صراعُ الأخلاق وإيديولوجية قيادة المجتمع ج1
هاني جوده
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
هاني جوده

تشغل مشكلة العلاقة بين الأخلاق والدين حيّزاً هاماً في علم الأخلاق وفلسفتها، فالأخلاق والدين يشكّلان مظهرين من مظاهر الوعي الاجتماعي في كل المجتمعات التي عرفتها البشرية خلال رحلتها الزمنية الطويلة، والحقيقة التي تؤكد هذه الفكرة، هي أن أشهر المطالب الأخلاقية قد صيغت، للمرّة الأولى، في إطار المذاهب الدينية؛ ولذا نرى أنه من الواجب على الإنسان - حتى ولو لم يكن على درجة عالية من الإيمان - أن يعترف بالدور الإيجابي الذي لعبه الدين في تطور وعي البشرية الأخلاقي.
وعندما نتحدث عن علاقة الأخلاق بالدين، لا يعني هذا أن العلاقة بين الأخلاق وبين بقية نشاطات الحياة معدومة، فهناك الكثير من الدراسات حول علاقة الأخلاق بالسياسة، وحول علاقة الأخلاق بالعلم، وأيضاً هناك دراسات مستفيضة حول الأخلاق والفن، وحول الأخلاق والحقوق، إلى غير ما هنالك من فعاليات ونشاطات اجتماعية أخرى.
إذا كنّا قد افتتحنا بحثنا بالكلام عن الأخلاق والدين، فإنما قمنا بذلك؛ لأن العلاقة القائمة بينهما تعتبر من أقوى العلاقات، بالإضافة إلى أن الكثير من المفكرين والفلاسفة، يعتقدون أن علم الأخلاق هو المولود الشرعي لعلم الأديان والشرائع.
وهنا يبرز أمامنا السؤال التالي: إذا كان علم الأخلاق هو الابن الشرعي لعلم الشرائع، فلماذا نرى تلك الصراعات في قضية فرض المبادئ الأخلاقية على جماعة أو مجتمع ما؟ من أين نشأ هذا الصراع، وما هي طبيعته؟.
إن مصدر الصراع في الأخلاق والمُثُل الأخلاقية هو نفس المصدر الذي يسبّب الصراع الدينيّ بين أجنحة الأديان المختلفة، ولكن الشيء الذي يضاف إلى ذلك، هو أن علم الأخلاق يبدو في طبيعة تركيبته الأيديولوجية أكثر ميلاً للتصنيف في قائمة العلوم (التقديرية)، وليس في قائمة العلوم (التقريرية)؛ فالأخلاق والمفاهيم الأخلاقية، عموماً، يُنظرُ إليها كما يُنظر إلى لوحة رسم داخل جدران متحف كبير يغصُ بالزائرين الذين يتفاوتون بدرجات ثقافتهم الفنية والاجتماعية، بالإضافة إلى تفاوتهم بطبيعة أعمالهم وبيئاتهم وتربيتهم الأسرية، فكل زائر من أولئك الزائرين سينظر إلى اللوحة الفنية من وجهة نظره الخاصة المرتبطة بمنظومة أفكاره التي يختزنها بداخله؛ ولذا فقد يركز هذا الزائر كل انتباهه على لون البحر وصفاء مائه دون أن ينتبه كثيراً إلى حمرة السماء عند الغروب... وهو قد يفعل هذا لأن طبيعة عمله وطبيعة فكره تفرضان عليه الانتباه إلى الماء أكثر من غيره، باعتبار أن عمله كبحّار، يقتضي منه أن يراقب لون البحر وحركة أمواجه وصفاء مائه.
إذن، فالمفاهيم الأخلاقية كاللوحات الفنية، كُلّ يراها من وجهة نظره الخاصة، وإن كان هناك اتفاق على الخطوط العريضة لهذا المفهوم أو ذاك، فكلّ المذاهب الأخلاقية تنادي بالصدق، وتحضّ على العدل، وتؤكد على عدم السرقة، وعلى عدم الاعتداء على حقوق وأعراض الناس.
نعم، كل هذا صحيح، ولكن المشكلة هي أن كل تيار من التيارات الأخلاقية له وجهة نظر خاصة في طريقة وحدود تطبيق هذه المبادئ، ومن هنا بدأ الشقاق في صفوف المُنادين بتطبيق مبادئ الأخلاق على كافة أنشطة الحياة وفعالياتها المختلفة. لا يشك أحد في أن السرقة عمل لا أخلاقي، وسيبقى هذا العمل اللاأخلاقي لا أخلاقياً في المستقبل، كما كان حاله في الماضي.
وقبل الخوض في طبيعة الصراع بين هذين التيارين، لا بد لنا من الوقوف ولو يسيراً على دور الأخلاق العامة في التغيير:
إن مجموعة القيم التي يعتمد عليها المرء في حياته تغطي مساحة عظيمة من أنواع السلوك الاجتماعي؛ فهي الهوية السلوكية للفرد من جهة، وللمجتمع كوحدة متكاملة من جهة ثانية، ولا يشك ذوو الألباب في حقيقة أن الارتباط بالمفاهيم الأخلاقية بالشكل الوثيق، هو المعبر العريض للدخول إلى عالم الرقيّ والتحضّر.
فالبلدان المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً، ولا تحكمها القوانين الأخلاقية من خلال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة بين أفرادها وسلطاتها، هي بلدان تتجه في خطّ سيرها نحو الهاوية؛ لأنها في محصّلة الأمر تدفع بأبنائها إلى تمزيق العلاقات الإنسانية الأخلاقية فيما بينهم؛ فالفرد الذي تحكمه الآلة التي يعمل عليها، أو المصنع الذي يعمل فيه، هو إنسان تحوّل إلى أسير أمام آلته، بفعل غياب الروابط والقوانين الأخلاقية التي كان من الواجب أن تحكم وجوده بدلاً من الآلة. بينما البلدان التي تجعل الإنسان هو الغاية في مسيرة الحياة، وترفع من شأنه اجتماعياً وأخلاقياً، هي البلدان المتحضّرة حقاً؛ لأنها تقوم على ربط الإنسان بالأخلاق، ولأنها تجعل من الآلة الصناعية المتطورة عبداً للإنسان وليس العكس.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat