الماءُ ذاكرة مكبّلة بالعطش والنبوءات... قراءة في تراجيديا (الماء يا قمر الشريعة)
حيدر عبد الخضر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
حيدر عبد الخضر

كيف يتحول الماء الى نبوءة، وكيف يكون شاهداً على انكسار الحلم وتشظيه في رمال العزلة والتوحد.. العطش وهو أحد أسرار الماء يدخلنا في عالم تتصارع فيه القيم والمفاهيم، ويضعنا أمام سؤال يبحث عن ماهية الوجود وجدوى المجابهة، في لحظة ترتبك فيها الحقائق والتفاصيل.. العطش نقيض الارتواء، وهو ذاكرتنا الموجوعة والمضرجة بالتمتمة واليباس؛ لقد شكلت هذه الثيمة نقطة الارتكاز في بناء نص ارتبط بمنظومة من التشكلات والإحالات السمعية والبصرية، وهو نص (الماء... يا قمر الشريعة) للشاعر (حازم رشك) الذي أراد في هذه التجربة أن يبرهن على ان المرجعيات التاريخية والعقائدية بكل تنوعاتها ومساراتها، لا يمكن أن تتجاوز العناصر المشتركة في الحس والتوجه الإنساني، لذا فهي عندما توظف لخدمة فن من الفنون او الآداب، فأنها تستلهم كل هذه الأبعاد عبر تفجير المعطيات المتشكلة في الذاكرة.
ويشير المؤلف في كلمته، إلى انه في هذا النص حاول الانفلات من شعرية المفردة الى شعرية الحدث، موضحاً وبشيء من التحدي والمكاشفة، بأنه باستطاعة كل انسان أن يصنع قربة، ولكن ليس باستطاعته أن يملأها بالماء، لذا فهو يدهشنا بهذا التساؤل المريب (علينا أن نفهم العطش اولاً؟) كيف يتسنى لنا أن نفهم العطش؟ قد يكون المخرج ياسر البراك في توظيفه لهذا النص، حاول أن يزيح غموض والتباس الأسئلة التي صاغها المؤلف، سواء باختيار مكان وفضاء العرض أم باستلهام الواقعة بعيداً عن مناخاتها وملابساتها التاريخية، وذلك بايجاد عناصر وأنساق مشتركة بين لغة النص وآليات العرض ومعالجاته التي ارتبطت بأطروحة المسرح الاسقاطي لدى المخرج، فالشعر كآلية من آليات التعبير اللغوي، يمنح الخطاب المسرحي الاسقاطي بعداً تأويلينا وجمالياً، يشكل حلقة الوصل بين ما نطمح إليه في المستقبل، وبينما هو متحقق فعلاً.. لذا فالشعر(الفصيح - العامي) حسب ادعاء المخرج، هو أحد الرهانات الأساسية في التعبير ضمن المنظومة اللغوية للمسرح الاسقاطي.
ان التعامل مع الواقعة التاريخية وفي المسرح خصوصاً، ينبغي ان يتم وفق معايير وأسس وقوانين معرفية وفنية، تحاول أن توجد نوعاً من التناسق والاتساق بين الصدق والمعالجة الفنية، وبين أقرب الحقائق وأدقها وأكثرها إقناعاً ومصداقية، فالكاتب هنا يتجاوز دوره دور المؤرخ او المحقق؛ لأنه يمتلك مغزاه وخياره الجمالي الذي يلعب فيه الخيال والوعي دوراً مركبا يتجاوز الفهم المسطح والساذج للواقعة والحدث التاريخي، فكأنه يعيد بهذه الآلية قراءة وصناعة التاريخ وفق رؤية شمولية معاصرة، تحاول استثمار الحدث لخدمة خطابها الجمالي ورؤيتها للتاريخ والحياة.
إن موضوعة العطش الكربلائية في هذا العمل فكرة رمزية، أنتجت علاماتها وإشاراتها التأويلية التي حفزت الذاكرة على استحضار كل الطقوس والممارسات والشعائر المرتبطة روحياً ووجدانياً بهذه الواقعة، من أجل أن تمارس دورها في تطهير الحاضر، وتحفيز المتلقي على إدراك المعاني والمضامين المقدسة المرتبطة بذلك الجوهر الانساني العظيم..
إن فعل الإخراج بمناخاته ومعالجاته الرؤيوية ومفرداته ومؤثراته المتنوعة، قد حقق ذلك التناغم والانسجام بين ما حدث وبين ما كان ينبغي أن يحدث.. (صبية حفاة يلتفّون حول الفرات بـ(طاساتهم) الذابلة، وشفاههم المرتجفة ينتظرون القادم.. العطش يقتطف قلوب المتعبين.. ما جدوى الاتكاء على صدى خافت.. أصوات وأنفاس تتداعى.. يلتبسُ التاريخ وتتداخل الأزمنة، حيث لا حد فاصل بين الأمس.. والآن..)، وها هو المشهد يتشظى، وترتبك الأمكنة من جديد، وتبدأ دورة الأسئلة؛ الذهول هو اللحظة الفاصلة بين جواب منطفئ، وأمل مكبل بالخفوت.. ينتصب الفرات (التائب) في وسط المشهد، وتتعرى الأجوبة، أجوبة كما العطش، والقادم معلق في ذاكرة الفرات بقربته المثقوبة، يتأرجح في مساء الصبية الذين نزفتهم الخيام وحرائق القيامة.. شهود جدد يتسللون الى حضرة الفرات المرتبك، هذه هي المنطقة الحرجة التي أراد المخرج أن يقذفنا بها، لكي نفهم معنى العطش، بعد أن يفور زبد الكلام، وتنحبس الأنفاس، ويتنامى الشك والارتياب...
من بعيد، وعلى مقربة من الضفاف التي انطفأ فيها الحلم أكف خضر (النقاء – الأمل) تزيح ستائر الظلام، وتلوح في أفق بدأ يتصدع، فتسيل من خزائنه القرب الفارغة، والتي ستمتلئ حتماً بعد مجيء الغائب، والغائب بالمعنى الآخر.. القادم.. (قمر الشريعة)، وما زال التائبُ ينزف ذكراه وأوجاعه بحسرة ومرارة (مثقل بالدماء.. مثقل بالذنوب.. غائب لو يؤوب).. الغرباء يتسللون الى هذه المساحة الملتهبة بالشعور والبوح والحزن الأبدي.. ثلاثة أصوات تنتمي الى ثلاثة عوامل متباعدة، يوحدها المخرج في إطار الرؤيا الشاملة للعرض، بحيث يجمعها هاجس وهدف واحد، يركز عبره المخرج على المفاهيم والرغبات الإنسانية التي يتضامن خلالها البشر في رؤيتهم وتطلعاتهم المشروعة.
لقد نجح (البراك) في هذا العرض في تفكيك النص المسرحي، واكتشاف وإضافة أبعاد عززت من القيم الدلالية والحركة الداخلية له، وذلك باستدعاء المرجعيات والمضامين الغائبة، وزجها في مناخ طقسي يتجاوز الأطر والصراعات الذاتية للواقعة، لينتقل بها الى التصور والمدلول الكوني، وقد فعل ذلك عبر اشتغاله في منطقة (خيال الظل) التي انتجت لنا مشهداً مجاوراً أدى الى تنامي البناء الدرامي والحسي للحدث فـ(الإنارة – الموسيقى – الترانيم – الايماءات) تفاعلت تفاعلاً عضوياً، وتوحدت مع الأداء الواعي والمدروس من قبل الممثلين الذين حرصوا على الموازنة الدقيقة بين معايير ومحددات الشخصية، وإيقاع الحركة الخارجية، وذلك بفصل الجسد كعلامة في العرض عن المفردة التي تمثل سلطة النص، ومرجعية الحدث..
هذه الموازنة أدت الى شيء من المراوغة والالتباس الذي أبرز حيوية العمل وتناميه، وقدرته على تجاوز المحددات والدخول في فضاءات ومهيمنات أخرى، شكلت فيها الشعرية والطقسية مناخاً حيوياً وفاعلاً في وصول العرض الى تجليات عميقة، ومستوى عرفاني انتقل بالمتلقي من مأزق وسلبية الحيرة والانتظار، الى الشعور والمشاركة في صنع الحقيقة والحلم.. وبذلك استطاعت جماعة الناصرية للتمثيل في هذا العرض، أن تضيف عملاً ابداعياً آخر يعزز من فعالية وقيمة منجزها، ورسالتها في البحث عن مستويات متعددة للتلقي، واشراك نخب تنتمي الى خلفيات فكرية واجتماعية متنوعة، وصولاً للانفتاح بالتجربة والحوار، كيما يتحقق المغزى والهدف الحقيقي لهذا الفن، ولكي يبقى المسرحُ خطاباً متجدداً ومتجذراً في ضمير وخارطة الوجدان الإنساني، ودعوة صادقة لاستلهام الشذرات والمواقف والسلوكيات الإنسانية الفاضلة، ولبث الرؤى والتصورات التي تعزز من فعالية الإنسان، ورغبته في تأثيث عالم مؤطر بالحرية والعدالة والجمال...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat