المستوى الدلالي (كربلاء القلب كربلاء ): عند الأديب علي الخباز
دكتور زينب عبدالله كاظم
دكتور زينب عبدالله كاظم
جامعة الكوفة ــــــ كلية التربية للبنات
تدريسية في قسم اللُّغة العربيَّة
ملخص البحث باللُّغة العربيَّة:
يهدف هذا البحث إلى كشف المستوى الدلالي في (كربلاء القلب كربلاء) للأديب علي الخباز، والتأمل في قيمه الوظيفية، عن طريق تجلي الإبداع في الفنون البلاغية التي حقق فيها المبدع غايته التعبيرية ذات القيمة التي جعلت للنص قوة، هدفها والغاية منها الوصول إلى المتلقي ومنحه معنًى جديدًا متولدًا من إيجاد دلالات جديدة، فضلًا عن وسيلتها الكامنة في إدراك المتلقي وفهمه للبنى العميقة للنّص، وإسهامه في إيجاد معنى المعنى وتعدد الأشكال البلاغية في النص مشفوعًا بتعدد الدِّلالات التي تتشظَّى في كلّ المستويات البلاغية، ولا تمنح نفسها بسهولة؛ ومن هنا يدرس البحث عُمق الدِّلالة بناءً على طريقة تشكيلها البياني المرهون بالوعي في إنتاجها، وبالقُدرة على استثمار الترابط والتداخل بين نسيج تكوينها، ونص (كربلاء القلب كربلاء) جاء حافلاً بالدِّلالات المُتضمنة للصور الاستعاريَّة، والتشبيهيَّة، والكنائيَّة التي سيُعنى البحث بدِّراستها؛ لمعرفة المستوى الدِّلالي لها، والوقوف عند القيم الوظيفيَّة المتحققة فيها.
لمقدِّمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على سيد المُرسلين محمَّد وآله الطَّيبين الطَّاهرين.
وبعد:
لا يخفى أنَّ التحدَّث عن المستوى الدلالي في نص نثري كنص سيناريو (كربلاء القلب كربلاء) يعني الوقوف والتأمل في القيم الوظيفيَّة لمكنوناته؛ بغيَّة استكشاف ايحاءاته البلاغيَّة المُتجليَّة في دلالاته المُستترة ما وراء النَّص، وهذا البحث يُحاول الولوج إلى خبايا النَّص المُتشظيَّة في المستوى الاستعاري، والتشبيهي، والكنائي؛ ليُظهر دلالاتها التي تحتاج إلى دقّة للوصول إلى الثَّمرة التي نشدها المُنشئ من الوصول إلى المتلقي ومنحه معنًى جديدًا متولدًا من إيجاد دلالات جديدة تُسهم في إدامة التواصل بين الباث والمُتلقي، وفي ضوء ذلك ارتكزت الدّراسة على تمهيد نظري، وثلاثة محاور تطبيقيَّة أعقبتها خاتمة في أهم ما توصل إليه البحث من نتائج.
وأخيرا فإنِّي لا أدعي الكمال في بحثي هذا, فالكمال لله وحده، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّد وآله الطَّيبين الطاهرين.
التمهيد
في الإطار النظري للدِّراسة
أولاً: نبذة عن المستوى الدِّلالي
المستوى الدلالي حصيلة ماهيَّة الوحدات اللغوية المُكوِّنة للنص( ) مع مراعاة الأخذ بالظروف المحيطة التي أسهمت في توليد ذلك المستوى، ولا يخفى أنَّ هذه الوحدات تفرض استدعاء وظائف اللُّغة، المتمثلة بـ" وظيفة الاتصال والوظيفة الشعرية"( )، وجدير بالذّكر أن كلا الوظيفتين تتحققان بتركيب الجملة، وأي تغيير يطرأ فبلا شك سيستدعى تحول في المستوى الدِّلالي، ويحصل التحول الدلالي بمستوى يتضمن قيم فكرية وجمالية؛ وذلك بفعل تأثير المنشئ فضلا عن تأثير المتلقي الذي له دور كبير في اكتشاف الدلالة( )، ولا يمكن أن يتحقق ذلك المستوى إلا بتتبع معنى الكلمة، ومعرفة معناها فضلاً عن الطريقة التي وُظِفَت فيها داخل المُكوّن النَّصي، فلا معنى للكلمة خارج ذلك المُكوّن( ).
ويظهر من فوائد التحول والتغيير إفادة المتلقي معنىً جديداً ناتج عن توليد دلالات متجددة( )؛ وذلك لأنَّ المستوى الدلالي يتعين عن طريق العلاقات بين دلالات الألفاظ في داخل البنيَّة النَّصيَّة، وهذا بدهي فالدلالة إنّما هي نتاج كلي لمستويات التركيب النَّصي سواء أكان ذلك على مستوى الدلالات الظاهرية أم على مستوى الدلالات التي تستوطن المُكوِّن النّصي؛ لكونها لا تنبثق من الألفاظ، ولا من التركيب فحسب، وإِنَّما تنخلق عن طريق تحويل الدلالة الجمعيَّة المتولدة عن دلالات الألفاظ وعلاقات النَّص إلى علاقة كلية تحيل إلى دلالة أخرى( ).
وعلى وفق ذلك يبدو أنَّ المُكوّن النّصي هو الذي يُنقي المفردة من دلالاتها السابقة التي تختزنها ذاكرة المُتلقي، ما يُؤدي إلى خلق قيمة حضورية في النَّص المستجد لها، وهذه القيمة بدورها تتكئ على وعي الباث في طريقة إرسالها من جهة، ومقدرته على استثمار الترابط داخل المضمون النَّصي من جهةٍ أُخرى.
والسِّياق النَّصي لسيناريو (كربلاء القلب كربلاء) جاء مكتنزاً بالمستويات الدّلاليَّة المُخبئة لكم هائل من المشاهد البلاغية الاستعارية والتشبيهية والكنائية والمجازية التي سيتكفل البحث بدِّراسة مفاجآتها الدّلاليَّة.
ثانيا: وقفة مع سيرة الأديب علي الخباز
من الأدباء العراقيين المُبدعين في مجال الشعر، والمسرح، والنقد، والكتابة، ولد عام 1954م في مدينة كربلاء المقدسة وفيها نشأ, كُنِّيَ بالخباز نسبة إلى عمله, لم يُواصل دراسته الأَكاديميَّة إِلا أَنَّه حُظي بحظ وافر من الثقافة؛ لكثرة قراءاته التي بدأت في سن مبكر ولاسيما لنهج البلاغة، وهناك مفارقة جميلة في حياته الأدبية إذ بدأ القراءة منذ نعومة أظفاره، ولكنه لم يكتب وينشر إلا بعد الأربعين؛ مُعللاً ذلك بأَنَّه ترك مساحة للنضوج الفكري، فبرأيه أنَّ على الكاتب الجيد ينبغي أن يكون قارئاً جيداً؛ ليتمكن من كيفيَّة استدراج معرفته، ومتابعة مُنجزه الإبداعي.
يتسم الخباز برهافة الحس، والاعتداد بالنفس، ولا يحبذ التطفل على عالمه الأدبي، يُتقن فن إثارة المُتلقي؛ فتارة يُحيله مشاركاً في النَّص، وأخرى يُحفزه؛ ليكون ناقداً له في آنٍ واحد؛ ولذلك لاقت نتاجاته رضا المُتلقين ونالت اعجاباتهم, وحُظِيَت بدِّراسات؛ فليس غريباً أَن يكون من كبار أدباء العراق وشعرائه؛ ولأَنَّه يتمتع بحسّ أدبي, وتنوع ثقافي صار مؤهلاً؛ ليكون عضواً في إِتحاد أَدباء العراق عام 1995م, وعضواً في إِتحاد أَدباء العرب 1997م, شغل منصب مسؤول شعبة الإعلام في قسم الشؤون الفكريَّة في العتبة العباسيَّة، ورئيس تحرير صحيفة صدى الروضتين الصادرة عن العتبة العباسيَّة المقدسة.
ثالثاً: قراءة تأمليَّة في نص (كربلاء القلب)
(كربلاء القلب) سيناريو إذاعي قدَّمه الأديب علي حسين الخباز بطريقة فيها حراك يتناسب وعصرنا اليوم إذ أراد أن يدخل المقتل بصوت آخر، ورؤية ثانية بأسلوبه وأفكارهِ؛ ويُمكن القول أنَّ سبب تأليفه للسيناريو حسب تصريحه( ) رغبته في تصوير واقعة الطَّف على وفق ما يتناسب ورؤية العصر، وهو يرى أَنَّ واقعة الطَّف لم تُدوَن بشكلٍ صحيح؛ لأَنَّ الذي رواها هو حميد بن مسلم, الذي حمل رأس الإمام الحسين (عليه السلام) مع ثلاثة أَشخاص إلى ابن زياد؛ وأَمَّا الإمام السجاد ( عليه السلام) فقد تفرغ لروح الواقعة, ولم يذكر تفاصيلها بالشّكل الدَّقيق, فالإِمام (عليه السلام) أَراد أَن يُركِز في الأَذهان بأَنَّ الله (عزَّ وجل) أراد لهذه الواقعة أن تكون فكريَّة؛ لتدور في فكر كلّ إنسان.
وعند التأمُل في تفاصيل نص السيناريو يتجلَّى لنا أنَّه مُحاولة لقراءة واقع الواقعة من جوهرها، فالخباز يبحث في لُب الشَّخصيات؛ ليعرف طُرُق تفكيرهم من جهةٍ؛ وليجعل المُتلقي يُفيد من بناء شخصيات أبطال الواقعة من جهةٍ أخرى، والوازع الذي أهلهم لبلوغ المراتب السامية، وهذا ما كشف عنه الخباز إِذ صوَّر الواقعة وكأنّها صوراً تدفّقت على لوح مُتحرك، وجعل هذا اللَّوح كأنَّه الحياة ذاتها، ما جعل المُتلقي كأنَّه يرى غبار المعركة عن طريق النَّص الحافل بالدِّلالات المتضمنة للعديد من الصور التي يُمكن لخيال المُتلقي أن يستنطقها.
حفل نص الخباز بكثير من الدِّلالات المركزيَّة والهامشيَّة ( ) التي تضمنت صور بلاغيَّة دخلت ضمن التسلسل الحدثي الدائر حول الفكرة التكوينيَّة لمحوريَّة النَّص، وهذا بدهي فتعبير الأديب يحمل وظائف دلاليَّة تُسهم بدورها في توليد فضاءً مُنتجاً لصورٍ تشبيهيَّة، واستعاريَّة، وكنائيَّة.
أولا: الاستعارة
ماهيتها نقل المعنى من لفظ إلى آخر لمشاركة بينهما مع عدم ذكر المنقول إليه ( )،أي: إيجاد علاقة بين طرفيها عن طريق تمثل أحدهما مزيَّة الآخر( )، وتكمُن بلاغة هذه العلاقة بما تنتجه من صور يتفاجئ بها المتلقي، ويتفاعل معها فكرياً ومعنوياً؛ فتكون سبباً في تعميق وعيه.
وفي نص (كربلاء القلب) تتجلَّى قدرة الخباز على الإنتاج الاستعاري؛ فقد خرق قوانين اللُّغة؛ ليُفاجئ المُتلقي ويُحرِّك ذهنيته عن طريق الإيحائيَّة التي تعكسها التراكيب المُعتمدة في إنتاج الصورة الاستعاريَّة.
وحمل نص السيناريو صوراً استعارية أَفصحت عن الثَّراء اللُّغوي الذي يحمله الأديب، وقدرته على استثمار هذا الثَّراء بما يقوي الصورة دلالياً، مثالها ما ورد في الفصل الأول من السيناريو:
" ــ الرَّاوي، سحائب الجراح تطلُّ عند مقدم كلِّ عاشوراء حزين ...تجيئ لتُدلي شهادتها للتواريخ .. تحتضنها السّماء بودٍ كي يصحو المُصاب شاهد وشهيد..
ــ حينَ اعتلى الجائر يزيد عرشه في سنه60 للهجرة، عانقَ إرث دم، وعرشاً شيدته سقائف الرَّذيلة من أضلع الفقراء.
ــ يزيد، لا شيء .. لا شيء.
ــ الرَّاوي، لا شيء سوى سرب أحقاد يملئ القلب...".
يُقدم الأديب للمتلقي– في النَّص أعلاه- أكثر من صورة استعارية مُكتنزة بالإيحاءات عن طريق الزّخم الاستعاري الذي عمد إليه؛ وهنا تتجلى قدرته على الإنتاج الاستعاري بإيصال غير المتوقع للمُتلقي عندما شبه (المُصاب) بالكائن الحي، وحذفه وأبقى لازماً من لوازمه وهو (الصَّحو) على سبيل الاستعارة المكنية التي عن طريقها تظهر المفارقة بين ما هو مرتكز في ذهن المتلقي ـــ من أنَّ الصحو للكائن الحي ـــ، وبين الجديد وغير المتوقع وهو ــ جعل الصَّحو للمُصاب ـــ، ما جعل المُتلقي يُصاب بالدَّهشة؛ نتيجة ما أحدَثه مُنشئ النَّص من خرق لقواعد اللُّغة ونظام الألفاظ، وهنا تتجلَّى قُدرة المُنشئ على الإنتاج الاستعاري بتحريك ذهن المُتلقي عن طريق استثمار العلاقة المُتحققة في الصورة الاستعاريَّة التي ولَّدَت حركة ذهنيَّة مُكثفة بوصف الاستعارة خصيصة أُسلوبية، وقيمتها " مرهونة بشدة الصدمة ودرجة التوتر المتولد لدى المتلقي من خلال حجم المفارقة بين ما هو قار في الأذهان، وبين الجديد وغير المتوقع"( ).
ويُلحظ أنَّ الإستعارة شكلت ظاهرة واضحة في سياق نص السيناريو ففي عبارة (وعَرشاً شيدته سقائف الرذيلة) صورة استعارية تكشف عن قابلية المُنشئ على التفنن في استثمار الألفاظ بما يُعضد الفكرة التي يُريد إيصالها إلى المُتلقي دلالياً إذ شبه (الرذيلة) بالقصر، وحذف القصر واكتفى بالإتيان بلازمٍ من لوازمه وهو (السَّقائف) التي لها دور في تشييد وتقويَّة عرش يزيد؛ فمُنشِئ النَّص أنتج صورة أدهشت المُتلقي ومنحته فرصة المُشاركة عن طريق الإيحائية المُستحصلة من التركيب الاستعاري، فدِّلالة لفظة (السَّقائف) تُصرِف ذهن المُتلقي إلى حيزٍ مكاني يتضمن بناء فخم ومُتعدد الأروقة والحجرات والطوابق التي يعلوها بمجموعها سقوف على حين لفظة (الرَّذيلة) لها أبعاد دلاليَّة مُختلفة لا تَعدو المعنويَّة المُتدنيَّة، وهذا الإختلاف الدِّلالي ولَّد صدمة لدى المُتلقي منحته بدورها فرصة للتأمل والتّخييل عن طريق الأسئلة المُستحْدَثَة في ذهنه في أثناء تلقيه للصورة الاستعاريَّة التي تنم عن كفاءة الأديب من جهة، ودقَّة اختياره للألفاظ من جهة أخرى إذ ربط اللَّفظتين(سقائف) و (رذيلة) بعلائق وتَّرَت ذهنيَّة المُخاطب فبراعة التركيب الاستعاري المُتحقق في (سقائف الرَّذيلة) أسهم في إظهار (الدُّونيَّة لعرش يزيد) إذ شبه (الرَّذيلة) ببناء فخم ليس له سقف فحسب بل له (سقائف) كُثُر، وهنا لا يخفى على مُتلقي النَّص عدم اشتراك (السَّقائف، والرَّذيلة) بالتَّوافق الدِّلالي الذي يدور حول تشييد عرش (يزيد)، وبدهي أنَّ مُحاولة المُنشِئ إظهار المعاني العقليَّة بصورة حسيَّة يُلفت انتباهة المُخاطب، ويُولد في ذهنيته حيزاً فضائياً يُلحظ من سياق التَّركيب الاستعاري.
ثمَّ ينقلنا الخباز إلى صورة استعاريَّة جديدة يُحققها عن طريق التَّوظيف البنائي في المشهد التالي:
" ـــــ ... جاء أمر الأمير أنْ نُعرِض عليكم النِّزول على حُكم أَمير المُؤمنين يزيد أو نَسُوق لكُم الحَرب.
ــــ العباس (عليه السلام): دَعنِّي أُخبر مَولاي الحُسَين.
ــــ حبيب بن مَظاهِر مع الجماعة: يَبدو أنَّ موائد الذِّلة قد اختارت لكُم المَصير؛ أَما والله لبأس القوم عند الله قوم غداً يُقدِمون عليه، وقد سفكوا دِماء ذريَّة نبيه، وعترته، وأهلِ بيته، وعُبَّاد هذا المِصر، المُتمَجدين بالأسحار، الذَّاكرين لله كثيراً.
ـــــ عزرة: لا كَلام ـــ حين تَركُض الحَرب في الفَلَوات ـــ يَشفع، ولكنَّك تُزَكِي نفسك مَا استطعت.
ـــــ زُهَير: يا عزرة ليستيقض الضَّمير عند براثِن( ) الكلام؛ فالله قد زكَّاها وهدادها؛ أمَّا أنتَ دَعني أحمِلُ لكَ النَّصيحة بارقة خير فلا تكون ممَّن يُعين أهلِ الضَّلالَة على قتلِ النّفوس الزكيَّة، أتعرف من تُريد أن تقتله اللَّيلة؟ إِنَّه الحُسين يا عزرة إِنَّه الحُسين.
ـــــ عزرة: من أيّ ولاء أقمت الوأد وأنت بالأَمس مَا كنتَ من شيعة أهل البيت؟ وماذا يدُلُّك مَوقفي هذا الآن؟ وأنا والله ما كتبت إليه كتاب قط، ولا أرسلت له رسولاً، ولا وعدته نُصرتَي، وما جَمعني بالرَّكب الحُسَيني سِوى طريق الحج؛ لكن حينَ رأيته ذكرت به رسول الله ومكانته منه، وعرفت ما تقدِم عليه أنتَ وأمثالكَ من جرمٍ وخَراب لا يُرْحَم؛ فرأيتُ نُصرته أَولى منَ الحَياة.
ــــ الحُسين، يَا أبا الفضل، ارجع إليَهِم واستَمْهِلْهُم هذه العَشِيَّة إلى غد، لَعلَّنا نُصلِّي لرَّبِنا اللَّيلة نَدعوه، ونَستغفِره؛ فهوَ يَعلَم إنَّني أُحِبُّ الصَّلاة له، وتِلاوَة كتابه، وكِثرَة الدُّعاء".
في النَّص أَعلاه شَكلت الاستعارة مَظهراً واضِحاً، عمدَ إليها الخَباز في بناء السِّيناريو، إذ نَلحظ أكثر من صُورة مُكتَنِزة بالمَعانِي ذات الدِّلالات المُوحِيَّة عن طريق الزَّخم الاستعاري، وقد أكدت طريقة العرض للصور الاستعاريَّة المُتتابعة قُدرة الأديب على الإنتاج الاستعاري، كما كَشفت عن مَكنُون الثَّراء اللُّغوي الذي يَمتلكه، ويتمكن من تقليباته حسب ما ينسجم والفكرة التي يُريد إيصالها إلى المُتلقي، ففي قول حبيب بن مظاهر للخصم: (يَبدو أنَّ مَوائد الذِّلة قد اختارت لكُم المَصير) ينقلنا الخباز للتأمل في صورة (موائد الذِّلة) التي وظفها توظيفًا نفسيًا؛ ليُؤكد للخارجين عن طاعة الإمام الحسين (عليه السلام) والمُستعدِين لقتاله أَنَّ الخِضُوع للذِّل هو من خطَّ لهم المَصير، وهذا باختيارهم وهم مسؤولون عنه يوم الحساب حيث سيُلاقون رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وهم حاملين للعار إذ أَسهموا في سفكِ دماء ذريته خير عُباد الله المُتمَجدينَ بالأسحار، الذَّاكرين لله كثيراً، وبهذا التوظيف يُثبت الأديب ويُؤكد عِظَم جُرم هؤلاء في نفس المُتلقي وهو بذلك يكشف طريق من قاتلوا الإمام الحُسين (عليه السلام) بالصدود عن الله تعالى، والإعتداء على حرمة نبيه(صلَّى الله عليه وآله وسلم)، وكان للصورة الاستعاريَّة دور في إثارة خيال المُتلقي، وزيادة تأمُلاته إذ ليس للذِّل موائد، ولكن عظم ما يُودون الإقدام عليه جعل مُنشِئ النَّص يعمد لجعل للذُّل موائد، وكأَنَّ الذّل له أَصناف منوّعة، وأطباق مُتعددة تشكيلتها رسمت مصير هؤلاء الفَسقة الذين لم ينالوا من فعلتهم سِوى العار في الدُّنيا، والخِزي والنار في الآخرة.
وفي مقطع آخر يَظهر التعالُق الحاصل بين الصورة الاستعاريَّة (لا كَلام يَشْفَع) وصورة ( تَركُض الحَرب) في عبارة: (لا كلام ـــ حين تركض الحرب في الفَلَوات ـــ يَشفَع)، فهنا زاوجَ المُنشئ بين صورتين في داخل الأولى جعل الثانيَّة مُعترضة؛ فجعلَ مِن عدم شفاعة الكلام في أثناء ركوض الحرب في الصحاري الواسعة بما تحمله صورة (عدم شفاعة الكلام) من معاني اللااستقرار وعدم الأمان، وبما تحمله الثانية (ركوض الحرب بالصحاري) من معاني الخوف وسفك الدِّماء، مأوى للتأمل إذ كأنَّ الأولى هي الأُخرى، وهاتين الصورتين جاءتا عن طريق اعتماد الأُسلوب الاستعاري؛ وذلك بتشبيه (الكلام) بالإنسان الذي لديه وجاهة ومكانة تُؤهلانه للشَّفاعة، وحذف الإنسان وأبقى على لازمٍ من لوازمه وهو (الشَّفاعة) على سبيل الاستعارة المكنيَّة؛ ثمَّ في أثناء هذه الصورة يغور الخباز ليُضمنها صورة استعاريَّة عن طريق الجُملة المُعترضة فيُشبه الحرب بـ: (كائن حي هائج وغاضب) يركض من دون أن يأبَه بمَن يعترض طريقه فقد يقتل وقد يجرح، وحذف الكائن الهائج وأبقى لازماً من لوازمه وهو (الركض) أيضاً على سبيل الاستعارة المكنيَّة، ويَبدو هنا التَّقارب الدِّلالي بين(لا كلام يشفع) و (الحرب تركض) جَلياً للمُتلقي، ولا يخفى أنَّ الانسجام والتَّرابط الحاصل بينهما عند تأويل دِلالتهما كوَّن لوحة ذات أبعاد مجازيَّة تَستحق التأمل بتركيزٍ مُعمَّق، ولا نَستبعِد إمكانيَّة هذه اللَّوحة في توليد حِراك ذهني لدى المُتلقي بحيث يندمج معها؛ ليتعايش جزئياتها حقيقة واقعة وكأَنَّ أحداثها ماثلة أمامه.
وجاء نص حوار زُهير بن القين مع عزرة " زُهير: يَا عِزرة ليستيقض الضَّمير عندَ براثن الكلام؛ فالله قد زكَّاها وهداها؛ أمَّا أنتَ دعني أحمل لكَ النَّصيحة بَارِقَة خَير فلا تكُن ممَّن يُعين أهلِ الضَّلالَة على قتلِ النِّفوس الزكيَّة"، بزخم استعاري جاء على سبيل الاستعارة المكنيَّة التي وظِفَت عن طريق صُورَها المُتعددة، للكشفِ عن رغبة زُهير في إِيقاظ الضَّمير إذ شبه (الضَّمير) بالإنسان وحذفه وأبقى لازمة من لوازمه وهي (الاستيقاظ) سعياً منه لبث الحياة في ضمير المُخاطب المُنْظَم لجيش يزيد الذي غرَّهم ومنَّاهم، ويُعضد الأديب هذه الصُّورة بأخرى بقوله: (بَراثِن الكَلام) إذ جعلَ للكلام مخالب السَّبُع أو الطَّير الجارح مجازًا على سبيل(الاستعارة المكنية) حيث شبه (الكلام) بالسّبُع، وحذفه وجاء بلازمٍ من لوازمه وهي(المخالب)، ويبدو واضحاً أنَّ الصورة الأخيرة رسمها المُنشئ لخلق حركة ذهنيَّة مُكثفة، موظفاً إيَّاها في رؤيَة دلاليَّة تستمد عُمقها من الصورة التي تتلوها في عبارة: (دَعنِّي أحملُ لكَ النَّصيحَة) فهُنا كأنَّ الخباز لا يُريد لهذا الوضع أن يَستوطن نفس عزرة فيُشيع فيها اليأس؛ وإنَّما أراد له تبديد ذلك الوضع النَّفسي المُتأزم عن طريق النَّصيحة، وقد حققت تلك النَّصيحة عن طريق المجاز الاستعاري في تركيب(دَعْنِّي أحملُ لكَ النَّصيحَة) زخماً دلالياً ولا سيما دلالة مفردة(أحمل) التي وازت رغبة زُهَير في إعطاء المتلقي زخماً معنوياً وترغيبياً، في ترويض النَّفس وتهذيبها، وهذا- كما هو واضح – من أهداف الرِّسالة الحُسينيَّة وطموحات الإصلاح التي نشدها الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته الكربلائيَّة وزُهَير جزء من هذه النَّهضة، وعُنصر من عناصر تحقيق الأَهداف المُتوخاة.
وبذلك استطاع الأديب ببراعته أن يتجاوز ما في هذه الصورة الاستعاريَّة من بساطة مُستثمراً التكثيف الدِّلالي بتشبيهه للنَّصيحة بشيء مادي يُمكن حمله، وحذف هذا (المادي) والإبقاء على أَحد لوازمه وهو (الحمل)؛ لإيقاع التأثير في المُتلقي عن طريق الحراك الذِّهني الذي تُولده الصورة، ولا يخفى أنَّ عائدية ذلك التأثير مُشتركة بين الباث والمُتلقي، وإن كانت الأرجحيَّة للمُنشئ وهذا بدهي؛ لأَنَّ جماليَّة الصورة في ذهن المُتلقي مرهونة بقُدرته على تَخيُل ما يتلقى فضلاً عن توقفه على الصورة التي يتخيلها بنفسه( ).
وتبقى الاستعارة ولاسيما المكنيَّة شاغلة لمساحة كبيرة من نص السيناريو ففي حوار زُهير بن القين (... فلا تكُن مِمَّن يُعين أهلِ الضَّلالة على قتل النفوس الزكيَّة) يُشبه الضَّلالة بالإنسان العاقل الذي له أهل، ويحذف الإنسان ويُثبت أحد لوازمه وهو (الأهل) على سبيل الإِستعارة المكنيَّة التي منحها مُنشئ النَّص حافزاً ذهنياً قوياً عن طريق الفَجوة بين (الإنسان الذي له أهل) و (الضَّلالة التي تُعد من المعنويات) ولكن الخباز أنسنها بالأهل، وهنا تَكمُن الفَجوة التي أسهمت في إنتاج هذه الصورة البيانيَّة بما يتوافق وسياق النَّص.
ويبدو واضحاً أَنَّ الأَديب رسم هذا الكم من الصُّور الاستعاريَّة على وفق ما فرضته حاجة النَّص في التبليغ عن الواقعة والتأثير في المُتلقي بطريقة جديدة تتناسب وذوقه اليوم؛ ليجعل مساحة خيال المُتلقي غير نافدة؛ بل ليجعله يرسم بقوة مُخيلته أَحداث وشخوص ما جرى في عرصات كربلاء، ولو التفتنا إلى هذه الصُّور لوجدناها تُشكل وحدة دلاليَّة ذات طابع نفسي خاص، وهذا الطابع حاول مُنشئ النَّص تصويره عن طريق تراكيبه اللُّغوية الحافلة بالاستعارات المكنيَّة التي حققت تواصلاً دلالياً مُعمقاً بين النَّص وعنوانه.
ثانياً: التشبيه
لأسلوب التشبيه دور في خلق نتاج أدبي يَتسم بدِّلالات مُثمرة، ويُعد من أقدم الوسائل التي تُركز عليها صناعة الصور الفنيَّة, فهو بحرٌ زاخر ما زال يمدّ الشُّعراء والكتّاب بما يُزينون به نتاجاتهم( ).
وشكلَ توظيف الأسلوب التَّشبيهي في نص (كربلاء القلب) ظاهرة عكست قيمة التشبيه في النَّص بطريقة تجلّى فيها التَّحول الأسلوبي للتشبيه في النَّص، مثاله ما ورد في الحوار:
" ـــــــ يزيد: قلْ يا سِرجون واختصر ما تُريد وأرحني.
ـــ سرجون: أُخرج عهد عُبيد الله بن زياد على المصريين فهو الأجدى في الأزمات رجل بلا قلب لا يَعرف مثل الناس الرَّحمة، والشَّفقة، والحُب مَخْلَص القول يا أميرَ المُؤمنين، هو ثور ٌ أهبلْ شديد البأس .
ـــ يزيد: فِكر مُستنير، وحَصافة خبير، فِكرة خَطيرة أين كنتَ عنها؟ سأَبعَث له مُسلم بن عمر الباهلي، أنْ سِر إلى الكُوفة واطلُب ابن عقيل " ( ).
الأديب هنا شبّه (عبيدالله بن زياد) بـ: (الثَّور الأَهبل) الوصف الذي يستحقه، وترك للمُتلقي حُريَّة تصور شكل ذلك الثَّور، وهذا الأسلوب التَّشبيهي بما يتضمن مِن تفنن في التَّوظيف اللُّغوي خَلقَ انزياحاً وخَرقاً عن المَألوف ممَّا شكلَ خِصيصَة أسلوبيَّة أَعطت زخماً معنوياً ونفسياً أضفَى بدورهِ زخماً دِلالياً- فضائياً بما يتوافق والمقام، فإنْ كان بالإمكان تصور أو وصف(الثَّور الأَهبلْ)؛ فإنَّ كلمة(أهبل) بما تَحمله مِن مَعنى تأخذ بُعداً تصويرياً آخر، هذا البُعد يمتد بامتداد جهل حقيقة ما يستحقه عُبيدالله بن زياد من وصف، ويبدو أنّ اعتماد الخباز هذا اللّون من التشبيه مُنسجم وطبيعة المُشبه، وهو لم يجعل لوجه الشَّبه تَحديداً مُعيناً؛ وإنّما تركه عائماً في الخيال؛ ليُبقي باب التخيُل مفتوحاً لتصورات المُتلقي.
ونظير ذلك نجده في السيناريو في وصف الأديب للمشهد:
" ــــــ عُمر بن سعد: ويْحكُم هي فُرصة مُترعة بالكَر ما دامَ مشغولاً بحُرمهِ، والله إنْ فرِغَ لكُم لا تمتاز ميمنة لكُم عن مَيْسرَة.
ـــ ابن هلال: رُعُب يَملَئ الخِيام وسِهام تَنفذ داكِنَة داخِلة، وتَحتدم الرَّشقات، لتُشك أزر النِّساء؛ فصِرنَ عيوناً تبرق بالحُزن ويَشتَد الأنين، والحُسين يَحمل في العُمقِ كليثٍ غَضبان يَكبُت النَّزف في الرُّوح، ويَهَب فوق الرِّماح أَوردَة تَزهر بالعِنفوان، وهو يُردد ـــ لا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله العلي العظيم ـــــ " ، ففي النَّص المُتقدِّم عمدَ الخَباز إلى توظيف أُسلوب التَّشبيه مع ترك الباب مفتوحاً للتصور، فهل للمُتلقي أن يصِف حال الإمام الحسين (عليه السلام) وموقفه (عليه السلام) لحظة الإعتداء على المُخيم الذي كان يكتنِف النِّساء والأطفال، مع الإِلتفات إلى عبارتي (يَكبت النَّزف في الرُّوح) وعبارة (يَهَب فوقَ الرِّماح أَورِدَة تَزهَر بالعِنفُوان) هاتين العبارتين اللَّتين لحقتا الصورة التشبيهيَّة (كليث غضبان)؛ لتكونا بُؤرة ارتكازيَّة تُشكِل عن طريقها السِّياق العاطفي تَضامُناً مع السِّياق اللِّفظي؛ ليمنحَا التَّصور تَكثيفاً مَعنوياً وتأثيراً نفسياً أَعطَى النَّص عُمقاً دلالياً بما يتناسب والمقام؛ وهذا العُمق الدِّلالي يُؤكد ويُدلل على عُمق وعي الأديب في إنتاج هذه الصورة، وقُدرته على استثمار التَّرابط والتداخل الإشاري لمجموع الأحداث الأخيرة التي عاشها الإمام الحسين (عليه السلام) ما بين حماية مُخيمات النِّساء والأطفال، ومُواجهة آلاف الأعداء وحيداً؛ فإن كان بالإمكان تصور أو وصف(حاله وموقفه الغاضِب ممَّن تَجردوا من الإنسانيَّة) فإنَّ عبارة (يكبت النَّزف في الرِّوح) بما تَحمله من معنى(الألم الروحي) تأخُذ عُمقاً تَصويرياً آخر، هذا العُمق يَمتد بامتداد جهل عُمر بن سعد ومن معه بإمام زمانهم الإمام الحسين (عليه السلام) وعيال رسول السَّماء (صلَّى الله عليه وآله وسلم) من النِّساء والأطفال الذين كانوا في الخِيام يَعانون الألم والحُزن فضلاً عن الرُّعب الذي بثَّه الأعداء، وأقسى مراتِب الحِرمان المُتجسد بمنع الماء عنهم.
ومن التَّشبيهات الأخر التي اعتمدها الأديب الخباز في بناء نصهِ ما جاء في وصفه وتصويره لمشهد نزول علي الأكبر (عليه السلام) لمُواجهة الأعداء ووداعه للإمام الحسين (عليه السلام) إذ يقول في وصفه:
"ـــــــ الحُسين: وا غوثاه ما أَسرع المُلتقَى بجدِك؛ فيسقيك بكفهِ شُربَة لا تضمأ بعدها أبداً.
ـــ واحد من الأعداء: أوَّاه كأنَّه علي بن أبي طالب عادَ في بحر الحَرب.
نافع: إِشهَد أنَّي رأَيته وقَد مَحَى بسَيفهِ مائتي ظل من ظَلال.
مرَّة بن مُنقذ العَبدي: علي آثام العرب إن لم أَثكل به أباه.
... ـــ علي الأَكبر: عليكَ منِّي السلام يا أَبا عبد الله.
ــــ الحُسين: على الدُّنيا بعدَك العفا " .
يظهر من النَّص أَعلاه أنَّ الخباز وظف (الكاف) أداة في بنائه للصورة التَّشبيهيَّة؛ لإدراكه بأنَّ(الكاف) تعتمد إذا كانت العلاقة بين طرفي التَّشبيه مُتكافئة ( )، وواضح أنَّ التكافؤ بين المشبه (علي الأكبر) والمُشبه به (الإمام علي) واقع تأويلياً للنَّص، ومُتحقق من ناحيَة التَّرابط التركيبي لطرفي التَّشبيه ممَّا أضفى شُحنَة دلاليَّة أَكسبت الصورة التشبيهيَّة تَوازناً يتناسب مع النَّص ضِمن تَسلسل الأحداث الدائرة حول الموضوع المركزي لنص كربلاء القلب.
يبدو ممَّا تقدّم أنَّ مستوى دلالة التشبيه في سيناريو (كربلاء القلب) أضفى خصيصة أسلوبيَّة، فالخباز يلتقط الصورة التَّشبيهيَّة على شكل لوحة لها أبعاد مُوحيَّة تُغني عن التعبير.
ثالثاً: الكنايَّة
من أَساليب التَّصوير البياني: " أن تتكلّم بشيء, وتُريد غيره, وكنَّى عن الأمر بغيره يُكني كناية" ، هذا من الجانب اللُّغوي لها، ومفهوم أهل البيان لها " لفظ أطلق وأُريد به لازم معناه, مع جواز إرادة ذلك المعنى" ، وفي ضوء المَفهومين عند إِلتقاط المُنشئ لمشهد تصويري عن طريق الكناية يلتفت إِلى إِيجاد تَوازن بين المعنى في اللُّغة وبين آثار المعنى في الصورة الكنائيَّة( )؛ لأَنَّها كما قال الجرجاني (ت471هـ)
تعبير عمَّا يُريد المُتكلِّم إثباته لمعنى من المَعاني فلا يذكره باللَّفظ الموضوع له في اللُّغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيُومئ به إليه ويجعله دليلا عليه( ).
ومثال الصُّور الكنائيَّة التي تعاضدَت دلالتها في نص (كربلاء القلب) ما ورد في قول زُهَير: " ... يا أبناء العَمْ ويَا إخوَة الدَّم والهَمْ والطَريق ها أنا ذاهب إلى نُصرة سيد الشُّهداء الحُسين ... فمَنْ أحبَّ مِنْكُم نُصرَة ابن بنتِ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم) فَلينهَض مَعِي وإلَّا فهو آخر العَهد بيننا " ، يكشف هذا التركيب عن وعي مُنشئ النَّص لاختيار الألفاظ، وحُسن التَّوزيع على الرَّغم ممّا فيه من مُبالغة فإنَّ الأديب يسعى عن طريق الاستعانة بالبِناء الكنائي إلى تَحقيق مِزيَة فنيَّة, إذ بدأ بالنِّداء (يا أبناء العَم) ثمَّ كرره (يا إخوَة الدَّم)؛ ليُلفت ذهنيَّة المُتلقِي إِلى دِلالَة المَعنَى بطريقة تُؤدي إِلى إقباله، وشدِّ انتباهته، فلجَأ إلى الأسلوب الكنائي الذي يحدُو بالمُتلقي إلى التَّأمل لمعرفةِ المَعنى المُراد من توسل أُسلوب النِّداء في البناء التَّركيبي للنَّص المُتضمِن المَعنى الكنائي، وما يُرافقه من رغبةٍ في الإخبار، فالأَديب كنَّى عن (الأصحاب) بـ: (إِخوَة الدَّم) عن عمد؛ ليُوظِف الدِّلالة الكنائيَّة توظيفاً فكرياً نهضوياً، فالتوظيف الفكري يتحقق بحمل المُخاطب على التَّأمل بخاتمِة أُموره والمَصير الذي سيُؤول إليه حاله في النِّهاية؛ والتَّوظيف النَّهضوي يُولد الهِمَّة في نفس المُتلقي ومن ثمَّ يبث فيها روح المُجاهدة.
وجاء السيناريو حاملا لصورة كنائية في أثناء الحواريَّة التالية:
" ـــ ابن هلال: أَشهد أنِّي ما رأيتُ مكلوماً قطْ، وقد قُتِلَ ولده وأهل بيته وصحبه أَربطُ جأشاً، ولا أمضَى جناناً، ولا أجراً مقدماً، وقد كانت الرِجال تنكشر بين يديه إذا شدَّ فيها، ولم يثبُت له أَحد.
ـــ عُمر بن سعد: قِفُوا له هذا ابن الأَنزع البَطين، هذا ابن قتَّال العرب.
ـــ الحُسَين: يا شيعة آل أبي سُفيان إن لم يكن لكُم دين، وكُنتُم لا تَخافُون المَعاد فَكونُوا أحراراً في دُنياكم، وارجِعُوا إلى أحسابكُم إنْ كُنتُم عرباً كما تَزعمُون ".
يظهر للبحث أَنَّ عرض الصور الكنائيَّة في نص السيناريو (هذا ابن الأَنزع البَطين، هذا ابن قتَّال العَرب) على وفق هذه الطريقة جاء بقصديَّة فرضها التَّوظيف الدِّلالي الذي وفرَ للمُتلقِي فُرصَة لإقامة عَلاقة تأويليَّة بين الجُملة الكنائيَّة ومُناسبة القول( )، وهذه العلاقة التأويليَّة نلمسها من زخم المَعنَى الكِنائي الكامن وراء ألفاظه، وممَّا يلوح به المَعنى المُستتر من مُحرك ذهني، يجعل المُتلقي يتأمل للوصول إِلى المَعنى المقصود؛ فمُنشِئ النّص كنَّى عن الإِمام الحسين (عليه السلام) بصِّفات أبيه الإمام علي(عليه السلام) بأسلوب إشاري تضمنَ تكثيفاً دلالياً وازعه قصديَّة الإتيان بصِّفات الإمام علي (عليه السلام)؛ للكشف عن مُشابهة سيد الشُّهداء (عليه السلام) لسيد الوصيين (عليه السلام) في صولاته الشُّجاعة، ولقتلهما للخارجين عن الطاعة المفروضة لربِّ العالمين، وهذا ما أظهره أُسلوب الكناية عن موصوف الذي أَسهم بدوره في الإنتاج الدِّلالي.
وفي موضع آخر يُسهم الأسلوب الكنائي في بلورة الرؤيَة الدِّلاليَّة التي يعمد المُنشئ عن طريقه إلى خلق تفاعل بين المُتلقي والأبعاد التي تضمنتها الصورة الكنائيَّة في الموضع التالي:
" ـــ أُم وهَب: هنيئاً لكَ الجنَّة، أَسأل الله الذي رزقكَ إِيَّاها أنْ يتبعنّي معَك.
ـــ شِبث: يبدو أنَّ المشهد مُقرف عن الشِّمر عَجيب هؤلاء القَوم بلا قلوب تَعشق تُحب تَحنو أو تَلين يا لشِبث الذي هو أَنا كَم حَماقة في حقِّك اقترفت، والله جَريمة أنْ تَقرِن اسمَك يا شِبث بهذا الحَجَر الذي اسمه شِمر إسمعَه يا شبث إِسمعَه وهو يَأمر ويَصيح.
ـــ الشِّمر: رُستم إِضرب رأس هذه المرأة بالعَمُود ( صوت صراخ)".
كنى المُنشئ عن القسوة وعدم وجود الرَّحمة واللِّين في قلوب الذين قاتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: (هؤلاء القوم بلا قلوب)، وهنا يظهر للبحث أنَّ اختيار صيغة الجمع لمفردة (قلوب) نسج خيطاً جمعيّاً أسهم في إنتاج رؤيَة مفادها أَنَّ من أعدّ واستعدّ وقبل المُشاركة في قتل الإمام المفروض الطاعة لا يملك ذرَّة من الرّحمة، وهذا مفروغ منه فهو ممَّا لا يُحقَق؛ بسبب عجز هؤلاء القوم عن تفعيل الرَّحمة في دواخلهم ولو على المستوى الظاهري، وخير دليل ما صدر من أفعال تجاوزت الحدود الإنسانيَّة من ذبح الرَّضيع، وحرق الخيام، وتسليب الأطفال، وأسر النّساء، فضلاً عن قطع رؤوس القتلى، هذا ما أراد المُنشئ أن يستحضره في ذِهن المُتلقي عن طريق الصورة الكنائيَّة التي أسهمت في بلورة المنحى الدّلالي الذي أراد إيصاله إلى المُخاطب بمعيَّة استحضار دوره المُنتج وتفاعله وصولاً إلى تراكم المعنى المُتخفي وراء جملة (القوم بلا قلوب)، وما ينضح به ذلك التَخفي من مُحفز ذهني يدفع المُتلقي يتأمل برويّة ليعرف المقصود.
النتائج
بعد هذه الرحلة العلميَّة مع كربلاء القلب، توصل البحث إلى النتائج الآتية:
* الخيال الخصب للأديب علي الخباز ظهر جلياً في خلق تعبيرات ولَّدت مستويات حملت وظائف دلاليّة أنتجت بدورها فضاءً صورياً لمشاهد بلاغيَّة اكتنفت في طياتها الأساليب الاستعاريَّة، والتشبيهيَّة، والكنائيَّة التي جاء بها الأَديب مقصودة لذاتها، وهي بتداخلها في نص السيناريو حملت وظائف إيحائيَّة, إفهاميَّة، تنبيهيَّة, وعظيّة, تلج النّفس فترصد مواطن القوة والضَّعف فيها فتسلمها ناشدة التأثير, فضلاً عن تشكيل الصورة المُستوحاة من البيئة المحليَّة الخاصَّة بأصل الواقعة المُستوعبة للذات الفرديَّة والجمعيَّة.
* البناء البياني في نص الأَديب جاء مُراعياً لمستوى التلقي بشكلٍ عام، وبدهي أَنَّ المُتلقين ليسوا على مستوى واحد من الوعي والنُّضج، ولا يتوفر لجميعهم (الاستعداد الروحي)على الوجه الذي تُستعرض فيه مشاهد واقعة كربلاء وصورها، ومن هنا تبين للبحث أَنَّ تكثيف المجاز الاستعاري في (كربلاء القلب) لم يأتِ عفو الخاطر؛ مراعاةً لمستوى المُتلقين الذين آثر المُنشئ عدم إشغالهم بالتحليل المُعمَّق؛ وإِنَّما سعى إِلى جذبهم شعورياً ووجدانياً؛ لأَنَّ في ذلك مدعاة للتواصل مع حادثة كربلاء ومَشاهدها، وهذا حقاً ما كانت تتطلَّبه الواقعة من التصور الواضح الممزوج بالعاطفة.
* تأكد للبحث أَنَّ التصوير الاستعاري في (كربلاء القلب) كان أكثر حضوراً بقصديَّة من مُنشئ النَّص؛ لإشغال المُتلقي بتصور الواقعة بكلِّ أبعادها، والربط والإنتاج الصوري، فضلاً عن غايته في لفت انتباهة المُتلقي وشدِّه ذهنياً.
* انمازت الصور التشبيهيَّة في نص السيناريو بخصيصة اللامحدوديَّة ما أدّى إلى تحفيز ذهنيَّة المُتلقي؛ لإستيعاب أبعاد تلك الصور واستكشاف معالمها، وهذا بدهي؛ لأَنَّ طبيعة موضوعة أحداث ووقائع السيناريفوق تصورات عقل المُتلقي، وهذا ما يفسر لنا خروج الصور عن مفهوم الرتابة المعهودة.
* على الرَّغم من قلَّة الصور الكنائيَّة؛ إِلا أَنَّ حضورها أَضفى على السيناريو قيمة بنائية ممزوجة بمُسحة الإيحائيَّة البلاغيَّة المُحققة للتَّكثيف الدّلالي، وتأكد للبحث أَنَّ قيمة الكناية لم تكمُن في ذاتها بل في قيمة المعنى المُستتر خلف اللَّفظ المذكور.
المصادر
* الأسس النفسيَّة لأساليب البلاغة العربيَّة, د. مجيد عبد الحميد ناجي, المؤسسة الجامعية للدِّراسات والنشر والتوزيع, بيروت, لبنان, ط1, 1984م.
* الإسلام والأدب, د. محمود البستاني, المطبعة ستارة, قم, ط1, 1422هـ.ق.
* الأسلوب والأسلوبية، بيير جيرو، ت: منذر عياشي، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان.
* البلاغة العربيَّة- قراءة أخرى، د. محمَّد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، ط1، 1997م.
* البلاغة والأسلوبيَّة، د. محمَّد عبد المطلب، مطابع الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، 1984م.
* تحليل النَّص الشِّعري، محمَّد فتوح أحمد، النادي الأدبي الثقافي، جدّة، المملكة العربيَّة السعوديَّة، ط1، 1999م.
* تحولات النَّص- بحوث ومقالات في النقد الأدبي، د. إبراهيم خليل، منشورات وزارة الثقافة، عُمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، ط1 ، 1999م.
* خطب سيدات بيت النبوة حتى نهاية القرن الأَول الهجري، ــ دراسة موضوعيَّة فنيَّة ــ، زينب عبدالله كاظم، العتبة الحسينيَّة المُقدسة ــ قسم الشؤون الفكريَّة والثقافيَّة ــ، شُعبة الدِّراسات والبحوث الاسلاميَّة، ط1، 1438هــ ـــ 2017م.
* دلائل الإعجاز، علَّق على حواشيه: محمَّد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1978م.
* سيناريو كربلاء القلب
* علم الدِّلالة والمُعجم العربي، د. عبد القادر أبو شريفة وآخرون، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1989م.
* لسان العرب, جمال الدِّين أبو الفضل محمَّد بن مكرم بن منظور الأنصاري الأفريقي المصري (711هــ), ط1، دار صادر, بيروت، د.ت.
* المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الأثير، تح: كامل محمَّد عويضه، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1988م.
* مُعجم المُصطلحات الأدبيَّة المُعاصرة، د. سعيد علوش، دار الكتاب اللُّبناني، بيروت، وسوشبريس، الدار البيضاء، ط1، 1985م.
* النَّص والسُلطة والحقيقة- إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط4، 2000م.
* النَّقد والأسلوبية بين النظريَّة والتطبيق، عدنان بن ذريل، منشورات إِتحاد الكُتاب العرب، دمشق، 1989م.
الرسائل والأطاريح
* المُناجيات وأدعيَة الأيام عند الإمام زين العابدين(عليه السلام) ـــــ دراسة أسلوبيَّة ــــ، (رسالة ماجستير)، إدريـس طـارق حُـسـين، كليَّة التربيَّة-جامعة بابل, 1427هـ 2006م.
الدوريات
* أُسلوبيَّة السَّرد القَصَصَي- تيمور الحزين أُنموذجا(مقال)، د. ناهضة ستار عبيد، مجلَّة القادسية للعلوم الإنسانيَّة، كليَّة الآداب، جامعة القادسيَّة، ع1، مج7، 2004م.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat