السفر (سونار) الامراض والعقد النفسية ؟
رياض سعد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
رياض سعد

انطلق علم الطب والعلوم كلها بصفة عامة في القرن الواحد والعشرين إلى أبعاد وآفاق لم يسبق لها مثيل , فقد اخترع العلماء مختلف الاجهزة الطبية التي من خلالها يستطيع الاطباء تشخيص الامراض ؛ اذ اخترعوا لكل عضو من اعضاء الجسد جهازا خاصا وظيفته الكشف عن ذلك العضو ومعرفة ما يعتريه من فيروسات وغيرها ... , كذلك اعتمد الحكماء على معايير لكشف الامراض والعقد النفسية سابقا , اذ جعلوا للكريم وطيب النفس صفات يعرف بها ... , وامارات تدل على لؤم المرء وخبث سريرته ... , وعلامات من خلالها يميز بين الاخيار والاشرار ... وهكذا .
ومن الواضح ان الشدائد تكشف كوامن الأخلاق، وتسفر عن حقائق النفوس، ولهذا كانت العرب تقول: «السفر ميزان القوم» ، لأنَّه يُسفر عن كثير من أخلاقهم وطبائعهم ... ؛ فقد لا تعرف حقيقة المرء في مدينته وانما تظهر في الغربة بصورة جلية ومغايرة عما كانت عليه في مدينته , نعم احيانا يجهل المرء حاله ولا يقدر الإنسان أن يختبر مدى جودة أخلاقه واصالة معدنه ؛ إذا بقي في مكان واحد طوال حياته ، بسبب الضغوط والعادات والتقاليد الاجتماعية والمصالح والمنافع الشخصية والعقائد الموروثة والثقافة المحلية الحاكمة ... ؛ ولكنه بمجرد الانتقال من وطنه الى الخارج ؛ يستطيع اختبار نفسه من خلال السفر ... ؛ فالمسافر قد يمر بصعوبات أثناء سفره ويتعرض لعدة مضايقات وتحديات بسبب اختلاف الاقوام واللغات والثقافات ... ؛ فإذا كان ذا أخلاق عالية استطاع التكيف مع الظروف بما لا يتقاطع مع قيمه ومثله الاخلاقية ... ؛ ولكن إذا كان ذا أخلاق سيئة بانت حقيقته واتكشف معدنه ... ؛ وقد نسبت الى حكيم العراق الامام علي عدة مقولات تدور حول هذا الموضوع ؛ ومنها : (( السفر ميزان الأخلاق )) و ((خوافي الأخلاق تكشفها المعاشرة )) و (( في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال )) ... الخ ؛ ففي السفر وتغير الاحوال والظروف تظهر معادن الرجال وتتعرى حقيقة الناس و تكشف اخلاق الانسان ؛ فقد تعاشر المرء وتربطك به قرابة او صداقة او زمالة عمل او غيرها ؛ سنوات طويلة وتأنس به ؛ الا انك قد تصدم به عند السفر ؛ اذ قد تنكشف حقيقة الانسان عندما يبتعد عن مجتمعه وناسه وأهله ؛ لذا قال البعض : من المحال ان تعرف حقيقة المرء من دون ان تسافر معه ... .
البعض لا يكتفي بالشر وسوء الخلق الذي يتصف به بل يوصي الاخرين بارتكابه والاتصاف به , فقد جاء في بعض الامثال الشعبية ؛ مجموعة من الامثال تحث المسافر على ارتكاب الاخطاء في السفر وعدم مراعاة الاخلاق في ديار الغربة , ومنها : (( الديرة الما معروف بيه شله و(؟ - ا ز ر ب - ) بيه )) و(( يا مغرب خرب )) فهذه النصائح الخبيثة توصي الغريب والمسافر بالتخريب وعدم مراعاة الاخلاق والقيم الانسانية , فالبعض عندما يفعل السوء ويرتكب الجريمة يعتقد انه لا يرجع الى هذا المكان مرة اخرى او لا يلتقي بالشخص الاخر بتاتا ؛ ولا يعلم ان القدر قد يرجعه الى نفس الشخص او المكان مرة اخرى ؛ لذلك اوصى الحكماء والاخيار والعقلاء بحسن الخلق في السفر , اذ قالوا : (( يا غريب كن اديب )) و (( يا مغرب لا تخرب )) و (( بئرا شربت منه لا ترمي فيه حجراً )) نعم لأنك قد ترجع يوما ما الى نفس المكان وقد تضطر الى التعامل مع نفس الشخص الذي اسأت اليه ؛ فأجعل بينك وبين الاماكن والاشخاص علاقة ايجابية ولا تقطع الحبل مع الاخرين , حتى وان رق وكان كالشعرة ؛ لاحتمال عودة المياه إلى مجاريها في يوم من الأيام , و الرجوع الى نفس المكان ومعاشرة نفس الوجوه .
فلا تعجب عندما تشاهد تحول الشخص الذي يدعي الكرم في موطنه الى بخيل في السفر , فقد يبذخ المرء في وطنه الا انه يصاب بالبخل في السفر , وتراه يحاسب صديقه حسابا عسيرا وعلى اتفه الامور التي ليست لها قيمة مادية مهمة ؛ اذ يدقق في كل فلس يتم صرفه ويحسب حساب تكاليف السفر بالورقة والقلم بشكل مبالغ فيه ، بل قد يتهرب من دفع الفواتير بعدة أعذار... , او قد تراه ينظر الى جيبك فأن صرف هو مئة دولار , اراد منك ان تصرف بنفس المبلغ حتى وان كنت غير محتاج للصرف او ليس هنالك ما يدعو له , وان صرف الف دولار ؛ تمنى ان تصرف مثله وبغض النظر عن اختلاف رغباتكم واحتياجاتكم , فاذا راك صرفت مئة دولار ؛ بادر الى الصرف مثلك , وكأنه مربوطا بك , وان احتجت الى مبلغ بسيط منه وعلى سبيل القرض ؛ يمتنع عن اعطاءه بينما هو قد يعطيك اضعافه في الوطن , بل قد يتباهى ويفتخر بكثرة امواله وقلة صرفك , وكأنه في تنافس معك , والبعض الاخر يمارس الكذب والاحتيال في السفر , فان كان يمتلك الفين دولار , ادعى انه يمتلك الفا فقط , مخافة ان يطلب منه صديقه عند الاحتياج او الضرورة , والبعض يحب ان يدخر امواله ويكون عبئا على صديقه , فيطلب من صديقه كل شيء , بينما هو يمتلك المال الا انه لا يصرف , ولله في خلقه عند سفرهم شؤون , فمنهم من ينكد على صاحبه ويعترض على كل اقتراح , ومنهم مزاجي الطبع متقلب الرأي فوضوي ؛ اذ قد يغير الوجهات السياحية والمطاعم بمزاجه المتقلب ويفرض رأيه على صاحبه ؛ بمعنى أن يتم رسم خطة لرحلة ما وفجأة يطلب تغييرها رغم موافقة بقية الفريق على الخطة السابقة بدون سبب منطقي ... , ومنهم من لا يفكر الا بذاته ومصلحته الشخصية ويقدم نفسه على الجميع بما فيهم اصدقاءه واحبابه المقربين , بل ان الكثير من الذين هاجروا قد غدروا بأقرب اصدقائهم واقاربهم لأسباب تافهة وبسيطة ؛ وقديماً كان السفر قطعة من عذاب ولذا كان السفر فعلاً يصهر معادن الرجال ويظهر صبرهم وتحملهم ووقوفهم لجانب من يرافقونه في سفرهم وعدم تخليهم عن اصحابهم ورفاقهم ... , فان اردت ان تعرف حقيقة المرء سافر معه ؛ فالسفر يجعلك تُحدد من هم أصدقاؤك فعلاً لأنك لن تعرف الأشخاص على حقيقتهم إلا في السفر وفي مواطن اخرى شبيهة ؛ لذا قيل قديما : الرفيق قبل الطريق والجار قبل الدار ؛ ومن السفاهة الثقة بكل أحد في السفر او السفر مع كل أحد ؛ فهو ليس ميزان الاخلاق فقط بل هو ( سونار ) الامراض والعقد النفسية ...!!
والسفر متعة واستجمام وكذلك مسؤولية ؛ فاختَر أصدقاء السفر ورفاق الدرب وخلان الغربة بعناية فائقة ؛ واهرب من اصحاب الطاقات السلبية وسييء الاخلاق والمزاج هروبك من الاسد ؛ فالمرء عندما ينوي السفر ويبذل الاموال ويحزم حقائبه ويترك الاهل ؛ فإنما يطلب الراحة والمتعة والاستجمام وقضاء الحاجة وتحقيق الاهداف ؛ وليس من أجل مصاحبة البخلاء واللؤماء والخبثاء .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat