في رحاب القرآن.. الأخلاق في كلام الله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مما لا شك فيه بأنه لا يُعتبر الإنسان إنساناً إلاّ بأخلاقه، وإلاّ سوف يصبح حيواناً ضارياً كاسراً، يحطّم ويكتسح كلّ شيء، وخصوصاً وهو يتمتّع بالذّكاء الخارق، فيثير الحروب الطّاحنة، لغرض الوصول لأهدافه الماديّة غير المشروعة، ولأجل أن يبيع سلاحه الفتّاك، يزرع بذور الفُرقة والنّفاق ويقتل الأبرياء!

نعم، يمكن أن يكون متمدّناً في الظّاهر، إلاّ أنّه لا يقوم له شيء، ولا يميّز الحلال من الحرام، ولا يفرّق بين الظّلم والعدل، ولا الظّالم والمظلوم!

والبحث الاخلاقي يعدّ من أهم الأبحاث القرآنيّة والحديثية، ويعتبر من أهمّ أهداف الأنبياء كذلك، إذ لولا الأخلاق، لما فهم الناس الدّين ولَما استقامت دنياهم وكما قال الشّاعر:

وإنما الاُمم الأخلاق ما بَقيتْ *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذَهبوا

الأخلاق في القرآن الكريم
بعد هذه الإشارة نعرّج على القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة التالية، تلك الحقيقة:

1- ﴿هُوَ الَّذي بَعَثَ في الاُمّيينَ رَسُولا مِنْهُم يَتلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين﴾(الجُمعة:2).

2- ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمؤْمِنينَ اِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين﴾(آل عمران:164).

3- ﴿كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾(البقرة151:).

4- ﴿رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزيزُ الْحَكِيم﴾(البقره:129).

5- ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها﴾(الشّمس:9-10).

6- ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلّى﴾(الأعلى:14-15).

7- ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ﴾(لقمان:12).

حقيقةً واحدةً
الآيات الأربع الأُول: تقرّر حقيقةً واحدةً، ألا وهي، أنّ إحدى الأهداف المهمّة، لبعثة النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هو تزكية النّفوس وتربيّة الإنسان، وبلورة الأخلاق الحسنة، في واقعه الوجداني، بحيث يمكن أن يقال: إنّ تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة التي أشارت إليها الآية المباركة الاُولى، يعُد مقدمة لمسألة تزكية النّفوس وتربية الإنسان، والذي بدوره يشكّل الغاية الأساسيّة لعلم الأخلاق.

ولأجل ذلك يمكن تعليل تقدم كلمة: “التزكية”، على: “التعليم”، في الآيات الثلاث، من حيث إنّ “التّزكية” هي الهدف والغاية النهائيّة، وإن كان “التّعليم” من الناحية العمليّة مقدمٌ عليها.

وإن نظرنا “للآية الرابعة”: من بحثنا هذا، وتقديمها لكلمة التّعليم على التّزكية، فهي ناظرةٌ إلى المسألة من حيث الترتب العملي الطبيعي لها، بإعتبار أنّ التّعليم مقدمةٌ “للتربية والتّزكية”.

ولهذا نرى أنّ الآيات الأربع الاُولى، كلّ منها تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص.

وليس بعيداً إحتمال رأيٌ آخر، من التّفسير في الآيات المباركة الأربع، وهو أنّ الغرض، من التّقديم والتّأخير الحاصل لهذين الكلمتين: (التّربية والتعليم)، بإعتبار أنّ إحداها تؤثّر في الاُخرى، يعني كما أنّ التعليم الصّحيح يكون سبباً في الصّعود بالأخلاق، وتزكية النّفوس، تكون تزكية النفوس هي الاُخرى مؤثّرة في رفع المستوى العلمي، لأنّ الإنسان بوصوله للحقيقة العلميّة، يكون قد تطهر من “العناد” و”الكِبر” و”التّعصب الأعمى”، حيث تكون الأخيرة مانع من التّقدم العلمي، ومعها سوف يُران على قلبه على حد تعبير القرآن الكريم، ولن يرى الحقيقة كما هي في الواقع.

تفعيل عناصر الخير
ويمكن الإشارة الى نكات اُخرى في الآيات الكريمة الأربعُ

الآية الاُولى: تشير إلى أنّ بعث رسول يُعلِّم الأخلاق، هي من علامات حضور الباري تعالى في واقع الإنسان لتفعيل عناصر الخير في وجدانه، وأنَّ النقطة المعاكسة (للتربية والتعليم) هي الضّلال المبين، فهي تبين مدى إهتمام القرآن الكريم بالسلوك الأخلاقي للإنسان في حركة الحياة.

الآية الثّانية: نجد فيها أن إرسال رسول يُزكيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة، هي من المنن والمواهب الإلهيّة العظيمة، التي منّ الله بها علينا، وهي دليل آخر على أهميّة الأخلاق.

الآية الثّالثة: وهي الآية التي نزلت بعد آيات تغيير القبلة، من القدس الشّريف إلى الكعبة المشرّفة، حيث عُدَّ هذا التغيير من النّعم الإلهيّة الكبرى، وأنّ هذه النعمة هي كإرسال الرسول للتعليم والتّزكية وتعليم الإنسان اُموراً لم يكن يعلمها ولن يتمكن من الوصول إليها إلاّ عن طريق الوحي الإلهي.

الآية الرّابعة: تتحدث عن أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام، وبعد إكماله لبناء الكعبة، طلب من الباري تعالى: أن يخلق من ذريّته اُمّةً مسلمةً; وأن يبعث فيهم رسولا من ذريّته، ليزكّيهم في دائرة التربية الأخلاقيّة، ويعلّمهم الكتاب والحكمة.

الآية الخامسة: نجد أن القرآن الكريم، وبعد ذكر أحدَ عشرَ قَسَماً مهماً، وهي من أطول الأقسام في القرآن، قسماً بالشّمس والقمر والنّجوم والنفس الإنسانية ، وبعد ذلك قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها﴾.

أهمية بالغة لمسألة الأخلاق
وهذا التأكيد المتكرّر والشّديد في هذه الآيات، يدلّ على أنّ القرآن الكريم، يولّي أهميّةً بالغةً لمسألة الأخلاق، وأنّ التّزكية هي الهدف الأهم للإنسان، وتكمن فيها كلّ القيم الإنسانيّة، بحيث تكون نجاة الإنسان بها.

ونفس المعنى أعلاه ورد في: “الآية السّادسة”، واللّطيف فيها أَنّ ذكر التّزكية جاء قبل الصلاة، وذكر الله تعالى، إذ لولا التّزكية وصفاء الرّوح لا يكون للصّلاة معنى، ولا لذكر الله.

وجاء في “الآية الأخيرة”، ذكر لُقمان الحكيم، حيث عبّر عن علم الأخلاق بالحكمة، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ آشْكُرْ لِلّهِ﴾.

وبالنّظر للآيات الشّريفة، نرى أنّ خصوصيّة: “لقمان الحكيم”، هي تربية النّفوس والأخلاق، ومنها يتّضح أنّ المقصود من الحكمة هنا، هو الحكمة العمليّة وتعاليمها المؤدّية إليها، وبعبارة اُخرى يعني: “التّعليم” لأجل “التّربية”.

ويجب الإنتباه ً، إلى أنّ أصل معنى “الحكمة” هو لجام الفرس، وبعدها أطلقت على كلّ شيء رادع، وبإعتبار أنّ العلوم والفضائل الأخلاقيّة، تردع الإنسان عن الرّذائل فأطلقت عليها هذهِ الكلمة.

النّتيجة
نستوحي من هذهِ الآيات، الإهتمام الكبير للقرآن الكريم بالمسائل الأخلاقيّة وتهذيب النفوس، بإعتبارها مسألةً أساسيّةً، تنشأ منها وتبتني عليها جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة، فهي بمثابة القاعدة الرّصينة والبناء التحتي، الذي يقوم عليه صرح الشّريعة الإسلاميّة.

نعم إنّ التّكامل الأخلاقي للفرد والمجتمع، هو أهم الأهداف التي تعتمد عليه جميع الأديان السّماوية، إذ هو أساس كلّ صلاح في المجتمع، ووسيلة رادعة لمحاربة كلّ أنواع الفساد والإنحراف، في واقع الإنسان والمجتمع البشري في حركة الحياة.

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص9-14

المصدر: شبكة المعارف الاسلامية


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/05/24



كتابة تعليق لموضوع : في رحاب القرآن.. الأخلاق في كلام الله
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net