صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

الخنصر والسبابة
حيدر الحد راوي
شعرت بالاحباط , عندما اخبرني مصلح الساعات ان ساعة جدي مجرد خردة , ولا تتوفر مواد احتياطية لتصليحها , ونصحني بشراء ساعة جديدة , فقد تغير الزمان , لكن جدي يصر على التصلاح واكد لي انه لا يرغب بشراء ساعة جديدة , وضعتها في جيبي وانصرفت . 
مررت في سوق مزدحم ,  انبهرت كثيرا بمصابيح المتاجر زاهية الالوان , وشغلني كثيرا تدافع الناس على الرصيف , فشعرت بحركة داخل جيبي , ظننت انها نتيجة طبيعية لتماس المارة , فنظرت الى جيبي نظرة خاطفة , رأيت كفا بسبابة من غير ابهام قد انتشلت ساعة جدي , فبادرت ان امسك صاحبها , فلم افلح , لقدانسل مسرعا مختفيا بين الناس , ولم استطع الجري خلفه , توقفت عن مطاردته , وقلت في نفسي , لعل الشرطة تعرف لصا بهذه المواصفات , قصدت اقرب مركزا للشرطة , فأخبرت الضابط : 
- كان لديه سبابة .. ولم يكن في كفه ابهام . 
- هل تمكنت من مشاهدة خنصره ؟ 
- كلا .. فقد كانت حركته خاطفة ! .
- لابد ان يكون ذلك اللص الشهير ذو الخنصر والسبابة ! . 
- هل تعرفونه ؟ . 
- نحن نلاحقه منذ مدة طويلة ... ولم نستطع القاء القبض لرشاقته وخفة حركته ! . 
ابتسم الضابط ووعدني بأنه سيلقي القبض عليه , لكنه لم يضمن استعادة الساعة , كون اللص قد باعها من فوره , عادة لا يبقي اللص ما يسرق , بل يبادر الى بيعه في اقرب فرصة سانحة . 
كيف سأخبر جدي ؟ , سينزعج ويوبخني , في هذه الاثناء , رنّ هاتفي النقال , لقد كان اخي : 
- يجب ان تعود الى البيت حالا ! . 
- ماذا هناك ؟ . 
- لقد توفي جدي ! . 
صدمني هذا الخبر , فلم اعرف ماذا اقول , لكني تلعثمت وقلت : 
- الحمدلله ! .
- ماذا تقول ؟ . 
- لا شيء ... لا شيء اني قادم . 
تأملت الموقف , عندما فقدت الساعة , توفي جدي , وكأن حياة جدي كانت مرتبطة بتلك الساعة , لم يسرق اللص الساعة فقط , بل قتل جدي ايضا , فاصبح الموضوع موضوع ثأر وانتقام ! . 
عدت الى الشارع فيما بعد , لعلي ألمح اللص في مكان ما , بينما كنت اتجول سمعت ضجة في مكان قريب , وسمعت صراخا ( امسكوا اللص ذو الخنصر والسبابة ! ) , فركضت نحو مصدر الصوت , لكن اللص كان قد اختفى , وأحبط الملاحقون له , كما احبطت انا في تلك ليلة ! .
وقفت في زواية من زوايا الشارع , اجيل نظري هنا وهناك , وكنت اتسائل ان كان الشرطة لم يفلحوا بالقبض عليه هل يمكنني انا فعل ذلك ؟ , تأملت سيارة الشرطة , التي ركنت في الجهة المقابلة , تمعنت النظر في رجال الشرطة , مع كل تلك الاحمال التي يحملونها , من شأنها الإبطاء من حركتهم , كيف سيتسنى لهم ملاحقة لص بهذه الرشاقة ! , وكيف سيمكنني انا فعل ذلك ؟ ! , حيث لا رشاقة لدي , ولا خبرة للتعامل مع المجرمين ! .     
ذات يوم , بينما كنت اقف في زاوية من زوايا ذلك الشارع , قررت ان اكمن له في مكان ما , لكن كيف سأتعرف عليه ولم ارى وجهه ؟ , طالما وانه لا يملك سوى خنصر وسبابة في كفه الايمن , فسوف يخفي كفه عن الانظار , اذا فلأبدأ من كل من يدفن كفه الايمن في جيبه , او يخفيه بأي وسيلة كانت . 
لاحظت شابا في مقتبل العمر , يخفي كفه الأيمن في جيب البنطلون , سرت خلفه , من غير ان اترك له مجالا للشك , تنقل بين شوارع كثيرة , حتى أجهدتني ملاحقته , واخيرا , توقف واخرج كفه الايمن سليما تماما , فأخرج علبة سجائر , استخرج منها سيجارة حشرها بين شفتيه , واشعلها بولاعته , تقدمت نحوه مقهقها وقلت له : 
- لقد اتعبتني ! . 
- انا ! ... كيف ؟ . 
- كنت ابحث عن شخص يحمل ولاعة .. واخيرا وجدتك .. 
ابتسم ليّ واصرّ ان يشعل سيجارتي , شكرته وانصرف ! . 
في اليوم التالي , لمحت حدثا قد علق يده اليمنى بخيط حول رقبته , وقد لفّ كفه الايمن بضمادات طبية , يمعن النظر في المارة , ويدير رأسه في كل الاتجاهات , فقررت ان ألاحقه , بحذر سرت خلفه , حتى شاهدته يقترب من سيدة حملت حقيبتها الصغيرة على كتفها , وكانت مفتوحة , اقترب منها اكثر واكثر , بحذر خلع نصف الضمادات من كفه الايمن وبحركة غريبة , خلص يده من الخيط الذي يتدلى من على عنقه , وتخلص من كل الضمادات , فأذا في كفه خنصر وسبابة فقط , انه هو اللص الذي ابحث عنه ! , كنت قريبا منه ما يكفي ان امسكه بأحكام , وقبل ان يدس خنصره وسبابته في الحقيبة , فاجأته وامسكت به , نظر اليّ وضحك ضحكة كأني اعرفها , وقال ليّ : 
- اووووه استاذي ! . 
- من استاذك يا لص ! . 
- الم تعرفني ؟ ... يبدو انك قد نسيتني ! .  
كرر تلك الضحكة التي يبدو اني قد سمعتها من قبل وكرهتها , أمعنت النظر في وجهه , فلم يبدو غريبا عليّ . 
- هذا انا مراد ! ... ذلك التلميذ الشاطر في درس اللغة العربية ! . 
يبدو مألوفا ليّ , لكني لا زلت فاقدا التركيز , خوفا من ان يفلت من يدي بخدعة ما , لكنه اردف قائلا : 
- التلميذ مراد الذي كان يصحح لك ... حيث كنت دائما تخطأ في قواعد اللغة العربية .. فأضحك ويضحك التلاميذ ... وتستشيط غضبا عليّ ! . 
- اووووووه هذا انت ! . 
لقد تذكرت , انه ذلك التلميذ الذكي , حيث كنت كثيرا ما اخطأ في قواعد اللغة العربية ويصحح ليّ , فيضحك ويضحك التلاميذ , فيغلي الدم في عروقي , ويجف حلقي ,  حيث كنت أسوأ مدرس لغة عربية في العالم ! , فكرت في قتله عدة مرات , لو لا اني لا املك الجرأة , وتذكرت انه قد تعرض لحادث , فأمتنع من الحضور للمدرسة , فصليت صلاة الشكر عدة مرات !! , لأن الله خلصني منه , فقلت له سائلا : 
- ماذا حدث لك ؟ ... ولماذا تسرق ؟ . 
- كما تعرف استاذ ! ... ان ابي قد توفي في ذلك الحادث المشئوم عليّ , السعيد عليك , واصيبت والدتي بالعجز , وبتر كفي الايسر , ولم يبق من كفي الايمن سوى الخنصر والسبابة كما ترى ! . 
- لقد كنت سعيدا لتركك المدرسة .. لكني لست سعيدا بما حدث لك ! . 
- اما اخوتي فلازالوا صغارا .. فأضطررت للبحث عن عمل , لم اجد عملا  كوني لا املك كفوفا سليمة .. لذا دربت نفسي جيدا على السرقة بخنصر وسبابة , كي اجلب الدواء لامي والطعام لاخوتي ! . 
- تفكير غير سليم ! .
- ماذا ستفعل الان ؟ ... هل سوف تسلمني للشرطة ؟ ! .
 احترت في امري , هل أسلمه للشرطة وانتقم منه ؟ , فطالما فكرت بالانتقام , من ذلك التلميذ الذي جعل مني أضحوكة يوما ما , لكن من سوف يتولى رعاية عائلته ؟ , تلك العائلة التي تعيش في ظلام ما وراء كواليس المجتمع ,  ام أطلقه , فأكون كمن أطلق جرثومة تعيث فسادا وخرابا في المدينة , لست ادري ايهما افضل ! .    
- استاذ ! ... لقد سمعت انك تركت المدرسة ايضا ! . 
- نعم . 
- لماذا ؟ . 
بدأ الدم يغلي في عروقي , وتورم وجنتاي من الغضب , فأجبته صارخا في وجهه : 
- بسببك !!!! . 
 
  
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/06/15



كتابة تعليق لموضوع : الخنصر والسبابة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net