خفّتْ سياط البرد ، التي كانت تلسع أذني ، وتكاد بقوة تنزع أنفي حقّا ..وتجمده..
، كنتُ أرتجف ، في كل صباح ، وأنا ذاهب الى مدرستي (الحمزة) في قضاء أبي الخصيب في مدينة البصرة..!
لكن الحمد لله ،كانت عواطف، لا عواصف، فصل الشتاء، قد تغيرت وأصبحت طيبة وأحسستُ بمتعة ، ووجدتُ راحة ، قد نبتتْ في قلب أمكنة كثيرة ، كأنّها ترحّب بالأحياء
والأموات
طوّقتني أنفاس هذا اليوم ،الأول من شباط ،من عام 1960، وهو اليوم الأول ، من (عطلة نصف السنة)، وجعلتني أدندن ، بأبيات للمتنبي، الشاعر الكبير...! فقد كنتُ حقّا، أحبّ المتنبي ،وأحاول أن احفظ شعره على الرغم من صغر سنّي ، فرددتُ ابياتا كثيرة ومنها:
وطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ِ
و كان أبي يصغي لحديث عن الادب الحديث من المذياع الكبير، الذي تربّع على كتف رفّ من الخشب ، من صنع يده الكريمة .
غير أنّ الغيوم ، فجأة ، بثّت قطعها بلون الفحم الداكن في الأجواء كلّها ، وحطّتْ في بيتنا كله ، طوّقته من كل الجهات ، ومن كل جانب ، حتى لقد أصبحت الأرض رمادية ، سوداء كالفحم المحروق...! نظرتُ إلى أبي .
رأيتُه يتأمل السماء ، ويقول : كلّ هذا يا ولدي ، يبعث الطمأنينة والهدوء في نفوسنا ، انّه أبداع ربّنا الكريم ، أبداع سماويّ خالص ، يبثّ الحياة كيف يشاء ، هو الله الخالق ،المبدع المصور ،لا اله ،الا هو ، سبحانه وتعالى .. ابتسمتُ في وجهه ... !
فقال: أبتسم يا ولدي ، فللّه في خلقه شؤون ..وقد تتحسن الأجواء ،وقد تذهب الغيوم إلى جهة أخرى . كغيبوبة قلق حالم ..!
حدّقتُ في وجهه ، بأناة ، وعفوية ، ودقّة ، كانت عيونه ، ترتشف النسمات
- يا ولدي : قريباً ، بكلّ الأحوال ، سنلتقي بشاعر- طريق أبي الخصيب –
- من يا والدي..؟
- انّه الأديب عبدالجبار داود البصري، أديب ، وشاعر، لا يدوّن نسيانه الزمان ، على الرغم من أنّه ، شاعر .. أديب لم يكد يسمع عنه إلاّ أولئك الذين يدخلون في بطون الكتب ، كتب الأدب ...ويتصفحون أوراقها أتعرف يا ولدي :
انّ (البصري )هو مدير المدرسة (مدرسة القطعة) ، التي يدرس فيها أخوك محمد حسن ( الاسم مركب) ، وقد وجهنا له دعوة ، مع الهيئة التعلمية لتناول وجبة غداء في بيتنا -
متي يا والدي ...؟
- يوم الجمعة سيحضر البصري ،وخالد السيّاب (أخو بدر) وكل معلمي المدرسة
- ماذا سنقدم لهم يا والدي...؟
- ألا تعرف أني أجيد شواء القوزي
- أجل يا والدي أعرف حقّاً ..أنّك ماهر في ذلك .
مرّت الأيّام .. ... وكل يوم تطفح على سطح أفكاري ، سؤالات .. وعبث ظلال
وقطرات من الشعر .. من جداول أبي ماضي .. ومواكب جبران خليل جبران ..
....................... .............................. .........................
في صباح يوم الجمعة ، استقبلنا ، بفرح غامر، ضيوفنا ، وكان في مقدمتهم عبدالجبار داود البصري ، وخالد السيّاب ( شقيق الشاعر بدر شاكر السياب)
حين دخلوا إلى البيت ، قلنا : الخير قد أقبل ....!
ورشّ والدي عليهم جميعاً ماء الورد... وقدم لهم أخي محمد حسن الماء ، وأخي الاخر عبد المعبود قدّم لهم العصير... تحدّثوا كثيراً ..وكثيراً وكانت كل الأحاديث ، نابعة بصدق من العقول، متوازنة فيها الألفة ..والمعرفة ، والأدب ... وكنتُ أصغي كتلميذ صغير..!
حين أحضرنا الغداء .. أبتسم (البصري عبدالجبار) .. ! وراح يتأمل الطعام
كأنّه يتأمّل قصيدة للسياب ،أو نصّاً لسعدي يوسف .. أو للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة
زحف قليلا ،إلى المائدة ،كأنّه لم يتناول طعاما من زمن بعيد، ثم بابتسامة بصرية أصيلة
علّق على (القوزي ) قائلا: انه قصيدة حديثة من السهل الممتنع ، عشتَ يا حجي عبدالصمد
وبارك الله فيكم جميعاً........! ثمّ غادر الكلام ..وبدأ يأكل بنهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اشارة
- ورد في النص أسم :عبدالجبار داود البصري: وهو ناقد كبير وأديب كبير صدرت له مؤلفات كثيرة
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat