سوق الخطابة في عاشوراء
ياسر آل غريب
ياسر آل غريب
شاعر وكاتب من السعودية
لا أقصد بلفظة سوق هنا معناها التجاريّ الماديّ, وإنما أعني مدلولها الثقافي المتعارف عليه قديما في الثقافة العربية أيام الجاهلية, فقد كانت سوق (عكاظ) و (ذي المجاز) و(مجنة) ملتقيات لذوي الكلمة من خطباء وشعراء يتعاكظون (يتنافسون) في طرح مواضيعهم ورؤاهم, نستطيع أن نطلق على تلك التجمعات مهرجانات ثقافية بلغة عصرنا.
ومع إعادة الذكرى واستسقاء الحدث من بئرية التاريخ، أصبحت عاشوراء موسما متميزا يتنوع حصاده دينيا وثقافيا واجتماعيا, ومازال الخطباء لهم حضورهم الأثيري، ولهم الحصة الكبرى للتعريف بالقضية الحسينية شفاهيا وبشكل مباشر, وتتوفر لهم في هذه الأجواء فرصة التأثير, ولكن المتميز منهم من يستطيع أن يحوّل حالة الشرود الذهني التي يبتلي بها البعض إلى حالة الإنصات, وهنا تأتي عبقرية الخطيب.
ما يُؤخذ على المنبر أنه يصل إلى درجة معينة من المعرفة, وهذا تحليل واقعي جداً؛ لأن جمهوره ليس نخبة وإنما مجموعة من الفئات العمرية المختلفة، مما يجعل الخطيب يكرّس جهده في مقاربة الموضوع للجميع.
ثمة اجتهادات نادرة للارتقاء بمواضيع المنبر تتجاوز مساحة النمطية، وتكسر الحواجز الوهمية، لتقدم الفكرة على أساس علمي مدروس لتصبح قيّمة بعد إشباعها بالرؤى التنظيرية. ومثل هذا الطرح لا يروق بطبيعة الحال لمن تعوّدت أذناه على الارتجالية، ولمن لا يقرأ ولا يتابع ما هو جديد على الساحة الفكرية. ففكرة (حوار الحضارات) مثلا لا تعجب مستمعا متعبا يعاني من الطائفية في نطاقه. ومسألة التجديد في الفكر الإسلامي لا يهضم ثيماتها جيدا شخص حصر تدينه بثوابث ظنية. يقال عن الأطروحات الجديدة إنها تناسب فئة الجامعيين فما فوق وهذا القول غير دقيق؛ لأن الجديد يلقى صداه ويتقبله من لديهم القابلية للتلقي صغارا كانوا أم كبارا.
في ظل غياب معهد متخصص للخطابة، وعدم الإيمان بالبرمجة اللغوية العصبية، والاقتناع بالأساليب القديمة من فنون الإلقاء المنبري يجعل الخطابة تعيش هاجساً مصيرياً, سابقا انحصرت عاشوراء بين قوسي الخطابة ومواكب العزاء, أما اليوم فهي تنضح بالحيوية والحماسة في العروض المسرحية والسينمائية، وتأخذ مكانها في الأوبريت الإنشادي التمثيلي, وتتشكل أبجدية ثانية في المطبوعات، وننفتح معها على شبكة الإنترنت, وتتجلى أيضا في المعارض التشكيلية ونكشف أبعادها في الصور والمجسمات.
وكل عام والحسين يبلسم جراحنا في زمن الذئاب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat