صفحة الكاتب : د . محمد تقي جون

صرخة اللغة العربية الخامسة – جهد عملاق مهمل
د . محمد تقي جون

قادني البحث الجاد لسنوات طويلة، والتنقير الواعي، الى أن اللغة العربية المعاصرة (مصنَّعة)، و(مقطوعة) عن لغة العرب التي تراجعت فصاحتها بمرور حقب الاحتلالات والاهمال، من عصور الفصاحة الى أعتاب العصر الحديث. وقد أسميتها (اللغة العربية الخامسة) لان اربع نسخ سبقتها: العربية الجاهلية، العربية القرآنية، العربية العباسية، عربية القرون الوسطى.

ان معجمات اللغة العربية الفصيحة تنتهي بتاج العروس للزبيدي (1205هـ/ 1790م)، وما بعده معجمات روَّجت لهذه العربية المصنعة، على اساس انها تطور. وهي لغة تختلف عن لغة العرب الفصيحة، وقاطعة ومقطوعة. قاطعة بين جيلنا واجيال العربية، والقرآن المجيد والتراث الفكري والادبي، ومقطوعة؛ لأنها لا تمتّ بصلة في غالبها الى لغة العرب ألفاظا وعبارات وقواعد.

لقد فصَّلتُ ذلك في كتابي (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) فلا داعي للشرح والتمثيل، فما في الكتاب غنى به. ولكن أذكر أشياء بسيطة مثل: ان هذه اللغة وضعها المترجمون باشراف الخديوي منذ القرن الثامن عشر لاستيعاب عصر التكنولوجيا، فمسخوا ونسخوا الفصاحة بالهجنة، ولعبوا باللغة لعب الاهواء، فالغاية ليس خدمة العربية بل تطويعها لتقابل المعاني الانكليزية العصرية. فحين أرادوا لفظا يقابل (Bomb) لم يجدوا، فعمدوا الى كلمة عربية فصيحة (قنبلة) وهي بفتح القاف وليس ضمها، وتعني (طائفة من الخيل) فافرغوا المعنى العربي الفصيح ووضعوا المعنى الانجليزي وهو (المتفجرات)، ومثله كلمة (Microbe) لم يجدوا مقابلا عربيا لها فافرغوا كلمة (الجرثومة) من معناها وهو (الاصل، وعشائر العرب) ووضعوا مكانه (الكائنات الدقيقة)، واذا احبوا اخترعوا الفاظا  لا عهد للعربية بها مثل (التعقيم).

وزحف ذلك على العبارات والجمل فصرنا نقول (أعتقد انه موجود أي أظن) ترجمة لـ(I think) بينما الاعتقاد لدى العرب يعني اليقين وليس الظن. و(المعنويات) أخذت من احد معاني (spirits). وثمة معان لا عهد للعربية بها مثل:(Controversial  =مثير للجدل) (مثير للشفقة = Pathetic). ولك أن تتصور حجم غرقنا فيما نقلنا وعربنا من مسميات المخترعات والعلوم والسياسة والاجتماع والفنون وحتى اللغة والادب. فـ(الرائد) عربيا هو الذي يبحث عن الماء والكلأ لقومه حُوِّر الى (رتبة عسكرية) ومثله بقية الرتب. ويقال (حركة انقلابية وحراك سياسي) ترجمة لـ(Move و Activity). و(التصويت) في الانتخابات ترجمة غير موفقة لـ(voting) ومعنى التصويت عربيا (رفع الصوت عالياً، وأذان المؤذن، وصياح الراعي). والمسرح (مكان الرعي) حورت الى (خشية للتمثيل). ومصطلحات مثل (التوليدية) ترجمة لـ(generative) (التداولية) ترجمة لـ(deliberative).

