كان يعيش القروي (ح ) في خط عجيب ، يحمل بين طياته إشراقات ،وحفيف اشارات ، ودلالات كثيرة ، يحاول أن يبلورها الى قيم إبداعية أصيلة ، فيسعى جاهدا لإخراجها من مراحل التجريب ، بعينين صافيتين ليجعلها مؤثرة وفاعلة ، الى الحد الذي يمكنها من أن تحتل موقفاً مميزاً عبر قيم وأبعاد جديدة .
ولكنه في أيامه الأخيرة ، توارت عنه عناصر الخيال ، فتسللت الى نفسه أسباب الضجر وروحه المشتعلة قد انطفأت وبين الوحدة والحنين، وعلى خاصرة الصباح أحس في نفسه رغبة بتأمل مشرق الشمس ، فتح نافذته فاستقبله نسيم بارد ندي، وسمع همساً رقيقا يأتي من بعيد .
ـ تعال الى أبي الخصيب كي تتأمل مطلع الشمس ، فأنت الان في مكان لا تستطيع رؤية بزوغه، ولن تستطيع أن ترتشف رحيق شفاه الشمس.
ـ هذا صحيح أمامي أبنية شاهقة ، والشمس بعيدة وراء الأفق اشراقاتها تتكسر على الجدران، وعلى سطوح البيوت، وثمة غييمات تمنع أحاسيس الشمس من التوقد بجذوة الأشواق ، سكت قليلا فجاءه الهمس ثانية .
ـ أسرع قبل أن ينسحب سواد الليل على بياض النهار .
ـ نعم سأسرع لاقترب من أحلامي البعيدة القريبة ، ولكي ألقي البذور في ارض خصبة ، بعد أن مضى الليل الذي عانقته سكينة لا حد لها .
أغلق النافذة، وعاد الى غرفته ، فتح خزانة الملابس، ارتدى ثيابه المكوية الأنيقة ، وخرج ينساب في شرايين الشوارع ، وفي قلبه وهج الأمنيات الرائقة ، مثل هواجس تقربه من أبي الخصيب ، كان يسكب خطواته على أرضية الشوارع ، حتى وجد نفسه في موقف (مرآب ) سيارات أبي الخصيب كان الزحام شديدا ، والسيارات كثيرة ،اتجه الى أحدى السيارات . قال رجل لأخر: - وهو يندفع الى باب السيارة.
ـ خش ....!
قال الآخر ـ خش أنت ....!
نظر الأول للأخر مبتسما ً... ثم خشا معا، وحين جلس الجميع في المقاعد سمع أحدهم يقول لصاحبه ....
ـ أ أنت مصري يا رجل ...؟
ـ لا ..... أنا رجل عراقي بصري من أبي الخصيب ، ولكنني وددت أن ألاطفك ببعض المفردات المصرية العامية .
ضحك ركاب السيارة ثمّ ساد الصمت .. صمت طويل .....!
فجأة قلّب (ح) أوراق روحه ، وهو مثل عصفور افزعه الحديث ، وعلى الرغم من ان أبا الخصيب بدا يظهر شيئا ...شيئا ..... حاملاً على كفّه باقات ورود يانعة ، وزجاجات عسل مصفى ، وفي كفه الأخرى ، يحمل حلاوة نهر خوز ، وأباريق ليست مهشمة مملوءة بعصير الليمون وقد رأى (ح) نخيلا وأشجارا ، وأشياء لفها الزمن ،برذاذ الغبار وشظايا ذكريات ماتزال على رصيف الأيام ،نظر الى الرجلين كأنه ينظر الى ظلال هاربة .
نكس احدهما ، رأسه بينما كان الأخر ينظر الى الركاب .... يتصفّح وجوههم
ويقرا عيونهم
قال (ح) بصوت منخفض، يقول البحتري (أبو عبادة الوليد بن عبيدا لطائي ) وهو شاعر كبير من العصر العباسي ، وكان الجواهري معجباً به إعجابا كبيرا ،لا يقل عن إعجابه ،بالشاعر الكبير المتنبيّ نعم يقول البحتري:
تحجه الاركبُ مخشوشة
ركبانها من كل فج عميق
والباب المخشوش الذي يقصده الشاعر البحتري هو باب بيت الله الحرام بمكة المكرمة ، ويعتقد الكثيرون من الناس ان( خش ـ يخش ) كلمة عامية لا صحة لها في العربية الفصيحة والصواب أنها كلمة بمعنى دخل يدخل و(المخشوشة ) معناها ( مدخولة ) اسم مفعول و(خاش) بمعنى (داخل) اسم فاعل .اندهش الركاب لحديثه قال لهم ، لا تندهشوا ، فالحجاج يخشون الى الأماكن المقدسة في كل عام ، ومعذرة لكم فانا أعرف من العربية أشياء ، ولكنني ما زلت في بداية الطريق .
قال رجل يحرق سيجارة فيل فمه ، يجلس الى جانبه
- شكرا لهذه المعلومات ولكنك يا أستاذ ... لست في بداية الطريق
لأننا قد وصلنا.....!
نزلتُ من السيارة ، وتركتُ خطواتي على أرض الشارع تسير إلى حيث كان مسقط رأسي ،وطفولتي ،وشبابي .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat