الأربعين ضيافة الله وسلام الإنسان
أبو الفضل فاتح

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يمكن دراسة الأربعين وتحليله من منظارين سواء باعتبارها ظاهرة إلهية أو باعتبارها ظاهرة إنسانية، غني عن القول بأنه يجب ترك المناقشات التخصصية حول الأربعين لخبراء الأديان والمذاهب، لكن كما فات بنا الحديث في مقال نشر قبل سنوات ومهما كان تعريفنا، فمما لا شك فيه ان الواقع الراهن للأربعين من حيث الوسع والعمق والحركة والحماس والجوانب الإنسانية والأخلاقية والروحية وسمو الأهداف واتساع الدلالات التي لا نهاية لها؛ قلما يمكن مقارنته بنموذج مماثل، ومما لا شك فيه ان هذه الظاهرة الفريدة بنوعها لم تعد حادثة عظيمة إنما هي حادثة عظيمة فائقة، فان الحادثة العظيمة الفائقة مثلها مثل البعث الذي يجتاز كل شيء في مغناطيسية العظمة واللا حدود الذي يتسم به، ويبهر كل شيء إذ ينجذب فيه، ويخلق ثورة عظيمة.

الواقع هو ان الهائمين بالأربعين في جميع أنحاء العالم اتسموا بسلوك شبكي تواصلي في الجانب الذهني والعلائقي، ومنذ لحظة العاشوراء يرتبطون ببعضهم البعض شيئا فشيئا، ثم يزدادون اتساعا وعمقا حتى يوم الأربعين، نهر متصل من الهيمان يحيط بنهضة مقدسة وإنسان يتجاوز التاريخ والأراضي البعيدة والقريبة ويربطهم معا. عندما تتكون هذه الشبكة بهذه الجوانب وبسبب التشارك العلائقي، فإنها تؤدي وظائف تتجاوز حدود التصور.

ان القوة الشبكية ومتعددة الجوانب للأربعين في جانب اتساع الناس والجنسيات والطبقات والسلوك والفلسفة والعلاقة التاريخية والتقاليد والعلاقة الثقافية؛ لا تترك مجالا للريبة بان العالم يواجه ظاهرة حديثة، ليست مؤقتة فحسب إنما أمواجها اخترقت نظرة وسائل الأعلام المهيمنة على العالم ويسطع صداها إلى الثقافات والشعوب الأخرى.

العقلانية الشيعية
في الجانب التجريبي فان العقلانية الشيعية والصحوة الشبكية للشيعة وعطش قرون من الحرمان من زيارة الحسين بن علي عليه السلام والتقاليد والبحث عن الهوية الشيعية والوطنية العراقية المعاصرة والانتماءات الهووية والدينية للإيرانيين والشيعة الآخرين ودور وسائل الإعلام وكذلك منصات المجتمع الشيعي؛ توضح الوسع الكمي للأربعين إلى حد ما.

لكن هذه العقيدة والفكرة الحقيقية في نفوس زوار الأربعين بان ما جعل الأربعين أربعينا، وما وضعه على عرش العزة، يضرب بجذوره في روحانية ونهضة الإمام الحسين عليه السلام التي تتجاوز التاريخ وتثير القلوب العاشقة لتلك التضحيات المثيرة للدهشة، فلو بكت الملائكة يوما ما بسبب سفينة طوفان كربلاء المحطمة، وتمت زيارة قبورهم المطهرة بعد أربعين يوما في غربة غريبة، فاليوم ان بيعة الإمام الحسين عليه السلام أصبحت مدعاة فخر ومجد على المستوى العالمي.

ضيافة الله وانتصار الحسين
من هذه الزاوية فان الأربعين هو ضيافة الله وانتصار الحسين عليه السلام، وقد وجد سكان المعمورة في ظل التطورات الإقليمية والتقنية، فرصة للتأمل في فلسفة النهضة الإنسانية والإلهية للإمام وذلك في إطار الحادثة العظيمة الفائقة.

على هذا يمكن واعتمادا على لغة القرآن القول بان الأربعين هو استمرار عاشوراء ومن أيام الله، أ ليست أيام الله يوم تتجلى عظمة الله بشكل بارز ومختلف عن ماضيها؟

ولو كان هناك من يرفض هذه النظرة التي تتجاوز حدود البشرية، فأنهم يقبلون بان الأربعين هو رمز التعايش والسلام والإنسانية، حيث يجتمع ملايين الناس من الشباب والأطفال وكبار السن، لتقديس صمود وتضحية عظيمة، ويظهرون لأيام متواصلة في الحر والبرد كرم أسطوري والهي، إذ يجذب قلب أي مخاطب.

قد يكون أمام علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع طريق طويل حتى الوصول إلى تحليل جوانب وماهية العلاقات السائدة على هذه الحادثة العظيمة الفائقة.

وربما يغض الكثير من وسائل الإعلام على المستوى العالمي الطرف عن هذا الاجتماع العظيم، لكن لا يمكن التقليل من الآثار التي تضفي الهوية والتراث طويل الأمد على لهذه الحركة الشبكية والفكرية والروحية التي ارتبطت بوجدان الزوار؛ سواء في البلد المستضيف أو لدى الشعوب المتجهة إلى هناك.

زيارة الأربعين ليست مراسم حكومية
وعندما يكتب علماء الاجتماع أبحاثهم الكثيرة والعددية حول التأثيرات الهووية والاجتماعية لأحداث مثل الألعاب الاولمبية وكأس العالم والمهرجانات الفنية وبرج خليفة وتقاليد رمي الطماطم وما ماثلها من أحداث، هل يمكن تجاهل حادثة تتجاوز حدود الحادثة العظيمة مثل الأربعين التي شغلت الأجيال والتراث والأذهان لمجتمع ثقافي خاص بشكل عميق، أو التقليل من أهميتها، وذلك بسبب رفض حكومة ما أو سياسة ما؟

انه لسؤال مهم مفاده كيف يمكن حشد ملايين الناس، حتى يسيروا مشيا على الأقدام لمسافة كيلومترات ويؤدون دورهم في هذه المراسم؟

يجب ان نسأل ما هي الجوانب العاطفية والوجدانية والإنسانية لمثل هذه الحادثة العظيمة؟

أو ما العلاقات التي تتكون في طريق الزحف المليوني وما التغييرات التي تطرأ على خارطة العلاقات الإنسانية في المنطقة؟

بمثل هذه الحادثة العظيمة، ماذا يقول العالم عن التشيع ومختلف التيارات حول المذهب والسياسة في العراق وإيران والمنطقة؟

ما هي جوانب هذه الحادثة العظيمة، وكيف يؤدي النساء والرجال والأطفال دورهم فيها؟ ما هي الجذور التاريخية والثقافية لهذه الحادثة و….؟ إنها ليست مجرد أسئلة دينية ومذهبية، بل إنها أسئلة سياسية واجتماعية بحتة تشكل ضرورة لمعرفة ظاهرة بماهية وقوة الأربعين.

يقدم البعض خطأ هذه المراسم بأنها مراسم حكومية، إنني لا اعرف حكومة تتمكن من إرغام أو إغراء ملايين الناس سنويا من السير على الأقدام لكيلومترات وفي درجة حرارة تبلغ خمسين درجة، هذا وان الكثير منهم من يسيرون في هذا الطريق الصعب ووفق الأدلة الكثيرة ينتقدون الوضع السائد على بلدانهم، ولو لم ينتقدوا فانه لا يمكن اختزال أفعالهم بطابع حكومي بكل سهولة.
تنافس الاحزاب 
ان الأربعين هي مشاركة جماعية ولا يمكن منع أي شخص منها، هذا وانه لقلق مبرر بان الأربعين ليس مكانا لتنافس الأحزاب أو حربها مع بعضها البعض، على هذا لا يمكن لأي حزب أو جماعة أو تيار أو حكومة أو سلطة مصادرتها باسمها. هذا وانه لا حزب أو تيار يمكنه التشكيك بروح الأربعين ذلك انه في الواقع تشكيك بالناس، كلا النظرين إسراف وعديم الفائدة، ان التعامل مع مثل هذه الحادثة العظيمة تتطلب سعة الصدر وعلو النظر والعلم والتجربة، وان النظرة الجزئية والهامشية آفة، مع انه تشكل النظرة الإصلاحية والحذر من الإفراط أو التفريط ضرورة دائمة.

ان الكثير من النخبة الدينية يرون بأنه كلما ابتعدت الأحزاب والحكومات عن عن انتساب الأهداف الحزبية بالأربعين فإنها تسدي بذلك خدمة كبرى له. هذا لا يعني النظر إلى الربعين بعيون علمانية ذلك ان طبيعة نهضة الامام الحسين عليه السلام واضحة، انما القصد الابتعاد عن التحزبات السياسية ان الأربعين تراث ديني وحركة مؤسس على الناس، وان الناس هم من قاموا بإدارة الأربعين وسيقومون مستقبلا. بالطبع هذا لا ينفي أداء الواجب تجاه الملايين من الزوار، ولو افترضنا بأنهم سياح، فيجب الالتزام بتوفير أمنهم وصحتهم.

هذا وان الأربعين يعد معيارا لتقييم صدق الحكومات والأحزاب. فهل من يعدون أنفسهم داعمي الأربعين، يتسمون بالجدية في تطبيق منهاج الإمام الحسين عليه السلام الإنساني، وهل لديهم التزام بالانتماءات القانونية والإنسانية لكافة طبقات الشعب ومن لم ينتموا إلى الأربعين لكنهم من هذا الشعب، ومن جهة أخرى كل منا الذي يقدم نفسه مدافعا عن التعددية وحرية المعتقد والحركات، فهل يمنح لملايين من زوار الأربعين حق الاختيار، أم ينفي هذه الحركة لمجرد كونها دينية؟

نسأل الباري عز وجل ان يجعلنا في طريق الأمواج الروحية والإنسانية للأربعين الحسيني عليه السلام، وان يفتح طريقا إذ يتغلغل امتداد هذه الروحانية وممارسة الكرم في الأربعين إلى جوف المجتمع، وان نشاهد سنويا وبتأسي من منهاج الإمام الحسين عليه السلام بيئة أكثر إنسانية وأخلاقية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


أبو الفضل فاتح

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/09/11



كتابة تعليق لموضوع : الأربعين ضيافة الله وسلام الإنسان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net