بل اخترقت القواعد، وهي البناء التحتي للغة، و(أمّ العلوم) فعليها تؤسس علوم: النحو، والصرف، والألفاظ، والمعاني، والتأثيل (علم أصول الكلمات). وما يتصل بهذه من علوم أخرى كالأصوات واللسانيات واللغة والإملاء وغيرها من شبكات العلوم الأخرى. فهي تمثل منظومة جينية كاملة تحدد عرق اللغة وهويتها الخاصة بها جدا. ولم تخترق قواعد اللغة العربية طوال عهودها حتى بعد وقوعها تحت تأثير احتلالات أجنبية مختلفة أصبحت هي أقل أهمية من لغاتها التي أخذت الصدارة. وظلت محافظة على قواعدها وهي تتهاوى في العجمة والعاميات، فبقيت عربية في جوهرها وهويتها لا غبار عليها في ذلك حتى هوت في لغتنا المعاصرة. فصرنا نقدم المضاف عليه على المضاف (أستاذ مساعد، علي مول)، وننسب الى المصدر (تدريسي، فدائي)، ونستعمل كاف  as(نحن كعراقيين)، ونجمع الاعداد (ستات، سبعات، عشرينات) والنفي بـ(اللا) (اللاعودة، اللامنتمي) ونجرّ الحال والحال منصوب فقط (أقول بصراحة، تكلمت بحنان) ولا أقول ان الصراحة لا علاقة لها بقول الصدق، فهم يقولون هذا صريح النسب أي خالصه. وصرنا نتعجب بعبارة (يا لجماله، يا له من جميل) ناسين (ما أجمله، أجمل به) صيغتي التعجب العربيتين. وكنا نستعمل للآلة اسما يشتق غالبا من الفعل الثلاثي المتعدي، وقد يشتق من اللازم. وله ثلاثة أوزان قياسية هي: (مِفعَل) و(مِفعَال) و(مِفعلة). وتوجد اوزان غير قياسية  مثل (قلم، سيف، رمح ). فصارت اسماء الالة لا تحد ولا تعد حسب ما احوجت اليه الترجمة (مِفعَال = مصباح، مِفعَلة = مطرقة، فَعّالة = ثلاجة، فعّال = (خلاط، مُفعِّل = محرّك، فَاعِلة = رافعة، فاعُول = حاسوب، وأوزان غير قياسية مثل: (ساعة، فرجار، بندقية، كوب، بروش) وغير ذلك. بل نقلوا التوافه مثل (احم = ahem) (هههههه = hahahaha) (اششششش= shhhhh). وقد أصبح العربي المعاصر بهذه اللغة غير فصيح، الا انه يصر فيقول (أتكلم الفصحى)، والكثيرون يتحذلقون ويتفيهقون بها.

لقد فتحتُ فتحا مبينا بكتابي هذا ولا فخر، وصرخت في القوم وهم غاطون في الغفلة عن لغتهم ويدعون انهم راعون لها. وعممت كتابي على مجامع اللغة العربية في الوطن العربي، ومنها الشارقة التي تعلن اهتمامها باللغة العربية والمعجم العربي، كما ارسلت نسخة الى رئيس المجمع العلمي العراقي في بغداد، فما أبهوا ولا اهتموا وصموا عن صوت اللغة المستصرخ، وذهبت جهودي – لا ذهبت – أدراج الاهمال.

ان اللغة العربية اليوم أمام (مفترق طرق) عفوا أمام خيارين، فمفترق طرق ترجمة لـ(Crossroads) انظر كيف صار علينا مراجعة كل ما نقوله! فإما أن تذهب بقايا العربية، وإما أن نعيد صناعة لغتنا العربية المعاصرة من قبل كبار اللغويين وليس المترجمين. فبهذه اللغة صار الجيل لا يفهم القرآن ولا يفهم التراث. فقد اضطرب شراح القرآن في قوله تعالى (قلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (الزخرف: 81) لان العابدين إما من عبد بمعنى  (خضع، أطاع) أو من (رفض) فالعربي يقول (أنا أعبد أن أشرب الخمر أي أرفض) وهكذا فشرح الاية هو: ان ثبت ان الله له ولد فلن أعبده، وقد قال سبحانه (لم يلد ولم يولد) وعلى هذا يعبد.  واذكر اني زرت فضائية كربلاء فسألني أحد الاشخاص قائلا: (هناك نص حرت فيه، وأنا افكر به منذ أشهر دون جدوى. قلت ما هو؟ قال: جاءت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومعها حفدتها. فكيف يكون معها حفدتها وهم لم يولدوا في حياتها؟ قلت له: (الحفدة) إما جمع (حفيد) وهو ابن الابن والبنت، أو جمع (حافد) وهو الخادم والتابع، فيكون المعنى (جاءت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومعها خدمها. فـ(عبد بمعنى رفض) و(حفدة جمع حافد) واطنان من الالفاظ والعبارت العربية الفصيحة ضاعت وابدل بها هذه الالفاظ المترجمة، ويجب ان لا تأخذنا العزة بالخطأ، بل نسرع ونبذل الجهود القصوى لإعادة العربية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد تقي جون
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/04/05



كتابة تعليق لموضوع : صرخة اللغة العربية الخامسة – جهد عملاق مهمل
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net