الحقائق الفلسفية في أقوال الإمام علي
حيدر محمد الكعبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

إن الحقائق الفلسفية في أقوال الإمام علي (عليه السلام) تمتاز عن سائر الحقائق الواردة في علم الفلسفة من نواحٍ عدة، ومن كرامات أمير المؤمنين (عليه السلام) انه تحدث في هذا العلم وفق قواعد خاصة لا تُستمدّ من اليونان او غيرهم، فكانت له تعاليمه الفلسفية الخاصة التي تنهل قواعدها من الوحي المقدس، ونهج البلاغة وثيقة شاهدة على ذلك الى يومنا هذا.

الفلسفة ببساطة علم يوظف البديهيات العقلية لدراسة جزئيات الوجود للوصول الى معارف كلية تدلنا على ما يحكم هذا الكون من نظام وما يوصل اليه من غايات.

ويعد المفكرون الفلاسفة اليونانيون من اقدم واشهر من اصّل هذا العلم النفيس، وطورته الحضارات من بعدهم واستفادت منه، ولم يكن المسلمون استثناء من ذلك، فقد انتشر علم الفلسفة بين اوساطهم بعد ان راجت حركة ترجمة الكتب اليونانية الى العربية في العصر العباسي، ولكن قبل ذلك فان تداول هذا العلم بكيفياته المتعارفة كان مجهولا.

لذا فمن كرامات امير المؤمنين(عليه السلام) انه تحدث في هذا العلم وفق قواعد خاصة لا تُستمدّ من يونان او غيرهم، فكانت له تعاليمه الفلسفية الخاصة التي تنهل قواعدها من الوحي المقدس، ونهج البلاغة وثيقة شاهدة على ذلك الى يومنا هذا.

مميزات معارف الإمام الفلسفية

إن الحقائق الفلسفية في أقوال الإمام علي (عليه السلام) تمتاز عن سائر الحقائق الواردة في علم الفلسفة من نواحٍ عدة، نذكر منها ثلاث أساسية هي:

أولا: الصواب في الأفكار المطروحة في هذا المجال على طول الخط وتطابقها مع الفطرة الإنسانية بشكل تام، حيث لا نجد مفردة من المفردات العقلية الواردة في نهج البلاغة تتعارض مع أصل فكري أو مع الأفكار الأخرى المرتبطة بها أو القريبة منها، وإنما نجد أن المفاهيم العقلية الواردة في كلامه(عليه السلام) يصدّق بعضها بعضا ويدعم بعضها البعض الآخر وتسير على الصراط المستقيم، مع العلم بأن هذه الكلمات جاءت مبثوثة في خطب متعددة قالها(عليه السلام) في مناسبات مختلفة وأوقات متباعدة من الزمن.

ثانيا: في مضمار عرض المعلومات الفلسفية فان أقوال الإمام علي (عليه السلام) يتجه في اتجاهين رئيسين، الأول يتمثل في تقرير الحقائق العقلية، وهذه التقريرات – بالطريقة التي طرحت فيها- تهدي التفكير إلى الصراط المستقيم وتقوّمه للوصول إلى الحقيقة المرجوة دون لبس، أما الاتجاه الثاني فيتمثل في عرض الحقائق الإلهية مع أدلتها العقلية المتينة والكاملة.

ثالثا: إن بيان و أقوال الإمام علي للمعلومات العقلية جاء من خلال كلام فصيح عالي البلاغة، بحيث انه لا يخاطب فيه العقول فحسب، وإنما يخاطب الوجدان أيضا، إذ أن كلماته القدسية تطرق القلوب قبل الأذهان وتناغم الفطرة قبل المدارك العقلية ــ الفلسفية ــ ولا يخفى ما لهذا الأسلوب الراقي من تأثير في المتلقي لبلوغ المطلوب.

إن الغاية الأساسية من بيان الحقائق العقلية هي رفد الإيمان بالله تعالى وتوسيع المعرفة بصفاته عز وجل، وردّ الشبهات التي ترد على هذا الأصل الإسلامي المهم، وهذه الغاية لا تتحقق بإثبات الحقائق للعقل فقط دون أن يكون لها تأثير على القلب، لان موطن الإيمان الذي يتجذّر فيه هو القلب، وتراكم المعارف العلمية في العقل وحده لا يفي بالغرض، بل ربما كان الحرص على تلقي المعارف العقلية مع إهمال الجانب القلبي نتائج عكسية، حيث تشكل تلك العلوم حجبا كبيرة تمنع الإنسان من بلوغ الغاية المطلوبة ــ وهو الإيمان القلبي ــ لذلك نجد أن الكثير من المسلمين الذين خاضوا لجج العلوم العقلية وأهملوا الجانب القلبي، لم يستفيدوا من الفلسفة إلا مزيدا من الشكوك في أصول عقائدهم وتفاقم الأوهام في عرى إيمانهم.

نبذة من المعارف الفلسفية لأمير المؤمنين

وفي هذا المجال نورد جانبا من خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة تتناول جانبا من الحقائق العقلية حيث قال: (مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَلَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَلَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ، كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ، فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ، مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ، لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَلَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ، سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ وَالِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ، بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ، ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ، مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ، وَلَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَإِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وَتُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا، مَنَعَتْهَا «مُنْذُ» الْقِدْمَيّةَ وَحَمَتْهَا «قَدُ» الْأَزَلِيَّةَ وَجَنَّبَتْهَا «لَوْلَا» التَّكْمِلَةَ، بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ؟ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَلَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ، وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ)( نهج البلاغة 2: 121).

ففي المقطع الأول من هذه الخطبة المباركة إلى قوله: (مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا) يقرر(عليه السلام) المعارف المتعلقة بصفات الله سبحانه وبأفعاله تقريرا، فمثلا في قوله: (كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ) يطلق(عليه السلام) قاعدة فلسفية مؤدّاها: أن كل شيء إذا عُرف بنفسه ولم يُعرف بآثاره فهو مخلوق، لأنه لا يمكن للشيء المعروف بنفسه إلا أن يكون محدودا تحيط به المعرفة وتشخّصه، والمحدود دائما يفتقر إلى غيره ومن ثم فهو ليس بخالق وإنما مخلوق(مَصْنُوعٌ).

فإن قيل: أن بعض المخلوقات لا تعرف بنفسها وإنما تُعرف بآثارها ــ كالجاذبية مثلاــ قلنا إن الإمام(عليه السلام) يستدرك هذا النوع من المخلوقات بقوله مباشرة: (وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ) إذ أن الجاذبية وما شابهها من الأعراض وإن كانت لا تُعرف بذاتها ولكنها تعتمد في وجودها على غيرها -إذ لولا وجود الاجسام لم تكن هنالك جاذبية مثلا- وهذا واضح فيه أن هذا الموجود غير قائم بذاته، وإنما هو قائم بغيره(قَائِمٍ فِي سِوَاهُ) وبالتالي فهو مخلوق(مَعْلُولٌ).

ومن خلال هاتين الحقيقتين العقليتين، نعرف أن الباري عز وجل منزّه عن أن يعرف من خلال معرفة كنه ذاته، وانه تعالى قائم بذاته مستغنٍ عمن سواه.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر محمد الكعبي

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/01/14



كتابة تعليق لموضوع : الحقائق الفلسفية في أقوال الإمام علي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net