من الخير أن اشير الى ناحية أوزان قصائد الهجاء لإبن الرومي، وأول ما ألحظه في ذلك، هو تنوع البحور فيها، فهو يكتب في البحور الطويلة كالسيط والطويل حسب ماتقتضيه فكرة القصيدة، فاذا أراد أن يطرحَ معينه، فهو يستخدم بيتاً واحداً ولايحتاج الى بيت آخر يتمم معناه، وهذه البحور ذات التفعيلات الطويلة تتيح له ذلك. كما يكتب في البحور القصيرة كالخفيف والسريع ومجزوءات البحور الطويلة. وكان ابن الرومي يريد أن يثبت لمن اراد تحديد البحور لغرض من الشعر دون آخر، فالعبرة ليس في الوزن فقط، ولكن عناصر الشكل الاخرى هي التي تسهم الى حد بعيد في القدره على التعبير، وتكوين القصيدة منسجمة مترابطة الأجزاء.
فمثلاً في استخدامه البحر السريع في قوله:
يا أيها الهارب من دهره * أدركك الدهر على خيله
ماذا يوحي هذا البيت والى ماذا يشير؟ اختار ابن الرومي البحر السريع ليلائم الصورة أو اللوحة التي رسمها للانسان الهارب من دهره. فكما هو معلوم أن الهارب يجري بسرعة، فاتت الموسيقى سريعة متلائمة مع الموقف النفسي الذي أثاره ابن الرومي، وهذا ما اعتقد انه من استنباطات ابن الرومي وكان امامنا حركه سينمائيه تولدها المسيقى الشعريه لشدة تلائمها وتلاحمها مع نفسية الهارب . وهناك أمر آخر يؤكد على براعة ابن الرومي اللفظية، فانه استطاع أن يهيء الجو النفسي للمهجو وهو الهارب من خلال الرسم بالكلمات، فقد كان بارعاً جيداً في اختيار الألفاظ ذات الدلالة الموسيقية التي تلائم صورة الهارب؛ فمجيء حرف (الهاء) أربع مرات في الشطر الأول ومرتين في الشطر الثاني، فقد يكون عفويا، ولكنه يشكل جانباً فنياً رائعاً من فن ابن الرومي في رسم لوحاته الشعرية؛ فوجود هذا الحرف (الهاء) دون غيره يشير الى موقف نفسي لهذا الانسان الهارب، فحرف (الهاء) حرف حلقي يوحي الى انسان تعب من شدة الركض، أو أي نوع من انواع التعب، فهو يخرج من أعماق الصدر. والشخص عندما يتعب نجده يتنفس من خلال (الهاء)، وهو حرف عفوي ينطلق من فم الانسان. لهذا نجد ابن الرومي قد اهتم باستخدام البحر والحروف والكلمة الملائمة لكي تتناسب مع الموضوع الذي طرحه والمعنى الذي أراده.. وهذا يؤكد على أهمية الألفاظ بالنسبه للمعاني، فكما يجب أن يكون المعنى واضحاً ومفهوماً، لابد كذلك أن يكون اللفظ مناسباً ليحمل المعنى تحت طيّاته بصورة مترابطة الأجزاء.
مما يتصل بعناصر الشكل اتصالا واضحاً استخدام ابن الرومي لألوان (البديع) استخداماً واسعاً. ويرى الدكتور (شوقي ضيف) انه يكثر من الجناس على عكس البحتري الذي يكثر من الطباق، وهذا أمر لانوافق عليه شوقي ضيف، فابن الرومي استخدم ألوان البديع كلها استخداماً واسعاً، وربما كان الطباق أظهر في فنه، لأنه في هجائه بصفة خاصة يستخدم عنصر التقابل والتضاد استخداما ظاهراً. ويقول العقاد بصدد موقف ابن الرومي من البديع: انه سلم من لعب الجناس اللفظي والمحسنات المموهة، مع انه نشأ في العصر الذي نشأت فيه هذه المحسنات. وهذا القول غير صحيح، وفيه اختلاف، فأول اختلاف: هو سلامة ابن الرومي من اللعب بالمحسنات. أما الاختلاف الثاني: هو نشأة هذه المحسنات في القرن الثالث. فنحن نعلم أن المحسنات نشأت منذ القرن الثاني للهجرة، ثم ازدهرت في القرن الثالث. ومن ثم نجد أن الجناس وألوان البديع الأخرى، تزخر بها أبيات ابن الرومي. بل يزخر بها البيت الواحد احياناً. ونفهم من هذا أن المحسنات في شعر ابن الرومي مع المضمون في نسيج واحد، بحيث لانحسّ أن البيت مصنوع من أجل المحسنات البديعية وحدها. وليس من شك في أن شعر ابن الرومي في الهجاء يعتمد على ألوان بديعية مختلفة أهمها الطباق والجناس كقوله:
وصاعد ماتصعد بل تهاوي * ولكن جاد ما صعد الدعاء
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat