صفحة الكاتب : د . فاضل حسن شريف

مفهوم المعتدين في القرآن الكريم
د . فاضل حسن شريف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال الله تعالى عن المعتدين "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ" ﴿الأنعام 119﴾ بِالْمُعْتَدِينَ: بِ حرف جر، الْ اداة تعريف، مُعْتَدِينَ اسم، وأيُّ شيء يمنعكم أيها المسلمون من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد بيَّن الله سبحانه لكم جميع ما حرَّم عليكم؟ لكن ما دعت إليه الضرورة بسبب المجاعة، مما هو محرم عليكم كالميتة، فإنه مباح لكم. وإنَّ كثيرًا من الضالين ليضلون عن سبيل الله أشياعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال بأهوائهم؛ جهلا منهم. إن ربك أيها الرسول هو أعلم بمن تجاوز حده في ذلك، وهو الذي يتولى حسابه وجزاءه، و "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ﴿البقرة 190﴾ الْمُعْتَدِينَ: الْ اداة تعريف، مُعْتَدِينَ اسم، وقاتلوا أيها المؤمنون لنصرة دين الله الذين يقاتلونكم، ولا ترتكبوا المناهي من المُثْلة، والغُلول، وقَتْلِ من لا يحل قتله من النساء والصبيان والشيوخ، ومن في حكمهم. إن الله لا يحب الذين يجاوزون حدوده، فيستحلون ما حرَّم الله ورسوله، و "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ﴿المائدة 87﴾ يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء، فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم، ولا تتجاوزوا حدود ما حرَّم الله. إن الله لا يحب المعتدين، و "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" ﴿الأعراف 55﴾ المُعْتَدينَ: الذين يرفعون أصواتهم بالدعاء و تحديد أنواع النعيم، ادعوا أيها المؤمنون ربكم متذللين له خفية وسرًّا، وليكن الدعاء بخشوع وبُعْدٍ عن الرياء. إن الله تعالى لا يحب المتجاوزين حدود شرعه، "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ" ﴿التوبة 10﴾ الْمُعْتَدُونَ: الْ اداة تعريف، مُعْتَدُونَ اسم، إن هؤلاء المشركين حرب على الإيمان وأهله، فلا يقيمون وزنًا لقرابة المؤمن ولا لعهده، وشأنهم العدوان والظلم، و "ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ" ﴿يونس 74﴾ ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى أقوامهم ﴿هودًا وصالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وغيرَهم﴾ فجاء كل رسول قومه بالمعجزات الدالة على رسالته، وعلى صحة ما دعاهم إليه، فما كانوا ليصدِّقوا ويعملوا بما كذَّب به قوم نوح ومَن سبقهم من الأمم الخالية. وكما ختم الله على قلوب هؤلاء الأقوام فلم يؤمنوا، كذلك يختم على قلوب مَن شابههم ممن بعدهم من الذين تجاوزوا حدود الله، وخالفوا ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته عقوبة لهم على معاصيهم.
جاء في کتاب مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: قوله تعالى "ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين" (الانعام 119) "ومالكم ألا تأكلوا" وأي شئ عرض لكم في أن لا تأكلوا وقد فصل لكم ما حرم عليكم مما لم يحرم على لسان الرسول، وقرئ: "فصل لكم ما حرم عليكم" على البناء للفاعل وهو الله عز وجل "إلا ما اضطررتم إليه" مما حرم عليكم فإنه يحل لكم في حال الضرورة "وإن كثيرا ليضلون" فيحرمون ويحللون "بأهوائهم" وشهواتهم، ومن قرأ بالضم أراد يضلون أشياعهم "بغير علم" بغير تعلق بشرع. قوله تعالى "وقتلوا في سبيل الله الذين يقتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة 190) قيل: إنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، والمقاتلة "في سبيل الله" هو الجهاد لإعزاز دين الله وإعلاء كلمته "الذين يقتلونكم" يناجزونكم القتال دون المحاجزين، وعلى هذا فيكون منسوخا بقوله: "وقتلوا المشركين كآفة" (التوبة 36) ويجوز أن يريد الذين يناصبونكم القتال دون الصبيان والنساء، أو يريد الكفرة كلهم لأنهم جميعا يقصدون مقاتلة أهل الإسلام فهم في حكم المقاتلة فلا يكون حكم الآية منسوخا "ولا تعتدوا" (البقرة 190) بقتال من نهيتم عن قتاله أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة. قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبت ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (المائدة 87) روي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر أصحابه يوما ووصف القيامة لهم فبالغ في الإنذار، فرقوا، واجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لهم: (إني لم أؤمر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني) ونزلت الآية. "لا تحرموا" أي: لا تمنعوا أنفسكم ما طاب ولذ من الحلال، ولا تقولوا: حرمنا الحلال على أنفسنا تزهدا ومبالغة منكم في العزم على تركه "ولا تعتدوا" (المائدة 87) أي: لا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، أو جعل تحريم الطيبات اعتداء فنهي عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، أو أراد: ولا تسرفوا في تناول الطيبات. قوله سبحانه "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين" (الاعراف 55) "تضرعا وخفية" نصب على الحال أي: ذوي تضرع وخفية، وكذا قوله: "خوفا وطمعا" (الرعد 12)، والتضرع من الضراعة وهي الذل أي: تذللا وتملقا، وقرئ: "خفية" بكسر الخاء وهما لغتان "إنه لا يحب المعتدين" (الاعراف 55) أي: المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات، وقيل: التضرع: رفع الصوت والخفية: السر أي: ادعوه علانية وسرا.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (الاعراف 55) أن الذي يستحق للعبادة فقط هو الله، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء، الذي هو مخ العبادة وروحها، يقول أولا: ادعوا ربكم تضرعا وخفية. و (التضرع) في الأصل من مادة (ضرع) بمعنى الثدي، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع، وحيث إنه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استدارا للحليب، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصة إظهارا للخضوع والتواضع. وعلى هذا فإن الآية المبحوثة، وعبارة ادعو ربكم تضرعا تحثنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع، بل يجب أن تنعكس روح الدعاء في أعماق روحه، وعلى جميع أبعاد وجوده، ويكون اللسان مجرد ترجمانها، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه. وأمره تعالى في الآية الحاضرة بأن يدعى الله "خفية" وفي السر، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولأجل أن يكون الدعاء مقرونا بتمركز الفكر وحضور القلب. ونحن نقرأ في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان في إحدى غزواته، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين: (لا إله إلا الله) و (الله أكبر) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، أما إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، إنه معكم). كما ويحتمل في هذه الآية أيضا أن يكون المراد من (التضرع) هو الدعاء الظاهر العلني، والمراد من (الخفية) الدعاء الخفي السري، لأن لكل مقام اقتضاء خاصا، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علنا، وربما يقتضي خفية وسرا، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع. ثم قال تعالى في ختام الآية: "إنه لا يحب المعتدين" (الاعراف 55) أي أن الله لا يحب المعتدين. ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز، سواء الصراخ ورفع الصوت عاليا جدا حين الدعاء، أو التظاهر وممارسة الرياء، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء. قوله تعالى "لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ" ﴿التوبة 10﴾ وهذه الخصلة فيهم لم يبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم وأولئك هم المعتدون. وبالرغم من أن مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة، إلا أن هناك فرقا بينهما، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمة لخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المتقين حوله كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة أما الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. أي إن المشركين لا ينظرون إليكم النبي والخواص من الصحابة نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة نظرة العداء والبغضاء ينظر بها المشركون إلى كل مؤمن، ولا يكترثون بكل شئ ولا يرعون حرمة ولا عهدا، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحق، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. قوله تعالى "نطبع على قلوب المعتدين" (يونس 74) لا تدل على الجبر، وقد أخفي تفسير ذلك فيها، لأنها تقول: إننا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئا، وبناء على هذا فإن الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق، ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم، بحيث لا يذعنون ولا يسلمون أمام أية حقيقة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فاضل حسن شريف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/11/05



كتابة تعليق لموضوع : مفهوم المعتدين في القرآن الكريم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net