البعد الروحي للاحرام – التتمة ح 5 لبيك كاشف الكرب العظام لبيك"
السيد عبد الستار الجابري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد عبد الستار الجابري

ذكرت للكشف استعمالات عديدة في اللغة العربية يجمعها - الرفع والازالة والاظهار - فعندما يقال كشف الامر يعني ازال ما اكتنفه من خفاء وغموض.
وذكر للكرب عدة معان ايضاً ويدل عليها سياق الكلام، فعندما يقال كرب الارض اي قلبها وحرثها، وكرب الدلو اي جعل كربا لها اي حبلا يشد في وسط خشبة الدلو، كرب فلانا كربا اي زرع الكريب ،والكرب الجزء الواسع من السعف الرابط بينها وبين بدن النخلة، وكربه الغم اي اشتد عليه واحزنه، كربته المشاكل صعبت عليه، كرب يفعل كذا اي قارب ان يفعل كذا كما يقال كربت الشمس تغيب اي دنت وقاربت من الغياب، وكرب الحبل فتله، والكرب جمعه كروب الحزن والغم ياخذ بالنفس، الكربة الغمة حزن ياخذ بالنفس.
ومن سياق مقطع التلبية يتضح ان المراد من الكرب جمع لكربة وهي الامر المحزن الموجب للهم والغم الاخذ بالنفس.
وفي هذا المقطع تأكيد من الناسك على شكر العناية والرعاية الإلهية للعبد في دائرة التقدير، فان العبد بعد ان يتعرض للكرب والحزن الشديد ويواجه المصائب العظام والمصاعب الجسام يتلطف الله تبارك وتعالى عليه بالفرج واليسر.
وحيث ان كل ما يتعرض له الانسان في مواضع الرخاء والشدة امور مقدرة سواء بالتقدير المطلق او المعلق، فان كشف تلك الكرب يتحقق بلطف الهي وحكمة ربانية.
ومن يستعرض بعض الاحداث والوقائع التي اشار اليها القران الكريم يكتشف ان مسالة البلاء والاختبار من الامور السارية والثابتة التي لا يشوبها شك في حياة الانسان، ويتساوى في ذلك الصالحون وغيرهم.
فنوح (عليه السلام) تعرض لانواع الكرب والابتلاءات على مر تسعمائة وخمسين عاما امضاها في الدعوة الى الله، ولما لم يجد طريقا لهداية الناس وانهم غلبت عليهم الشقوة ولم يعد فيهم امل دعا عليهم واستنصر ربه:﴿كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر* فدعا ربه اني مغلوب فانتصر﴾
فالنص القراني يشير الى ان قوم نوح (عليه السلام) نهوه عن الدعوة الى الله تعالى واتهموه بالجنون ايغالا في المنع من اتباعه وشن حرب نفسية ضده، بل الآية صريحة في حجم الايذاء الذي كان يتعرض له نوح (عليه السلام) حتى قال ﴿اني مغلوب﴾ فالمسالة لم تقف عند رميه بالجنون بل ان كلمة (ازدجر) تدل على استعمالهم اساليب جائرة لإسكاته ومنعه عن القيام بواجبه الالهي، وبعد حياة مليئة بالصراع امتدت لمئات السنين بلغ فيها الكرب والبلاء اقصى درجاته دعا (عليه السلام) ربه ان ينتصر له وان يفت في عضد الكافرين، فكشف الله عن عبده الصالح الكرب وطهر الارض من دنس المشركين فأقام نوح (عليه السلام) دولة التوحيد في الارض بعد انتهاء الطوفان.
ومثال قرآني آخر سطرته الآيات التي تحدثت عن يونس (عليه السلام) وعن القرية التي بعثه الله اليها، حيث انه لما احس انهم معذبون غادرهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم، الا انهم ادركوا شدة الخطر الذي اصبح يتهددهم بعد ان تركهم يونس (عليه السلام)، مما يكشف انهم كانوا يعلمون ان يونس (عليه السلام) كان يريد لهم الخير الا ان خبث سرائرهم كان يمنعهم من الاستجابة له، فلما تركهم يونس (عليه السلام) بعد ان اخبرهم ان هلاكهم بعد ايام قلائل وهم يعلمون صدقه بادروا الى التوبة الصادقة فنجاهم الله تعالى من العذاب، وشاء الله تعالى ان يبتلي يونس (عليه السلام) ليريه ويري العالم الانساني قدرته وعظمته فما ان استقل السفينة حتى تعرض اليها حوت وهدد الخطر حياة كل من فيها فأجريت قرعة لغرض القاء احد الركاب في البحر ليكون طعاما لذلك الحوت كي ينجو بقية الركاب، فخرجت القرعة على يونس (عليه السلام) فالقوه في الماء والتقمه الحوت على اعين الناظرين، ومما لا شك فيه ان قوم يونس (عليه السلام) اخذوا يبحثون عنه وسمعوا انه اصبح طعاما للحوت، الا ان يد التقدير الالهي كانت تدير الامر بنحو مختلف اذ لم يكن يونس (عليه السلام) طعاما لذلك الحوت فسلمه الله تعالى بقدرة اعجازية في وقت لم يغفل يونس (عليه السلام) عن ذكر ربه فكان يردد ﴿لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين﴾ فجاءت الاستجابة من الله تعالى ﴿فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين﴾ فالكرب العظيم الذي احاط بيونس (عليه السلام) واهل نينوى ما كان بمقدور احد ان يكشفه الا الله تبارك وتعالى.
ومثال اخر قصة بني اسرائيل عند البحر بعد ان تبعهم فرعون وجنوده فلم يكن لهم ملجأ الا الله تعالى، فالبحر امامهم وجيش فرعون خلفهم وكلاهما من شانه ان يهلكهم، فهذا فيه يغرقون وهؤلاء لارواحهم يزهقون، فبلغ بهم الخوف والرعب والحزن اقصى درجاته اذ هم امام موت محقق فالتفتوا الى موسى (عليه السلام) الذي كان تجسيدا للثقة مطلقة بالله تبارك اسمه فقال ﴿ان معي ربي سيهدين﴾ فما هي الا كلمح البصر حتى اتاه امر الله بان يضرب بعصاه البحر فانفلق كل فرق كالطود العظيم.
ويضيف القران لنا حديثا اخر وهو يوم الاحزاب الذي يصف الله تعالى وضع المسلمين فيه ببلوغ القلوب الحناجر اشارة الى شدة الكرب وعظيم البلاء، فعشرن الفا من المشركين على الطرف الثاني من الخندق لا يريدون الا القضاء على المسلمين، واليهود نقضوا عهدهم مع النبي (صلى الله عليه واله) واصبحوا يتحينون الفرصة ان تعبر قريش الخندق فيلتفوا على المسلمين من وراء ظهرهم، وعبر عمرو بن عبد ود الخندق فقتله امير المؤمنين (عليه السلام) فكان هذا اول الفتح، ثم ارسل الله تعالى الظلمة والريح وادخل عليهم الملل والضجر بعد طول حصار لم يعتد العرب عليه ونقص في المؤن فتركوا الحصار وعادوا ادرجاهم وقد اخزاهم الله تعالى.
فهذه نماذج عن التقدير الذي عبر عنه القران الكريم بالابتلاء في بعض الايات الشريفة للكشف عن بعض الحقائق من خلال ذلك الاختبار، وليس ذلك الكشف متعلق بالله تعالى كيف وهو علام الغيوب والذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور، بل ليكون كل امرئ على بصيرة من امره وليطلع كل شخص على خبايا نفسه ويكشف الله تعالى للجميع قوانين الابتلاء وحقائق الناس.
قال تبارك وتعالى ﴿احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا امنا وهم لا يفتنون﴾ وقال عز اسمه ﴿ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين امنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب﴾ وقوله تعالى ﴿ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعملن الكاذبين﴾ وقوله تعالى ﴿ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين امنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين﴾ وقوله تبارك شانه ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين﴾
فهذا المجموع وغيره من الايات الشريفة كاشف عن ان ما يمر به الانسان من ضيق ومحن كله قد دون في لوح التقدير وان الانسان يختار طريق الفلاح او طريق الضلالة، واما كشف الكرب فهو بيده تبارك وتعالى وقد وعد بذلك حيث قال في محكم كتابه:﴿فان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا﴾ وقال ايضا:﴿وهو الذي يسيركم في البحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين* فلما انجاهم اذا هم يبغون في الارض بغير الحق ياايها الناس انما بغيكم على انفسكم متاع الحياة الدنيا ثم الينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون﴾
فالناسك وهو يردد هذا المقطع من التلبية مجيبا دعوة الله لأداء النسك مقراً له باللطف والكرم واسباغ النعم وكشف الكروب التي لا يطيق حملها، فهو من جهة مقر بكرم الله تعالى ومن جهة اخرى مقر لله بالعجز ومن جهة ثالثة مقر بقيومية الله تعالى على خلقه ومعترف له بالعبودية وان كل شيء من الله وبيد الله والى الله فهو الواحد الاحد الفعال لما يريد ليحقق بذلك ما يعبر عنه المتكلمون بالتوحيد الافعالي فلا فاعل على وجه الاستقلال التام في هذا الوجود الا الله تبارك وتعالى.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat