أو السكوت عن التجاوز القانوني)..؟ أضيف إلى تلك تجمعات سكانية هائلة غادرت مناطقها الإنتاجية السابقة وانتماءاتها الاجتماعية إلى المراكز والمدن، على أمل نوع آخر من العيش أوسع أفقا لكن دون انتماءات اجتماعية جديدة، لتتوضع على أطراف المدن في تجمعات سكانية هامشية تمارس كل أنواع الخروج عن القانون والفهلوة والشطارة.. يضاف إلى كل ما سبق ما يسمون بمستفيدي الإصلاح الزراعي الذين تخلوا عن أراضيهم وباعوها، وأصبح البعض منهم من الأثرياء الجدد من خلال المضاربات العقارية وارتفاع أثمان الأراضي لتحولها من زراعية إلى سكنية وتجارية، دون أن يشكلوا جماعات مستقرة لها نمطية الاجتماع الإنساني وضوابطه،
وهكذا يمكن إجمال كل هؤلاء الجماعات التي استفادت من الدولة ومؤسساتها، عبر توجهات الدولة (الاشتركية أو الاجتماعية الاقتصادية)، بل شكل الكثير من أفرادها بما يشمل فيضهم الثقافي كعناصر عاملة، كروافد بشرية لها، التي أثقلت كاهل الجسم الوظيفي للدولة دون مبرر، فساهمت في استنفاذ مدخراتها وثرواتها.؟. لكن مع الأسف، فإن كل هؤلاء الذين استقدمتهم دولة البعث في تطوراتها وتحولاتها منذ 8 آذار عام 1963، وغضت الطرف عن كل إفرازاتهم السلبية وتجاوزاتهم، في الفساد والإفساد، على أمل دعمها وترسيخ مجتمعها الجديد، قد أدى إلى عكس الحسابات، وبمجرد أن شعر هؤلاء أن السلطة قد تنبهت إلى أن الدولة لا يمكن أن تستمر في الفساد والفوضى، الذين هم أصحابها؟، انقلبوا ليس على السلطة فقط، بل في اتجاه الفوضى، وفي طريق بيع الدولة وإنهائها، وفرط وحدة المجتمع..؟ ضمن ارتداء عباءات ادعائية زاهية، لكن ذات منهج تطرفي أو تكفيري، يتقصد أن يساهم في استمرار أنشطتهم، على حساب وحدة المجتمع..؟
والجدير بالذكر فقد روى الكثير من أصحاب التوجهات الوطنية والقومية، أنهم كانوا على قدر من الاحتجاج على فساد عناصر من الجسم المؤسساتي الدولتي، والاستياء من ممارساتهم، والذين يشكلون مع السلطة ما يوصفونه بالنظام وهم من سلالة من ذكرناهم، قد تفاجأوا، بأن هؤلاء (السيئون) هم من أعلنوا أنفسهم المعارضين للنظام، وحملوا شعارات الإصلاح، وخاصة عندما توجه هؤلاء ممن يوصفوا بالمعارضة إلى إسقاط الثوابت في بقاء الدولة ووحدة المجتمع ، عبر دعوى الشعارات، والسير إلى الفوضى، مما دعا هؤلاء الشرفاء ممن كانوا في خط المعارضة النظيفة، الذين قد دفعهم استيائهم في أكثر من حين إلى إشهار سخطهم على النظام..؟ إلى الانقلاب الشرس في الدفاع عن بقاء الدولة ووحدة الشعب والمجتمع..؟
لكن هل هؤلاء، هم وراء الأحداث الداخلية التي تشهدها سورية..؟ لا يمكن الجزم في ذلك، لكن يمكن التأكيد على أنهم يشكلون الحاضن، لمكامن التغيير التدميري العاملة لصالح المخططات الدولية الرامية إلى استحداث النظام الدولي الجديد، دون النفي بأنه يمكن لهذه التجمعات السكانية أن تفرز عناصر التخريب والفوضى ذاتها التي درج الإعلام الكوني على توصيفها على غير حقيقتها بالثورة، وأفرادها ثوارا..؟ ويمكن ملاحظتهم كأفراد من شرائح التجمعات السكانية المحدثة، فالعديد منهم ممن كان قد صدرت في حقهم أحكاما جرمية وهم فارون من وجه العدالة ملاحقون، ومثلهم ممن يمارسون أعمالا جرمية دون أن تطالهم يد العدالة، وبستوطنون في استطالات العصابات المنظمة في الداخل السوري التي امتهنت المخدرات والسلاح، والرقيق الأبيض وتجارة الأعضاء البشرية، والاغتيال، وآخرون في أعداد ليست قليلة يتعيشون من تواجدهم في التماسات الحدودية مع دول الجوار، وفي داخل دول الجوار، والذين يمكن تجنيدهم في سهولة كمرتزقة، ونقلهم من التخريب الاقتصادي، إلى التخريب السياسي والاجتماعي، هذا غير المنضويين في علاقات وأنشطة مشبوهة مع الخارج، تحت أسم توظيفات اقتصادية ودينية وثقافية هي في حقيقتها سياسية، وينضوي تحت جناحها العديد من المجاميع الكامنة المغررة المعدة لساعة الصفر..؟
حقيقة الأمر إذا كان لا يمكن إغفال الواقع السلبي؟، فإن المسار التقليدي الطبيعي للمجتمع السوري، وهو في سيرورته مجتمع إنتاج، ينتج المجتمعات الدولتية ونظمها وقوانينها وسلوكيات أفرادها الأخلاقية، وإن قد تآكل بعض الشيء أمام المتغيرات العشوائية التي حدثت، بقي حيزا ضامنا للدولة بما له من مصلحة في الاستقرار، كما أن التوجهات التي اعتمدتها السلطات في عمليات استحداث البناء الإقتصادي الاجتماعي للدولة من خلال المشاريع الواسعة عير سنوات في كافة المجالات وعلى الرغم مما تخللها من تخبطات وقلة دراية وسط سلبيات مجتمعية واسعة، ومداخلات دولية مضادة مقيدة مخربة، فلقد ساهمت في تكون مجتمع نوعي جديد، له مصلحة ملتصقة في بقاء الدولة وفي استمرار وحدة الشعب والمجتمع،
إلا أن الممارسة السياسية الشمولية المستنسخة من العالم الاشتراكي ونظرياته الفكرية الذي كان سائدا، قد ساهم في إعاقة تطبيق المبدأ التحاوري بين أطياف المجتمع في شقيه العمودي والأفقي، الذي ينص عليه أساسا دستور الدولة، والذي يعمل بموجبه كافة المنظمات الشعبية والمؤسسات الدولتية، كما لم يمكنه رغم سنوات التحول من التطور لتوسيع آفاقه، بل أن الوضع السوري المفتوح والشديد التداخل على مختلف الأهواء العالمية ومصالحها، والذي لم يكن يخفى عن السلطة اختراقاته للمجتمع السوري دعائيا وثقافيا، عبر مختلف المنافذ الغربية ومؤسساتها الثقافية ومنظماتها الحقوقية الإنسانية والتعليمية أو الصحية حتى؟.. بالإضافة إلى عدم النضج السياسي الشعبي المحكوم في غالبيته بالتراث النقلي والحفظي، جعل من المستحيل السير في خطى طبيعية وطنية واعية، لحصاد النتائج دون شوائب، مما دفع السلطات إلى التدخل عبر أجهزتها الأمنية لإحكام قبضتها وضبط الإيقاع الحراكي السياسي الاجتماعي (كثقل للتوازن) تفاديا للخلل، وسط احتمالات خارجية متوقعة غير مأمونة تحمل في طياتها عواقب إسقاط الدولة والمجتمع..؟
ولربما هذا ما منع المجتمع السوري النوعي الجديد من رسم ملامح ثقافية وفكرية نوعية (بنى فوقية) تتواءم مع تشكله الجديد، وتقوده، أكان في مجالات الفنون والأدب أو الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل أن بعض المجموعات المتعلمة المتزاحفة من حفظة الشعارات، والعناوين والمقولات، قد تمكنت من مصادرة كل المنابر، وحتى أية بوادر واعدة في أي نتاج صادر، أو يمكن أن يصدر في هذا المجال، وأغلقت دائرة الفكر والعمل فيه.. بل أتاحت نقل المجتمع إلى غيبية مخيفة، غلبت عليها القدرية والكرامات، والظواهر العجائبية الكاذبة، بل نقلت أصحابها من الإدانة إلى مكان الصدارة؟ وتزاحمت هذه في شلليات كراكوزية بائسة تروج لنفسها، وتساند بعضها، وتزيح من لا يتوافق معها، لتحتل مقاعد المؤتمرات المحلية التشاورية، والسياحية المترحلة في صالونات الفنادق الفاخرة للعواصم العربية والعالمية، باسم شعب سوريا، لتوزع مواسم القحط والمهازل، ولغة العامة والتسطح والتفاهة، لتمثل بنى فوقية ملمعة مشوهة كاذبة، لمرحلة سورية مكافحة صادقة، ولتستأثر بما يغدق من مغانم..؟ هذه التي لم نزل نرى مع الأسف تفريخات أزلامها وأصوات نباحهم منتشرة رغم كل ما حدث من مآسي حتى الآن..؟
وإذا كان هذا الطفح المرضي ما كان قد ساد على سطح المجتمع السوري، فلا يعني هذا أن باطنه لم يكن يعتمل بما يخالف، وأن انشغالات بنائية وتحصينية أكثر أهمية، وموانع قهرية كانت تعيق إعلان تشكل منظومته الفكرية المتوافقة مع تشكل وتكون بنيويته النوعية الجديدة.. لقد ظهر هذا في قوة من خلال الأحداث، فالتصويرات المنقولة عنه، لم تكن معمقة، وليست حقيقية، لذا فد فشل كل ما بني عليها.؟ ولربما قد أشارت هذه التصورات إلى مجتمع متهالك فقد بنيويته السياسية المجتمعية وتماسكه، وأن إحداث صدمة ما كفيلة في انهياره..؟، لكن المفاجأة كانت في الصدمة المفتعلة المحدثة ذاتها، إذ لم تؤدي إلى انهياره كما المتوقع، بل على العكس منها فقد أسقطت الطفح المرضي، وأظهرت حقيقة بنيويته الجديدة المتشكلة وصلابتها وفاعليتها..؟
وكما تبين فليس من انقسام سياسي في المجتمع السوري، وليس من ثورة، فالثورة هي حركة تجاوز ما هو قائم نحو الأفضل، نحو سيادة منظومة بنية اقتصادية مجتمعية متطورة نوعية كانت تعتمل في رحم النظام القديم، من أجل وجود جديد أكثر فاعلية في تحقيق التقدم.. نعم كان هنالك استياء عام واحتجاج ضد الفساد والإفساد، كانت هنالك تحركات مطلبية من أجل الحريات، ومن أجل حرية التعبير، كانت البنية الجديدة النوعية المتشكلة التي راكمتها سنوات البناء، المتمثلة في الشباب، تريد إثبات وجودها السياسي الفاعل وسيادتها في وجه العالم من أجل إظهار وجه سورية الحضاري المتقدم ، وقد تنبهت السلطة السياسية السورية إلى المثالب التي أعاقت زمنا مسيرة التقدم، واستنفذها الفساد، فأعلنت برامج الإصلاح، وهي مرتكزات أساسية لانطلاقة كل التطلعات الشعبية في البناء المستقبلي للدولة، عبر ترسيخها لمبدأ أن الشعب مصدر السلطات، وهذا يتناقض مع الفوضى ويتضاد معها، فالتغيير والإصلاح لا يستقيمان مع الفوضى وهدم الدولة وتذرير المجتمع، الإصلاح لا يعني هدم وحرق البنى الاقتصادية والمؤسسات العامة والمستشفيات والمدارس والجامعات وتخريب الطرق وهدم الجسور، وقتل وذبح المدافعين عن الوطن، والسلب والنهب والخطف على هوية الانتماء الديني والاتني والعشائري والعائلي..؟ كما أن الفوضي لا تستقيم مع الحرية والعدل، فالفوضى أقصى أنواع الظلم والطغيان، فهي تعطي الرأي والحكم لمن ليس أهلا له، وتعطي الملك دون حق لمن لا يملك، قانون الفوضى لمن يملك القوة العنفية الإرهابية فقط، التي بدورها تستنبت وتبرر الفوضى إلى ما لا نهاية، حتى فناء المجتمع..؟
إذن ما الذي يحدث في سوريا ؟.. ليس خافيا على أحد أن صراعا دوليا بدأه حلف الناتو، واتخذ ساحته الشرق الأوسط، لاستعادة سيطرته على العالم..؟ وكل الطروحات التي تتحدث على أن النفط والغاز جوهرا الصراع، أو أن تمرير أنابيب الغاز أو استخراجه هما الأسباب، أو أن تقسيم تركيا والمنطقة في العودة إلى اتفاقية سايكس بيكو 1916 / ومعاهدة سيفر آب 1920/، وإقامة دوبلات مجتزأة أو مركبة موحدة، أو إقامة منظومة دولية ضخمة من دويلات شرق أوسطية ، أو أن الهدف النهائي هو حصار دول البريكس الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين، فكل هذه الاحتمالات وأسبابها أكانت عاجلة أو مؤجلة قابلة للتفاوض، قد تكون صحيحة..؟ لكن محور كل هذه الأسباب وجوهرها ومفتاحها سورية، لكونها ذات طبيعة جيوسياسية فريدة.. فعبرها ومن خلالها إما أن تتم مشاريع حلف الناتو في الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد للعودة إلى السيطرة على العالم، أو أن تدفن إلى الأبد..؟
مما سبق نلحظ : أن طبيعة الأحداث الجارية في سورية، ليست من منشأ داخلي، وإنما هي حرب كونية لاحتلال دولة سورية في وسائل أخرى؟، فيها يصطف شعبها المدافع عنها، وعن بقاء دولتها ووحدة شعبها ومجتمعها، وفي المقابل الأعداء الأساسيون (دول حلف الناتو) الذين يريدون الذهاب بها وبشعبها من أجل مشاريعهم، والعملاء الملتحقون بهم من أجل أجورهم ومكاسبهم؟، إذن ليس من وجود لمعارضة سورية تدعوا إلى الاحتلال، وتقسيم البلاد وتهجير السكان، وليس من مقاتلين معارضين مهوسين في قتل شعبهم من أجل الحرية..؟ كما يشاع ويروج..؟، وإنما هنالك مرتزقة مستقدمين إلى الداخل السوري وخونة عملاء؟،
أما أبناء المجتمع السوري، أبناء الوطن الشرفاء، إنما يقفون في صلابة وعزة في وجه كل هذه المخططات حتى النصر، وإلى أن تمتد الروح السورية اليعربية التحريرية المقاتلة إلى أرجاء الوطن العربي والعالم..؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat