بِهم تُبنى الحضاراتُ وتَزدهرُ المجتمعاتُ، ومن خلالِ سواعِدهم تُقادُ عَجلةُ التغييرِ لِصُنعِ المستقبلِ المشرقِ بألوانِ التضحياتِ، هم عُنوانُ الصمودِ وأيقونةُ الثبات، وحلمُ الأوطانِ قبلَ الآباءِ والأُمّهات.
إنّهم الشبابُ، من نَسمو بِهمّتِهم ونُحقِّقُ النصرَ بِبَسالتِهم، ونُسطِّرُ ملاحمَ المجدِ في سِفرِ التاريخ بشذا بطولاتِهم، ونصدرُ للأجيالِ العبرَ والدروسَ من سِجلِ حياتهِم.
ولا ريبَ أنَّ كُلَّ شابٍ مؤمنٍ انبرى لِنُصرةِ الحقِّ وأهلهِ، وتفانى في سبيلِ تحقيقِ هدفِه، لهُ في كربلاءَ أسوة، وفي شبابِها المِعطاء أعظمُ قُدوة، فما نَضَبَ مَعينُ الاقترابِ من ساحِلِ جُودِهِم يومًا عن العَطاء، وما جَفَّتْ ينابيعُ البَذلِ إنْ كانوا همُ المصدرَ والرّواء، وما تَقَطَعَتْ عُرى العُروجِ إنْ كانوا همُ المثلَ لمن يَرومُ السموَ والارتقاء.
وأمثولةُ كُلِّ شابٍ أَبيّ، وقدوةُ كُلِّ حُرٍّ كَمِيّ، هو ذلكَ الطودُ الأَشَمّ، شبيهُ الرسولِ المُعظّم (صلى الله عليه وآله)، عليٌّ الأكبر (عليه السلام).
فرعٌ من الدوحةِ النبويّة، تلوحُ على أساريرِه أنوارُ الفضيلة، ويُنبئُ مُحياه عن عَراقةِ المنبعِ وكرمِ المَحْتِد، يحملُ عَبقَ النبوةِ، ويَتَلَفعُ بخِصالِ المُصطفى الأمجد، يَحكي في هَديهِ تاريخَ أجدادهِ ضراغمةِ آلِ أبي طالب، وفخرِ الأُباةِ أهلِ المناقِب، يرفلُ في ساحةِ المَجدِ بأبرادِ الفضائلِ وحُلَلِ المآثر، ويُطرِّزُ اسمَه في سِفرِ التضحياتِ كأروعِ ثائر، قَدَّمَ دَمَه وزهرةَ شبابِه في يومِ العاشر؛ ليُرسِلَ رسائلَ النورِ لمن أرادَ الهدايةَ، ويبعثَ بريدَ البصيرةِ لمن أظلَّه الباطلُ واشتبكتْ أمامَ عينيهِ طرقُ الغواية.
في سيرتهِ العطِرةِ وحياتهِ المُنَوّرَة، دروسٌ وعطاءاتٌ ثَرّة، يَجدرُ بنا التوقُّفُ عندها، والنهلُ من نَميرِها؛ علّنا نَحظى بألطافِ عنايتهِ، ونحنُ نُحيي ذكرى ولادتِه:
• إنَّ تلك الأسِنّةَ المُشرعةَ، والسيوفَ المشحوذةَ، والعصبةَ الغادرةَ التي اجتمعتْ في صحراءِ الطفِّ لاستئصالِ شأفةِ آلِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله) ومحوِ الإسلامِ ورسالتِه، لم تكُنْ لتُرعبه وهو في حداثةِ سنّهِ، أو تزلزلَ أقدامَهُ وهو في ريعانِ شبابهِ؛ فمتى قويَ الإيمانُ وتطهّرتِ النفسُ من الرذائلِ، هامَتْ في سماءِ القُربِ من المولى (عز وجل)، ولم يَعُدْ شيءٌ يُبهِرُها، أو يحولُ عن رضوانِهِ (سبحانه) نظرَها، فأينَ الملكُ من الملكوت؟!
وأينَ الفناءُ من البقاء؟!
وأينَ النعيمُ المُقيمُ من الملكِ الزائل؟!
وأينَ لذةُ الوصالِ من كُلِّ ما في الدنيا؟!
وهذا ما ينبغي لكُلِّ الشبابِ اليومَ الاهتمامُ به، فكُلّما جاهدوا في تزكيةِ أنفسِهم، وتَنَسّموا عبيرَ الحُبِّ لخالقِهم، هانتِ الدُنيا بِرُمَّتها في أعينِهِم، وتحطّمتْ أحلامُ الأعداءِ في إضلالِهِم، وتهاوتْ أُمنياتُهم عندَ عَتبةِ وعي الشبابِ وصدقِ التزامهِم.
• إنَّ الكلمةَ التي قالَها الأكبرُ عندما استرجعَ والدُه في رحلةِ الشهادةِ المقدسةِ، ستبقى لكُلِّ الأجيالِ أعظمَ شعارٍ وأكبرَ مدرسةٍ:
"... واللهِ لا نُبالي أوقَعنا على الموتِ، أو وقعَ الموتُ علينا"!
هي على قصرِها كنزٌ لمن أراد، وذَخيرةٌ لمن استزاد، فهنيئًا لمن تأَمَّلها واستزادَ من نفحاتِها، ثم انطلقَ بالزخمِ الحاصلِ عبرَ التأمُّلِ لصنعِ الحاضرِ والمستقبل، بصورةٍ تُرضي المولى (عزّ وجل).
• الأدبُ في التعامُلِ مع الأب:
وهذا ما نلمحُه في حوارهِ مع أبيه، وهو ما قد يَغفلُ عنه بعضُ الشبابِ في تعامُلهِم مع آبائهِم، لا سيما إنْ كانَ الأبُ حنونًا طيّبًا معهم، فالأكبرُ (عليه السلام) يُعَلَّمُ الشبابَ المؤمنَ درسًا في تقديسِ الآباءِ واحترامِهِم، والتأدُّبِ في مَحضرهِم.
• رفضُ الدُنيا وأمانِها الزائف:
فقد عَرَضَ عليهِ أحدُ المغرورينَ الأمان، على شرط أنْ يتركَ إمامَ زمانِه وحيدًا في الميدان، إلا أنَّ ربيبَ الرسالةِ وسليلَ الوحي أجابَهُ بمنطقِ القرآن، لم يقلْ: إنّه أبي وَعَلَيَّ البقاءُ معه، وإنّما كانَ جوابُهُ جوابَ المؤمنِ بالرسالةِ وحفظِ قربى الرسول: "ويلك، لقرابةُ رسولِ اللّه أحقُّ أنْ تُرعى"!
وهُنا درسٌ عظيمٌ يُرسلُه الأكبرُ مُضَمّخًا بعَبيرِ التضحياتِ لكُلِّ شاب: إيّاكَ أنْ تخضعَ لغيرِ ربِّك، أو ترضى بأمانٍ زائفٍ يُمَنّيكَ به عدوُّك، أو تبيعَ مبادئك لقاءَ حفنةٍ من مال، أو شيءٍ من حُطامٍ فانٍ أو مُلكٍ مآلهُ إلى زَوال.
• التقدُّمُ نحوَ الهدف:
فالأكبرُ (عليه السلام) أولُ من تقدّمَ إلى ميدانِ الشهادة، وأرسلَ عبرَ بَدَنِه الموّزَعِ بالسهامِ المُجلّلِ بالنبالِ رسائلَ الكرامةِ والسعادة، ليقولَ لكُلِّ الشبابِ: تقدّموا عندما تكونُ القضيةُ إسلامية، ولا تتوانَوا عن الفداءِ والتضحية، وهذا ما وعاه شهداءُ حشدِنا بعد فتوى مرجعِنا المُفدّى، فاقتداؤهم بمولاهم جعلهم يتهافتونَ على المنايا، ليرسُموا بنجيعِ الدماءِ لوحةَ طفٍّ أخرى، عنوانُها: الاقتداءُ بسيّدِ الشهداء وأهلِ بيتِه النجباء.
وأخيرًا، ففي كُلِّ شَفَقٍ أحمرَ هُناكَ أَلَقٌ أزهر، يراهُ من فَتَحَ المنّانُ بَصيرتَه، وأنارَ بحُبّهِ ضميرَه، فيا سعدَ من كانَ هكذا، وطوبى لمن خُتِمَ له برضا إمامِ زمانِه، ونالَ وسامَ التكريمِ كما نالَه مولاه الأكبرُ من فمِ سيّدِه: "جزاكَ اللّهُ من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلدًا عن والدِه".
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat