مرّت القصيدة العربية أثناء مسيرتها الطويلة بتحولات كبيرة، وبزغت في سمائها نجوم كثيرة، أضافت لفضائها أنواراً جديدة غطَّت على ما تحول من أنجمها السابقة إلى ثقوب سوداء، وملأتها أشعة برَّاقة، وتلاوين ساحرة، وكان ذلك على يد شعراء مبدعين، وموهوبين كبار، فكان أبو نؤاس صاحب الخطوة الأولى في التغيير حين قاد عملية التحديث في المطالع، واستعمل الألفاظ المدنية الرقيقة بدلاً من الألفاظ الوحشية البدوية، ثم تبعه (أبو تمام) بنقلة كبرى، حين ملأ أبياته بالاستعارات، والمجازات المكثفة، وصار الشعرُ على يديه مليئاً بالفكرة، والصورة، بعد أن كان لا يعدو التشبيه الساذج، والتقريرية المباشرة، مروراً بالإحيائيين، ثم مدارس الديوان، والمهجر، و(أبوللو)، إلى أن جاء الحدث الكبير، الذي خرج بالقصيدة العربية من تحت عباءة شكلها التقليدي الكلاسيكي إلى آفاق الحرية والحركة، بجهود السياب ونازك الملائكة، وأخذت شكلاً جديداً يعبر عن مضامين جديدة، ويتسع لمطالب كبرى (لكي تحقق للشاعر من نفسه، وذبذبات مشاعره وأعصابه، ما لم يكن الإطار القديم يسعف على تحقيقه؛ والقضية لا تقف عند مزاج الشاعر، وإنما تتعداه إلى أكثر من ذلك، فلم يكن الأمر استجابة لتطور شكلي، وإنما كان كذلك استجابة لبنية مضمونية تبحث عن متسع لها، في ظل انتشار ثقافات متعددة، فلم يعد الشعرُ موقوفاً على أغراض الغزل والمديح والهجاء، وإنما انفتح على قضايا العالم الجديد، لم يكن باستطاعة الشكل القديم استيعابها).
لقد كان هذا المولود الجديد فتحاً كبيراً في الشعرية العربية، وقف بصلابة وجرأة كبيرة، وتحدّى مصاعب الرفض؛ إلى أن وقف على رجليه شامخاً، وكان يحمل في بطنه تحولاً (من تحولات الشعر أوجدته الحداثة، ومحاولات التجريب الشعري، والتطور الحتمي للأدب ذلك هو ما أطلق علية قصيدة النثر).
لم تقف المحاولات التجديدية عند هذا الحد بل لا زالت مستمرة ومتدفقة، تأتي كل يوم برافد جديد يصب في نهر الشعرية العربية والعالمية.. ولازال التجريب ضرورة ملحّة من ضرورات الحياة التي غدت تنطلق في كل ميادينها، انطلاقات صاروخية، يضاف إلى ذلك أن التجريب صار مظهراً من مظاهر التمرد على التقاليد، والأعراف القديمة في الأدب، وتحول إلى هاجس يحثُّ الأديب على استغلال مادة جديدة، ومجهولة وذات صمود أمامه مما يثير فضوله، وانفعاله ويغريه بالتجريب، أن يرغمه على أن يرفض باستمرار كل الأعراف والمعايير والطرائق التي تحول بينه وبين هذه المادة، مانعة إيّاه عن إدراك كنهها، ويدفعه كذلك التصور الجمالي الذي يقول بالتمرد ضد القواعد القائمة، فيتحرك باتجاه ما يتطلبه الفن العظيم، فلا يختلف الباحثون في أن الفن العظيم كان دائماً وعبر كل العصور هو ذاك الذي يمثل خرقاً للعادي اليومي من مألوف القيم، والأشكال الجمالية المضمونية أو اللغوية، بل يمكن أن تنسب إلى الخرق للمألوف، والمستقر من القيم كل التطورات والإبداعات التي تشمل حقول الثقافة والأدب والفنون والعلوم.. لقد رافق هذه التطورات في الأدب والشعر، وعلى مستوى العالم كله، وليس فقط في الأدب العربي تنظيرات نقدية، وقراءات علمية، وصفت ما يحدث، ودرسته بتركيز وأثرت وتوسَّعت بتوسعه، فطالعتنا إنجازات كبرى، حجمها بحجم المنجزات الجديدة، تقف على دقائق الأمور، وتضيء الزوايا البعيدة، وتطالع الأشياء بعيون فاحصة، وكان من بين إنجازات هذه الحركة النقدية، الوعي بتداخل الأجناس، والمناداة بموت الأنواع الأدبية، فتوصَّل النقدُ الحديث إلى أن الكتابة: (نص قبل أن تكون جنساً أدبياً محدداً، وأنَّ كل نص يعد جيولوجيا كتابات، أي انه يتكون من مجموعة من النصوص التقت فيما بينها بكيفيات مختلفة).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat