صفحة الكاتب : د . اسعد الامارة

أطفال العراق وألعابهم
د . اسعد الامارة

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
  عرف علماء النفس والاجتماع التنشئة الاجتماعية بأنها عملية تشكيل السلوك الاجتماعي للفرد، وبأنها عملية تحويل الكائن البيولوجي الى كائن اجتماعي، وبأنها العملية التي تتعلق بتعلم افراد المجتمع من الجيل الجديد كيف يسلكون في المواقف الاجتماعية المختلفة على أساس ما يتوقعه منهم المجتمع الذي ينشأون فيه. والطفل مشروع قابل للأنسنة او قابل للتدهور القيمي لأن ألعابه التي اذا ما تعلقت بالبندقية اوالمسدس فأنها تشكل شخصيته منذ الصغر ثم في البلوغ .
ان طفل العراق اليوم يتخيل صورة الارهابي وهو بطل لا تستطيع حتى امريكا مواجهته، وهو ينتقل من شارع الى شارع، ومن حي الى حي، ومن مدينة الى مدينة، ومن بلد الى بلد، متخفٍ وبدون جواز سفر او بدون أية وثيقة فهو اذن جدير بالاحترام، وهو يحاكي سلوكه بامتلاكه السلاح وهو نموذج جيد للتعلم على وفق رأي عالم النفس الشهير (باندورا). فألعاب طفل العراق اليوم هي السلاح بشكله المزخرف، وصورة البطل الذي يقاوم الشرطة ويسرق المؤسسات ويقتل المارة ليس عبر الصور المنقولة في الفضائيات، فحسب بل في الواقع المعاش. 
صورة بائسة تنطبق عليها المقولة النفسية يلقي الحاضر بظلاله على المستقبل، ويقذف ما يتعلمه الاطفال اليوم بقواه على اشباح مظلمة في المستقبل فلا يعود شبحاً يحكم ويسيطر، وانما يفرض بالقوة ما يتعلمه اليوم من الواقع، وهو تأكيد للحياة الحقة واستمرارها ولكن بصورة مخيفة لما نراه من تعلم سلوكي مثير عند أطفال العراق. 
ان هذا الطفل الذي ينشأ تحت اصوات القنابل وأزيز المدافع، ومطاردات السلطة للارهابيين وكثرة الاعلانات المتلفزة في الفضائيات عن السلوك العدواني والعنف ضد الابرياء، ودعوة الدولة الى حماية الأفراد انفسهم بأنفسهم من غارات الميليشيات الدينية والمذهبية المتنوعة بكل اتجاهاتها. ونحن نعلم ان الطفل لا يملك من التكوينات الرمزية التي يستطيع بها ان يفسر ما يجري حوله من نزاعات لا طاقة له بها حتى على مستوى المتخيل. 
ويقول عالم النفس الفرنسي (لاكان): ان الدافع لدى الطفل يوجه اولاً نحو الشكل لا نحو المحتوى، مما يفترض معه أن الموضوع إنما هو شيء طارئ او عابر، ولكن يشكل اشباعا لكثرة الملاحظة؛ فالاشباع لا يرتبط فحسب بقرب الموضوع وإنما يرتبط بالخبرة الخاصة التي اكتسبها والتوحد (التقمص) بها. ويعرف التوحد "التقمص" بأنه عملية نفسية لا شعورية تتمثل الشخصية بوساطتها أحد مظاهر او خصائص صفات شخص آخر. ولذا يتعرف الطفل في العراق على ذاته من خلال مشاهداته اليومية في التبجح بحمل السلاح واستخدامه ان امكن حتى مع شقيقه او شقيقته لأنه متاح في أي لحظة، وثقافة القتل والعنف هي السائدة لذا تقول (نيفين زيور): وهكذا فالطفل يحول المجال السلبي لقوى الرغبة إلى مستوى تصبح فيه موضوعاً في حد ذاته. 
ان الانحراف عن النمو وخصوصا لدى اطفال العراق يأخذ صورة الاستعجال في تخطي مواجهة مخاطر انجاز الحصول على الثقة والأمان في اية مرحلة من مراحل النمو الطبيعية للطفل، اي عدم ضمان في الحاضر مع عدم التأكيد بضمان المستقبل، لأنه لم يجد الاشباع الكافي في الحاضر في هذه المرحلة وسيكون في المستقبل اكثر ميلا الى المبالغة في اي شيء يطرحه او يتحدث عنه حتى في حياته اليومية مع زوجته او مع ابنائه او بين معارفه، هذه المبالغة تخفي وراءها الاحتياج الى الثقة وتصبح هي ذاتها بديلا عن الحصول على الثقة والأمان، فالطفل الذي يبالغ في حديثة يعاني من عدم الثقة والأمان، والكبير( البالغ) ايضا عندما يبالغ في حديثه فهو لم يشعر بالثقة والأمان في مختلف مراحل حياته في الطفولة، وعندما يستلم سلطة ما او منصب حكومي او اداري او وظيفي يستخدم السلطة او المبالغة في تأكيد الذات او التمركز حول النفس بقبول المديح او الاطراء لارضاء النفس التي لم ترَ ذلك في الطفولة. 
 ويقول (د. محمد شعلان) بدلا من ان الفرد البالغ يطلب الحب والتسامح والعفوية الفطرية في التعامل والقبول مع الاخرين، يلجأ الى القوة مثلا للحصول على ذلك، بينما ينكر حاجته للتواد او للمحبة حتى انه يبدو قاسيا او عنيفا، ولكنه في الحقيقة يمارس رد فعل لاحتياجه العميق للثقة والطمأنينة، اما اذا زاد لديه السلوك القاسي والعنيف اكثر من اللزوم فأنه يتسم بالاضطراب ويتسم بالصفات الشكاكة، وهي سمات الشخصية البرانوية (الشخصية المريضة عقليا) ومنها يعتقد ان العالم لا يثق به ولكنه لا يتفاهم مع الآخرين بل يأخذ ما يريده بالقوة وبكل عنف، هذا السلوك هو احد نماذج سيطرة ألعاب الأطفال وتوحدهم معها في مرحلة الطفولة.
 
ويتحول معظم الأطفال الى الشك والريبة والخوف من الآخر بفعل ما انتجته تربية الطفولة بكل ما حملت، وتنشئة الحرب بكل ما افرزت، وهي أولى التعقيدات النفسية لدى أطفال العراق خصوصا ولجميع الأطفال عامة، اذا ما احسنت التربية وانتظمت التنشئة حتى تصبح بإزاء موقف صراع فعلي ثقيل الوطأة على النمو النفسي اللاحق. هذه الأعراض وغيرها تنم عن الإحباط وخيبة الأمل لدى الآباء وتنتقل للاطفال في طفولتهم حتى تعود بشكل سلوك عدواني قوي وميول انتقامية نحو الجميع ونحو الواقع الذي حرمه من الطفولة البريئة ابان عقود مرت من طفولة الأب الى طفولة الابن حتى تتشيد موضوعات العالم لديه حول هذا الظل المزيف الذي يسمم الذات في الطفولة وفي البلوغ.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اسعد الامارة
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/06/02



كتابة تعليق لموضوع : أطفال العراق وألعابهم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net