صفحة الكاتب : ا . د . عبد الكريم أحمد عاصي المحمود

الحبكة القصصية في القرآن الكريم قصة يوسف (ع) أنموذجا
ا . د . عبد الكريم أحمد عاصي المحمود

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

   يمكن أن تكون قصة يوسف (ع) أنموذجاً ممتازاً لدراسة القصص القرآني ، إذ إنها جاءت في سورة خاصة تامة كاملة دون أن يتكرر ورودها في سورة أخرى بعكس ما جاء من قصص الأنبياء في القرآن , اذ تكرر ورود القصة الواحدة في أكثر من سورة مع اختلاف المغزى والجهة التي يراد ابرازها من القصة . ولذلك لايمكن أن نأخذ القصة كاملة بالاعتماد على سورة واحدة من القرآن الكريم إلا قصة يوسف التي نجد فيها مثالا طيباً لدراسة الحبكة القصصية في القرآن , تاركين دراسة العناصر الأخرى في هذه القصة اِلى بحوث لاحقة .

     يبدأ الصراع الخارجي في القصة بقول يعقوب (ع) لابنه يوسف : (يابني لاتقصص رؤياك على اخوتك فيكدوا لك كيداً إن الشيطان للانسان عدوّ مبين)، فهذا القول يكشف عن أن إخوة يوسف كانوا منطوين على الغيرة والحسد والكره ليوسف وهم بهذه  _ الأهواءالنفسية_ مستعدون لاستقبال اِيحاءات الشيطان ووسوساته لهم بالكيد والمكر بيوسف حتى لو أدى ذلك الى  ارتكاب الحد الأقصى من الجريمة وهو القتل . وهم بهذه الخصال يمثلون قوة الشر بمقابل قوة الخير المتمثلة بنبي لله يعقوب وابنه  الصدّيق عليهما السلام . ومن هنا يبدأ الصراع بين هاتين القوتين في القصة ، ثم يتنامى هذا الصراع ويتأزم الموقف اكثر فأكثر بقولهم :(اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضاً) ، انه التحدي السافر للقيم الانسانية المنبثقة عن مشاعر الاخوة بالنسبة ليوسف ومشاعر البنوة بالنسبة ليعقوب ، وهو تحدٍّ بعد ذلك لارادة الله وتعاليم السماء في احترام تلك القيم والحفاظ على اصولها في عمق المشاعر الانسانية الحقة .

   ان هذا التحدي المغذي للصراع في القصة ، يتفاقم ويتصاعد الى مرحلة خطيرة حين يتحول من جانبه النفسي كوساوس وآراء نظرية عند اخوة يوسف ، الى جانبه التطبيقي في الواقع الخارجي عندما ذهبوا بيوسف والقوه في غيابة الجبّ. ولكن الصراع لا ينتهي عن هذا الحد وان ظن اخوة يوسف بانهم قد حسموا الموقف لصالحهم اذ تخلصوا من خصمهم وأبعدوه عن طريقهم الى الابد ، وقد غابت عنهم حقيقة مهمة وهي ان هذا الطفل الصغير وراءه ارادة عظيمة هي ارادة الله الغالبة على المدى البعيد ، وان هذه الارادة ستجدد الصراع في جولات حتى تصل به الى نهايته المرسومة بانتصار قوة الخير وهزيمة قوة الشر وهكذا يتنامى الصراع مرة اخرى ويتفرع عنه مواقف درامية تعزز من حبكة القصة في صيرورتها لترصين الاعتقاد بالهيمنة الشاملة لارادة الله وغلبته على امره وهو يمد يد العون والانقاذ لذلك الانسان الطاهر الضعيف الذي تتقاذفه امواج الشر وتلقي به في أتون المصائب والآلام ، ويظل رغم ذلك مصراً على محالفة الخير والحق محسناً الى الناس وإن اساءوا اليه. لنتصور، كم عانى يوسف عليه السلام وهو ذو النفس الطاهرة والضمير المتيقظ والمشاعر المرهفة كم عانى من الآلام النفسية والجسدية وهو يبعد عن ابويه على يد اقرب الناس اليه وهم اخوته ، ثم وهو يلقى في غيابة الجبّ المظلم ، ثم وهو يباع في السوق بثمن بخس ،ثم وهو يراود عن نفسه من قبل انسانة احتضنته وربته وكان ينظر اليها بمثابة الأم التي فقدها ،ثم وهو يبقى في السجن دون ذنب ارتكبه ، ومع كل ذلك يظل هذا الانسان هو المحسن وهو المخلص وهو الصدّيق وهو المؤمن بالله وحكمه ، المتبع لتعاليم الانبياء بصبر لا ينفذ وعزيمة لا تُقهر .

   ان هذا التناقض بين قوى الخير وقوى الشر سواء على صعيد النفس الانسانية او على صعيد المجتمع ، هو مجال الصراع الاساس في هذه القصة ، وهذا الصراع الواسع يتضمن انواعا متعددة ، منها صراع البطل يوسف (ع) مع الشخصيات الاخرى في القصة كأخوته , وامرأة العزيز ونسوة المدينة , وصراعه ضد الظروف والاحوال السيئة التي ألمت به كإلقائه في الجبّ وبيعه رقيقاً وابعاده عن أهله ووطنه وادخاله السجن , وصراعه ضد نوازع الهوى في النفس الانسانية بكبح شهوة الانتقام ضد اخوته وشهوة الجنس مع امرأة العزيز . 

   ان هذا الصراع المتنوع في قصة يوسف يمكن استخلاصه من المواقف الدرامية المتعددة التي حفلت بها القصة , ومنها موقف الاخوة وهم يأتمرون بيوسف ليقتلوه او يبعدوه, وموقفهم وهم يخادعون اباهم ويكذبون عليه , وموقفهم وهم يلقون يوسف في غيابه الجب , وموقفهم وهم يصطنعون البكاء والتفجع على يوسف امام ابيهم , ثم في موقف يعقوب وهو يصطدم بقسوة ابنائه واصرارهم على ايذائه وهو مع ذلك يلتزم الصبر والاستعانة بالله , ثم في موقف يوسف وهو يباع رقيقاً بثمنِ بخس , وموقفه مع امرأة العزيز وهما في الخلوة وموقفه مع زوجها وقد اتهمه بالسوء , وموقفه وهو يقاد الى السجن دون ذنب , ثم في موقف امرأة العزيز وهي تعترف بذنبها وتقرّ ببراءة يوسف , ثم في موقف اخوة يوسف وهم يُتهمون بالسرقة وموقف ابيهم وقد خسر ابنه الثاني واستبد به الحزن والاسف على ولديه , وموقف يوسف وهو يكشف عن شخصه لأخوته ويفتح قلبه لقبولهم ومسامحتهم بعد كل ما فعلوه من سوء , وموقف يعقوب وهو يتلقى قميص يوسف بوجهه فيرتد بصيراً , وموقفه وهو يستغفر لأبنائه بعد كل ما واجهوه به من عقوق , وموقفه وهو يرى ابنه يوسف منتصراً شامخاً بعد كل ما واجهه من محن .

   إن كل هذه المواقف الدرامية تثير ألواناً من الصراع في نفوس الشخصيات , يتحدد كل لون منها بطبيعة الشخصية واخلاقها وأهدافها وان كل هذه الالوان من الصراع في قصة يوسف تتوحد في أنها صراع بين نوازع الخير ونوازع الشرّ في النفس البشرية , فحتى الصراع الخارجي بين الشخصيات يعود في عمقه وحقيقته الى صراع داخلي بين تلك النوازع المتضاربة في النفس . اذ نلاحظ ان بعض الشخصيات التي كانت تعد في معسكر الشر أصبحت تعد في معسكر الخير بعد تغير في مواقفها ناتج عن تغير في نوازعها الداخلية كالشعور بالذنب والندم عليه والتراجع عنه , مما يعني ان هذه الشخصية تصحو من غفوتها وتنحوا منحا جديداً في سلوكها ، وهذا التغير في الموقف نشهده لدى امرأة العزيز وهي تعلن اعترافها بالذنب وبراءة يوسف واستغفارها المضمّن في قولها :(ان ربي غفور رحيم) . ونشهد هذا التغير ايضاً في موقف اخوة يوسف وهم يعترفون بذنبهم امام ابيهم ويطلبون استغفاره لهم بقولهم :(يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين). ان هذا التبدل في موقف امرأة العزيز واخوة يوسف يكشف عن تبدل نوازعهم الداخلية بعد صراع تنتصر فيه قوة الخير على قوة الشر في نفوسهم . وبهذا يمكننا ان نقسم الشخصيات في قصة يوسف الى نوعين رئيسين هما : الشخصيات الثابتة ، وابرزها يعقوب ويوسف ، والشخصيات القلقة المتغيرة وابرزها امرأة العزيز واخوة يوسف . ان الصراع في قصة يوسف يبلغ ذروته حين تظهر الشخصيات القلقة بمظهر المنتصر الظافر، وتظل الشخصيات الثابتة – وعلى الاخص شخصية يوسف – في حالة يكتنفها الغموض والابهام والترقب لما يأتي به الغيب . ثم تأتي نهاية الصراع وحل العقدة عندما ينكشف زيف الشخصيات القلقة وتراجعها عن مواقفها امام قوة البطل وثباته على موقفه الحق .

   ان الحبكة في قصة يوسف تختلف عن الحبكة في قصة عادية يكتبها احد القصاصين ، فما تعارف عليه كتاب القصة من عقدة وصراع ناشيء عن العقدة وحل ناشيء عن الصراع لا يلتزم به القرآن الكريم في هذه القصة ، فهو يضع هنا نوعاً جديداً من القصص هو اروع في اسلوبه مما تنتجه اقلام الفنانين رغم انه يتجاوز ما تعارفوا عليه من وحدات الزمان والمكان والمصادفة ، إلا انه لا يخلو من عنصر التشويق والمتعة بالاضافة الى الفائدة والموعظة .        


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ا . د . عبد الكريم أحمد عاصي المحمود
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/10/22



كتابة تعليق لموضوع : الحبكة القصصية في القرآن الكريم قصة يوسف (ع) أنموذجا
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net