يعد الزمن من العناصر الأساسية في النصوص الحكائية بشكل عام، فالشخصيات والأحداث لا تتحرك إلا ضمن إطار زمني لا بدّ منه، وإن فقدته الرواية توقفت وجمدت في سكون لا يمكن أن تستمر بعده؛ ذلك أنه يحاكي الذاكرة وحضورها في السرد وهو يتجول في أروقة الماضي، وينفتح على اشتراطات الحاضر بما فيه من ثوابت ومتغيرات، ويتنبأ بالمستقبل على وفق متبنيات الماضي والحاضر، وهنا تأتي أهميته بوصفه عنصرًا بنائيًا يؤثر في العناصر الأخرى وينعكس عليها، فهو حقيقة مجردة لا يمكن تلمسها إلا بتذوق ايقاعها واثبات وجودها في باقي أدوات النص الروائي أو القصصي.
إن هاتين التقنيتين اللتين سيتم تناولهما تشكلان رابطًا سلساً مع الذاكرة وحضورها بوصفها مفهوماً ينفتح على عدد من الأسئلة حين نخاطبها على أنها تقنيةً فنية ومادةً سردية ضاغطة على مجريات الأحداث بحضورها الحكائي الفاعل في العمل الإبداعي، إذ اثبتت بما تمتلك من مشروعية الدخول إلى حقل الخيال الفسيح قدرتها على إعادة صياغة النص وعلى وفق مشيئتها عن طريق الاسترجاع والاستباق، فإن موبسان يؤكد أن النقلات الزمنية في النص الروائي من أهم التقنيات التي يستطيع الكاتب عن طريق إتقانها والتحكم فيها أن يعطي للقارئ التوهم بالحقيقة.
يعني الاسترجاع كل تذكر لما حدث قبل اللحظة الزمنية التي وصل إليها الحكي(1) وهو وجه من وجوه الترتيب، ويتشكل بالقياس إلى الحكاية التي يندرج فيها، حين تتم العودة إلى ماضٍ لاحق لبداية الرواية والاسترجاع هو ترك الروائي مستوى القص الأول، ليعود إلى أحداث ماضية سابقة فيرويها في لحظة لاحقة لحدوثها، وهو تقنية فنية تتمثل في ايقاف السارد لمجرى تطور أحداثه ليعود لاستحضار أو استذكار أحداث ماضية(2) كما أنها تقنية سردية يتطلبها ترتيب القص في الرواية لربط حادثة بسلسلة من الحوادث السابقة المماثلة لها والتي لم تذكر، ويعود السارد إلى الوراء ليصاحب الشخصية مراعيا الالتحام بالنص، الأمر الذي ينجي النص من التفكك والتشتت(3) في مخالفة لسير السرد تقوم على عودة الراوي إلى حدث سابق كما إنه يسلط الضوء على ما فات من حياة الشخصية أو على ما وقع لها خلال غيابها عن السرد(4) .
إن اهتمام الروائيين بالماضي يدعونا لتساؤل مفاده هل هناك ضرورة جمالية ملحّة تقيد الإبداع السردي وتجره للنظر نحو الوراء بهذه الصورة وبهذه الأشكال المتعددة؟ وهل للأحداث من دلالات فكرية وتقنية لابدّ من نزوعها لتحريك لحظات وخطوات تواقة لمفاتحة جزء من حياة الشخصية وما يدور في فلكها وحولها من أحداث؟ أو أن تقليب الصفحات في الذاكرة له متعة العتق الذي يخلق إبصارًا جديدًا ودلالات متعددة تصب في كنه التجربة الجديدة للشخصية ؟
إن ما طرحناه من تساؤلات لا يمكن الإجابة عنها الا بكلمة (نعم) لما للاسترجاع من أهمية كبيرة في النص الروائي، لا بل أن له حكم إيقاف اللحظة السردية والعودة بالزمن للوراء ليكون محدِّثاً، مناقشًا، مستنتجًا أسبابًا ونتائج، وله نوعان:
أولًا: الاسترجاع الخارجي
وهو الاسترجاع الذي يقوم " باستعادة الأحداث التي تعود إلى ما قبل بداية الحكي"(5) كما يمكن أن يكون ذلك النوع"من الاسترجاع الذي يعالج أحداثًا تنتظم في سلسلة سردية تبدأ وتنتهي قبل نقطة البداية المفترضة للحكاية الأولى، إن (جينيت) يحدد وظيفة الاسترجاعات الخارجية الوحيدة بأنها: إكمال الحكاية الأولى عن طريق تنوير القارئ بخصوص هذه السابقة أو تلك وهو الأمر الذي سيسهم في فرض منطق زمني مخالف للمنطق الزمني التصاعدي غير أن هذا التحديد الذي قام به (جينيت) لوظيفة الاسترجاع يقيد الأهداف والدوافع ويحجم من أهمية تلك الالتفاتة للوراء، حيث أن افتراض (جينيت) لهذه الوظيفة أنها هي الوظيفة الوحيدة التي تجعل من الحكاية الأولى كلًا لا تمكن تجزئته أو تغييره مرحليًا وهو الأمر الذي يمكن انتفاؤه بالنظر إلى طريقة معالجة الاسترجاع الخارجي في القصة القصيرة"(6) فالقصة تهدف بالاسترجاع الخارجي" إثراء اللحظة القصصية بكل ما قد يكون سابقًا عليها بما يصنع رؤية رأسية غالبًا ما تبدو سكونية على الرغم من حركتها الظاهرة على مستوى التتابع السردي"(7) .
ثانيا: الاسترجاع الداخلي
هو الاسترجاع الذي " يستعيد أحداثًا وقعت ضمن زمن الحكاية أي بعد بدايتها، حيث يعود المؤلف الضمني إلى الأحداث والوقائع إما لسد ثغرات سردية فيها أو لتسليط ضوء على شخصية من الشخصيات أو للتذكير بحدث من الأحداث، وقد يتضمن الاسترجاع الداخلي ما ليس له صلة وثيقة بأحداث الحكاية أي غير المنتمي إليها، وما له صلة وثيقة بها أي المنتمي إليها سعيًا منه في الحالتين لتحقيق غاية فنية في بنية الحكاية"(8) .
كما يمكن أن ننظر إلى الاسترجاع الداخلي" بوصفه آلية زمنية تهدف إلى إعادة ترتيب أحداث يفترض ترابطها زمنيًا داخل نطاق الحكاية الزمني في صورة تخدم إستراتيجية السارد ووجهة النظر التي ينطلق منها(9).
وبهذا فإن الاسترجاع يقوم على إعادة التوهج وبث الحياة للنص السردي ويجعله حدثًا حاضرًا، فضلاً عن أنه يعين الشخصية التي تسرد على ترتيب أفكارها عن نفسها، أما فيما يخص الكاتب فهذه التقنية تتيح له ربط أحداث القصة إذا ما تداخلت مع "المخالفة الزمنية" عن طريق استرجاع الأحداث بأزمنتها الماضية والحاضرة والمتوقعة ويقصد بالمخالفة الزمنية "هي نظرة خاطفة تستشرف الأحداث التي تروى لاحقًا وقد تكون على شكل حلم أو تنبؤ أو افتراض متوقع بشأن حدث ما في المستقبل"(10) إن الرواية وفقًا لتقنية الاسترجاع تضعنا أمام نهايتها منذ البداية فيبدأ الزمن بالتراجع كاشفًا ملابسات وإشكالات وتوضيحات تثمر نتاجًا أفتتح به النص السردي .
أما تقنية الاستباق فقد عرفها جيرار جينيت "بأنها حركة سردية تقوم على أن يروى حدث لاحق أو يذكر مقدما"(11) فالاستباق وهو من تقنيات المفارقة الزمنية وهو استشراف أو إستعادة حين يرام إلى تقديم الأحداث اللاحقة والمتحققة حتمًا في امتداد بنية السرد الروائي على العكس من التوقع الذي قد يتحقق وقد لا يتحقق، فالتوقع يحافظ على بنية التشويق والمفاجأة وهو جار في مضمار الرواية الحديثة في حين أن الاستباق الذي يجيء عادة في بنية الرواية التقليدية يؤثر سلبًا على عنصري المفاجأة والتشويق الفنيين، حين يعلن الراوي التقليدي عن الأحداث اللاحقة قبل وقوعها(12).
صنف الاستباق السردي إلى عدة أنواع من بينها:
أولًا: الاستباق التمهيدي
يتمثل هذا النوع من الاستباق في " أحداث أو إشارات أو إيحاءات أولية يكشف عنها الراوي ليمهد لحدث سيأتي لاحقًا وبالتالي يعد الحدث أو الإشارة الأولية هي بمثابة استباق تمهيدي للحدث الآتي في السرد وتعد الرواية بضمير المتكلم هي الأنسب في الاستباقات التمهيدية كونها تتيح للراوي الفرصة بالتلميح إلى الآتي وهو يعلم ما وقع قبل وبعد.
وأهم ما يميز الاستباق التمهيدي هو اللايقينية بمعنى أنه يمكن استكمال الحدث الأولي وإتمامه أو يظل الحدث الأولي مجرد إشارات لم تكتمل زمنيًا في النص"(13) .
وهذا النوع من الاستباق يشكله الروائي "بصورة تدريجية حيث يبدأ بحدث استباقي تمهيدي ثم يتطور ويكبر لينتهي بحدث رئيسي لاحق"(14) .
ثانيا: الاستباق الإعلاني :
ففي مقابل الاستباق التمهيدي الذي يمهد للحدث اللاحق في شكل إشارات أو إيحاءات ضمنية
فإن هناك استباقًا اعلانيًا " يخبر صراحة في أحداث أو إشارات أو إيحاءات أولية عما سيأتي سرده
فيما بعد بصورة تفصيلية "(15) .
كما نجد (جيرار جنيت) يشير إلى أن " الإعلان قد يتخذ طابعًا ايجابيًا غير مصرح به وهذا ما
يدعوه (Amorce) أي بداءة وهو اعلان لا نحس به على أنه كذلك لأن السارد يلمح إلى
شخصية أو موقف أو حادثة دون أن يقول بأنها ستكون مستقبلًا ذات أثر أو إنها ستغير مجرى
الأحداث"(16) .
يرى (جيرار جنيت) إن الاستباق الإعلاني قد يكون إيجابي فلا يصرح به لأن السارد يلمح
خلاله الى شخصية معينة أو موقف أو حدث من الأحداث من دون ذكر أثرها في المستقبل .
ويمكن للاستباق الإعلاني أن " يضطلع بمهمة إخبارية حاسمة تطرح بشكل مباشر حدثًا سيجري
تفصيله فيما سيأتي غير قابل للنقص أو امتناع الحدوث "(17) .
تقنيتا الاسترجاع والاستباق في رواية (موت الأم)
عند الحديث عن رواية (موت الأم) للروائي حنون مجيد، ليس من نافلة القول مناقشة عنوان الرواية بل هو من أساسيات اشتغالنا النقدي، ذلك أنه سبق وأن خادعنا فنيًا في رواية أخرى له كانت بعنوان (مملكة البيت السعيد) حين أوهمنا عن طريق العنوان الذي يبث دالة وجود أسرة سعيدة تنعم بجو هادئ مليئ بالسعادة، في مخالفة لمضمون الرواية التي تبث اشتغالها لطرح ثيمة الفقد الأبوي وانعدام السقف الأسري المتوازن، وهو في روايته(موت الأم) قد سحبنا الى منطقة المخادعة الفنية المحببة مجددًا، ذلك أنه باطلاق قضية الفناء للأم كأنه يعلن انعدام الحياة فالأم هي الحياة وهي الدنيا الجميلة، وهي منبع الحب والحنان، وسر من أسرار الديمومة الأسرية التي يكاد دورها يتخطى أهمية دور الأب في المكون الأسري في بعض الأحيان، والأمر في هذه الرواية قد ادخلنا أيضاً في دائرة الوهم مرة أخرى، فعلى الرغم من حقيقة الموت البايولوجي الذي يكتنف الرواية والذي يعلنه الروائي ضمن تقنية الاستباق بافتتاح الرواية بحيثيات مأتم الأم كي يرجع بنا إلى ملابسات وكيفيات الأحداث التي أدت الى تلك الوفاة، وعن طريقها سوف يرسم لنا حيوات أسرة سعيدة وأيام جميلة تربط أفرادها قبل دخول ما يعكر صفو تلك الحياة .
ما يوصلنا إليه ربط العنوان بالمتن الروائي
1ـ الحب الذي يربط أفراد الأسرة من النوع الذي يكمله الموت ويقويه ولا ينهيه على الرغم من صبغة الحب الحزين التي تكتنف أجواء الرواية، فهو حب أشد من الألم، وأبلغ من الحكمة، وأعمق من المبدأ.
2ـ تحتل رواية(موت الأم) مكانها جنبًا الى جنب مع (مملكة البيت السعيد) من حيث الفقد والامتلاء الأسري.
3ـ تطغى الواقعية الحياتية على يوميات عائلة حاول عن طريقها الروائي الوصول إلى رمزية مدينة بإرثيها السياسي والقيمي .
الاستباق التمهيدي والإعلاني في الرواية
تتبنّى رواية (موت الأم) السير على وفق تقنية تعدد الرواة فقد افتتحت الرواية بصوت الابن (رأفت) وهو يحادثنا عن كيفية حدوث الموت لأمه والأيام الثلاثة للعزاء وما يكتنفها من طقوس يحاول أن يجسد فيها وجهات نظره أو موقفه المتعين خلافها في أكثر الأحيان وهو يحاور صديقه (خالد) الذي حضر مجلس العزاء بعد رجوعه من سفر دام خمسة وعشرون عامًا ليتبنّى خالدًا هو الآخر نتفًا من حديث يرسم لنا عن طريقه شخوصًا سكنوا المدينة وحيوات ليس لها إلا الذكرى التي ترجعه بصديقه نحو أيام الصبا، إن هذا الحوار أخذ مساحة كبيرة من الرواية وقدم لنا الاستباق بنوعيه عن طريق الحديث عن (المدينة الفائرة) ليتكون الاستباق التمهيدي الذي فيه يبث الصديقان ملابسات اعتقال صديقهم ماهر الذي كانت بحوزته مخطوطة أو دفترًا يحمل سرًا يخص تلك المدينة التي يطلق عليها بالفائرة، الأمر الذي يؤدي بخالد صديق رأفت للفرار إلى خارج البلد، إذ هو الصديق المقرب لماهر ذي المبادئ السامية والأهداف النبيلة، الذي يؤخذ فجرًا ليعود في فجرٍ لاحق جثة في باب بيته على يد رجال الأمن في بغداد، في إشارة الى الاعتقالات التي لحقت بالشباب المتفتح نحو الحرية والفكر المتجدد في الثمانينيات والتي شملت صنوف النشطاء السياسيين لا سيما الشيوعيون منهم والاسلاميون، بمن فيهم ماهر الاسلامي، ولو عدنا إلى الحوار الدائر بين ماهر وخالد في ص25 من الرواية لوجدنا أن هناك دلالة واضحة على اتجاه ماهر حين يعزو مبادىء الشيوعيين إلى أنها مستمدة من مبادىء الإسلاميين السماوية فيرد عليه خالد بما مفاده نحن نأخذها من الأرض وننشرها بين الناس.
إن أولى محاولات الاسترجاع في الرواية تأتي بانقطاع الحديث عن المدينة الفائرة نزوحًا نحو تصفح حيوات عقد الكرد ونسائه البيضاوات في بغداد وشارع الكفاح وما يتماس أو يتقاطع معه من شوارع ومحلات، وباب الشيخ وما يتبعه من أزقة تحولت في الوقت الحاضر إلى مكان لبيع الدراجات، وما يطرح من حوارات هنا ضمن استرجاع خارجي كانت غايته إبراز وعي الكاتب بإشكالية المكان خلال تقديمه للصور بطريقة تنم عن جدليات متعارضة، ومن ذلك مثلًا أنه يزيح اللثام عن عدم قناعته بأحد المعتقدات التي تحرم أكل نوعٍ من أنواع السمك متطرقًا إلى الموضوع بطريقة ساخرة.
إن الروائي حين يعلي من شأن المكان فإن الحدث دائمًا ما نجده في تضاؤل وهذا ليس بمعنى السلب، بل أن الكاتب له وعيه الخاص الذي يملي عليه بأنه غير معني بصياغة القصص والحكايات بقدر عنايته بإبراز الطابع الإشكالي لمجتمعه، بناسه وثقافته، ولذلك عند الحديث عن الطابع الفجائعي في الرواية بصورة عامة يلتمس الروائي دهشة خالد إزاء ما يشاهد من مشاهد دمار وتخريب لجماليات الأصالة المرتبطة بالمكان الذي يطرحه بطريقة فنية لها الأثر الأكبر على المتلقي وذلك حين يشعره ويجعله يستحضر المصائب كافة والآلام جميعها ضمن حساسية أدبية رفيعة تميز بها حنون مجيد الذي لم يتوقف عن التزامه الإنساني العميق وهو يتطرق إلى طروحات سياسية وايديولوجيات فجة عرضها بشكلها البسيط الذي يمس الحياة العادية، لتتضمن آرائه فيما يخص الخدمة في الجيش الشعبي ودفع المال ثمنًا للإعفاء من تلك الخدمة، وما يعتقده عبد الغفور فيما يخص الثورة الإيرانية وحيثياتها مع حزب تودة ورأيه بالحرب العراقية الإيرانية ودور أمريكا فيها، وكل ذلك كان يحيل الكاتب إلى المدرسة الواقعية وعلاقته بذلك الواقع وانعكاساته على ما يكتب؛ وذلك ما دفعه للكشف عن مستويات الرؤى وتأثيرات المكان من الجانب النفسي والمعيشي الذي يتجلى باصطحاب الأم لأبنائها إلى زيارة ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، وفي طرحه هذا كان عمله أقرب إلى الصيغة البنيوية التي تعنى بوصف العلاقات التي تربط بنى الشيء الداخلية وتواشجاتها المحايثة ضمن جغرافيا الأحياء الشعبية خلال توظيفها فنيًا وجماليًا، إن ذلك الاستباق التمهيدي عن المدينة الفائرة لا يتبعه الاستباق الإعلاني الذي تحدثنا عنه في بداية دراستنا إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية التي يظل الحديث خلالها مفتوحًا ما بين رأفت وصديقه خالد حتى يتبين لنا في النهاية أن المدينة الفائرة هي بغداد وما فار بها من أحداث على مرّ السنين، وربما سائل يسأل كيف للاستباق ان يقطن الصفحة الأخيرة في حين أنه يفترض به أن يكون هناك ما يقال بعده من كلام وليس قبله ولايضاح ذلك لا بدّ من تبيان أن التلميح بالمدينة الفائرة (بغداد) قد تم الأحساس به من لدن القارئ عد النظر إلى حيثيات التحولات الزمنية التي لازمت الرواية بابتدائها ما قبل انقلاب ثورة 1963 إلى ما بعد عقود من التقلبات التي اكتنفها كل ما يدعو للفوران السياسي والاجتماعي، ولم يكن ينقصنا سوى الاعتراف بها صراحة أي باسمها الصريح الذي أرجأه الروائي الى الصفحة الأخيرة لكي يتفرغ فنيًا للاسترجاع الخارجي عن طريق الخوض بطبيعة المدينة وشخوصها ومن ثم الاسترجاع الداخلي الذي سوف يستثمره للكشف عن حبه الجديد وكيفية نشوئه، وهنا يأخذ الاسترجاع بالبطئ نوعا ما وكأن السارد قد وجد طريقه الصحيح بعد إجمال الأحداث والتسريع بها في بداية الرواية وفي هذا الموضع من الروي نجد أن عبد الغفور وهو الشخصية المركزية في الرواية قد تسنم وقتًا مناسبًا لمشاعره أن تنمو وتتجدد في قصة حب خريفية غاية في الرقي والعذوبة كي يتسنى للسارد الاشتغال على ربط ملابسات وجود الأب عبد الغفور بين عائلته بصفته عاشقًا وليس أباً وفياً مخلصاً لزوجته وبذلك بذر النواة الأولى لنشوء المرض للزوجة ومن بعده الموت .
الاسترجاع الخارجي والاسترجاع الداخلي في الرواية
إن الاسترجاع لدى الشخصيات لا يكون قاسيًا دائمًا ويشي بحوادث صعبة لاحقا، فمع إن الاسترجاع في الرواية ينفتح على ذلك، إلا أن هناك شخصيات ثانوية في الرواية يكون الاسترجاع فيها غايته ملء فجوات النص وإخبار القارئ بتفاصيل صغيرة لها دورها في رسم صورة واضحة عن شخصيات لم تأخذ حقها الكافي داخل المتن الحكائي، أو يكون بسبب العودة الى شخصية سبق ذكرها فيطلعنا على حاضرها ومستجداته، وقد يأتي الاسترجاع كذلك للعودة الى أحداث سابقة لغرض التذكير بدلالتها أو اعطائها دلالات جديدة من شأنها أن تمكننا من التحقق من صحة فهمنا للنص الروائي، ومن ذلك شخصية (آمال) الأخت التي تعزف عن الزواج لتراعي أمها المريضة وتكون هي الفرد الوحيد المتبقي مع أخيها رأفت بعد وفاة الأم، والأخت الأكبر منها (نزهت) التي تزوجت ورحلت مع زوجها خارج البلاد لتنقطع عن أحداث العائلة، و(سليمة) ابنة حي باب الشيخ التي كان يحبها خالد صديق رأفت قبل هروبه خارج البلاد إثر تخوفه من بطش الأنظمة القمعية لتتزوج سليمة من غيره، فضلًا عن الشاب محمود الذي يفارق الحياة ثم يعود إليها بفضل دعاء أمه وبطريقة لم يعهدها باب الشيخ من قبل، كل تلك الاسترجاعات كانت أحداثها قد تمت قبل بدء الحكاية الرئيسة في النص الروائي ضمن تقنية الاسترجاع الخارجي، هذا غير قصة (رأفت وسميحة) التي تنمو وتتطور خلال مدة مرض الأم إلا أنها ليست من صلب الحكاية أيضا، إنما أرادها الروائي ليوظف موضوعة (عقدة اوديب) في نصه فالابن رأفت الذي كان متعلقا بأمه أشد التعلق لم يكن بالامكان الأفصاح عن حبه ذاك الذي خرج عن نطاقه الطبيعي عند مرض الأم إلا بترجمته عن طريق شغفه بسميحة (أم سمير) صديقة أمه وجارتها وأم صديقه التي تكبره سناً، لتتكون بينهما علاقة تكون هي العلاقة البكر بالنسبة إلى رأفت التي تساعد في تفتح عينيه واستدلاله على الجنس الآخر وذلك بعد أن أحب سميحة وتعلق بها وشعر تجاهها بحاجة ملحة ظلت تلازمه مدة طويلة من الروي فقد جعلها الروائي تمتد وتأخذ مساحة استمرت حتى بعد وفاتها، إذ ظل يشتاقها ويقفز من على سطح بيته ليلًا كي يذهب إلى غرفتها يتشمم فراشها ويتذكر لحظاته معها ففي صفحة 21 من الرواية يقول رأفت "بيد أن عودة أم سمير شيء آخر يبدد وحشة القلب ويعيد طلاء النفس وطلاوة الذكريات. كل ليلة منذ أن توفيت جعلتُ أترسم عودتها لأنام. ليس في خاطري امرأة غيرها مهما تجلّت صفاتها. دفؤها حلّ في عظامي. وحتى هذا الموت؛ موت أمي، أعادني إلى موتها ولحظات جنوني بفقدها. لذا فإن انقطاعها ليلتين وعودة أمي بديلاً عنها أربك الصورة التي في عيني، واللحظة السعيدة التي في نفسي. قبل ذلك، قبل وفاة أمي، تلاشت الأبعاد بين نهاري وليلي."
إن حب رأفت لأمه جعله ينفر من والده وهذه إحدى أساسيات عقدة اوديب فقد جاء في حديث رأفت عن أمه في ص39 من الرواية "أجدها تلجأ إلي؛ أنا الذي يطلب حمايتها حتى ينام، أو حتى ينام بهدوء. أنا الذي يرتعش قلبي على ارتعاشة جسدها ويخفق على خفقان قلبها، تدنو مني أكثر فأكثر، وأدنو منها أكثر فأكثر حتى تشعر دفء جسدي وأشعر دفء جسدها، أتساءل وأنا أرتجف هل صرتُ كبيراً بما فيه الكفاية، لأقف على رعاية أمي وبعث الحياة في جسدها؟ أأستطيع أن أهبها ما عجز عنه أبي والآخرون؟ " .
في هذا النص المنقول من الرواية يضعنا الروائي في مواجهة بين مبدأي القيمة واللذة، عن طريق انحياز رأفت إلى مبدأ اللذة الأمومي انحيازًا سافرًا لا تحفظ فيه، وتمرده على نحو أشد قساوة على مبدأ القيمة الأبوي والواقع إن رأفت في طور بداية الحياة الجنسية في عمره الذي لا يتجاوز الخامسة عشر، وعلى وجه التحديد في مرحلة الكمون الجنسي التي تسبق البلوغ، التي إن ربطناها بتضخم الأنا الأعلى الأبوي لدى عبد الغفور الأب الذي تعامل بجفاء واضح إزاء مرض زوجته، وارتباط ذلك بمشاعر الذنب من قبل الابن تجاه الأب، لن يعسر علينا أن نتكهن بنتائج المعركة التي دارت رحاها في نفس الابن، وحينها يتأكد المدلول الاجتماعي لفعل التمرد على الأب، على الرغم من أن الاسترجاع الداخلي هنا قد تبنّى طرح حياة تفيض حبًا متدفقًا مشحونا برغبة جامحة نحو الآخر، ولكن الجزء الآخر من ذلك الاسترجاع يحيلنا إلى دلالة أخرى قد تضعف من قيمة الدلالة الأولى ففي صفحة49 من الرواية يقول رأفت: " أنت تسألني عن موت سميحة. ماتت سميحة. يمكنني أن أقول ذلك وأكتفي. لكن ما أود قوله أنها ماتت وأماتتني معها، ولولا موت أمي الذي أنهضني لما عرفت بأنني حي أرزق. إنه الإستحواذ التام. لو أن أمي بتقواها المعروفة وفي عقلها ذاك علمت بعلاقتي بها لفزعت، ذلك أنها تحبها كثيراً ثم أنها صديقتها الوحيدة التي تلازمها حتى اقترن إسم كل منهما باسم الأخرى" .
أما الاسترجاع الداخلي فقد جعلت الحديث عنه مؤخرًا في الدراسة على الرغم من أهميته الكبيرة في الرواية وذلك كي يأخذ مساحته التي يستحقها في حديثنا، فقد استثمره الروائي ليزيد شغف القارئ باعتماده على مشاهد نستطيع أن نطلق عليها بالسينمائية بعدما يبدأ حب الأب عبد الغفور لسعاد الأمر الذي يكون سببًا أساسيًا في مرض زوجته ليلى ومن ثم موتها، إن تلك الاستذكارات يقوم بها الراوي ولم ترد على لسان عبد الغفور ليترك الروائي للشخصية انفتاحًا لا يشغله بمسؤولية السرد والحكي، وهو بطريقته هذه جعل المتلقي معايشا وليس قارئًا لما يحدث داخل أحداث الرواية وبين أبطالها من عن طريق اشغال مساحة الشخصية ودورها بتقديم هدية عطر بين الحبيبين وارتشافة فنجان قهوة وعزومة في كافتيريا، وهنا لا بد من القول إن هذه الاسترجاعات لم تحدث فجوة في سرد الحدث الرئيس المتمثل بموت الأم التي هي الزوجة والتي تمرض أثر ذلك الحب الذي يقتحم زوجها اقتحامًا قويًا وجريئًا، وهو لم يقطع على القارئ متعة تسلسل السرد، بل أضاف شيئًا من التشويق والفضول اتجاه الأسباب التي جعلت من الزوجة المحبة كارهة زوجها، وحيثيات تكوين الفجوة التي تسللت منها الحبيبة سعاد الى قلب الزوج عبد الغفور وهنا علينا الإشارة إلى اخفاق الروائي نوعا ما في إبداعه المشاهد التي تترسم غياب الزوجة واخفاقها عن طريق مناكفاتها مع والدة عبد الغفور في البيت وجعل البيت مشحونا بالتوتر، فقد حرص الروائي على إعطاء الزوجة نبرة صدق ذات قيمة جمالية أكيدة باتقانه لغة عابقة برائحة المرأة الزوجة والأم وباهتمامه بدقائقها الصغيرة ما بين أجواء وجبة الغداء وشرب الشاي عصرًا واهتمامها باحتياجات زوجها وحبها له الذي عندما اخترق أدى بها إلى الموت، ولكننا لو أردنا النظر بعين التعاطف مع الحبيبة سعاد لوجدنا أننا عند النظر إلى ليلى سنجد عالمًا فسيحًا تحتله المرأة بصورة أخاذة وقوية داخل البيت وقد يتسع هذا العالم للمرأة بوصفها زوجة ولا يتسع للأنثى التي توفرت لدى سعاد مع وجود شخصية عبد الغفور بذاتيته المحتكرة لحسابه، وسلبية ليلى التي استسلمت للمرض بعد شبه غياب للدور الفعال الذي ينبغي أن تضطلع به المرأة العاشقة لزوجها، خاصة في مرحلة امتصاص حلاوة الثمرة بالنسبة للزوج في عشقه الجديد الذي سمح فيه الروائي للقدر أن يقتحم مسرح أحداثه ولم يشعر به عبد الغفور إلا بعد وفاة الزوجة التي طال مرضها سنينًا نتبينها من وجود الطفل سامي ابن زوجها من سعاد ذي الست سنوات وبذلك نستطيع أن نقول أن عبد الغفور في صمته وشروده أثناء مأتم زوجته قد تخطى حلاوة الثمرة ووصل الى لفظ النواة وهذا برأيي هو قانون معروف من قوانين اشتعال اللذة التي عند ابتدائها تتمثل طور الفورة التي تتهادى إزاءها جميع الحواجز وتشل كل القرارات الحكيمة وحالما يتنفس الاشباع وجوده يتضاءل المرجل وتخفت ناره فتعتمل في النفس مرارة ذلك الاندفاع الخاطئ، على الرغم من أننا غير مسموح لنا نقديا أن نستهين بذلك الحب الجارف الذي جمع عبد الغفور بزوجته الثانية سعاد، إذ اغدقته بكل عطاء الحب من مشاعر سامية عميقة لها أثرها في سد فجوات العلاقة ما بينه وبين زوجته الأولى، ففي لحظات الصدق التي جمعتهما كان هناك كم هائل من نبل يسجل لتلك العلاقة ولولاها لافتقدت سيرة عبد الغفور من حيث هي رواية الى بعض من جمالياتها .
وهكذا تثير الشخصية النرجسية قضية الأنا والآخر بوصفها إشكالية سردية ترتبط باختلاف وجهات النظر والزاوية التي يتناول عن طريقها الروائي ما يتبناه من رؤى وقيم، أجدها في هذه الرواية أظهرتها وأبرزتها بصورة قد تكون معقدة نوعًا ما، وربما لو نظرنا الى تلك الأنا بصيغة مفردة لوجدناها أكثر وضوحاً وأعمق رسوخًا .
الهوامش
1ـ ينظر: المقال الالكتروني/ ماذا فعل جيرار جينيت بالرواية، الجزيرة نت، خولة عمامرة، 8/11/2018.
2ـ ينظر: عبد العالي بو طيب، إشكالية الزمن في النص السردي، مجلة فصول المصرية، عدد2، 1993.
3ـ ينظر: سيزا قاسم، بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، ص40، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م.
4ـ ينظر: ابراهيم خليل، ايقاع الزمن في الرواية العربية، الرأي الثقافي،ع 11812، الجمعة 17 كانون الثاني 2003.
5ـ ينظر: عبد المنعم زكريا القاضي، البنية السردية في الرواية ص11، تقديم: احمد ابراهيم الهواري، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ط1، 2009م.
6ـ ينظر: هيثم الحاج علي، الزمن النوعي وإشكاليات النوع السردي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2008م، ص63.
7ـ ينظر: المصدر نفسه ص64.
8ـ ينظر: عبد المنعم زكريا القاضي، البنية السردية في الرواية ص 112 ، تقديم: احمد ابراهيم الهواري، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ط1، 2009م.
9ـ ينظر: هيثم الحاج علي، الزمن النوعي وإشكاليات النوع السردي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان،ط1، 2008م، ص73.
10ـ معجم المصطلحات ج2، ص15، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2014.
11ـ ينظر : جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، محمد معتصم وآخرون، ط2، المشروع القومي للترجمة، ص51.
12ـ ينظر: سميحة خريس، خشخاش: 5/6، 2000، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
13ـ 14ـ ينظر: مها حسن القصراوي، الزمن في الرواية العربية، ص213، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 2008م .
15ـ ينظر: المصدر نفسه ص218.
16ـ ينظر: عمرو عيلان نقلا عن جيرار جينيت في مناهج تحليل الخطاب السردي، منشورات إتحاد الكتاب العرب، سلسلة الدراسات 2، دمشق 2008م، ص134.
17ـ ينظر: نضال الشمالي، الرواية والتاريخص168، جدار للكتاب العالمي للنشر والتوزيع، عمان ط1 ن، 2006م.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat