في احدى زوايا حجرة ذات ابعاد بسيطة مركون ذلك الكرسي المضطرب وصوت زقزقة ارجله التي ما انفكت تصمت اطلاقا، للحظة من الزمن عمّ هدوء مفاجئ بغير العادة!.. واذا بدبيب اقدام كهلة بصوت منتظم اخذت تقترب شيئا فشئيا من ذلك الكرسي المتهزهز، انقطع الصوت وسطع ضوء خجول، ارتقى صاحب صوت الاقدام مقعد الكرسي وبدأت عجلة الذاكرة بالدوران بين تفكير واستذكار ورسم تخيلات ذهنية.
الذهاب بالذاكرة الى مسافات طويلة يحتاج جهدا تفكيريا عميقا اشبه بذلك الذي يجلس لكتابة رواية بفصول لا تنتهي كلما تحسس انه سوف يضع نقاطها الاخيرة تنكشف امامه مجموعة من الاحداث التي يرى انها لازمة لروايته ولا يزال يبحث لها عن عنوان.
امسكت الذاكرة زمام المبادرة وانطلقت بجيشها العرمرم تصول وتجول تلملم اوراق السنوات تراجعها بشكل ثوري، بدأت عملية توضيب الاشياء والاستعداد لركوب المخيلة والانطلاق نحو غير المعلوم، تسلسلت المحطات في الذاكرة واذا بلمحة عبر سنوات العمر الاولى، الاحساس بذاك الدفء الحاني والانتعاش لبرهة من الزمن وسط غفوة تأمل في عوالم الطفولة واضطراب الحركة لهوا ولعبا، ومع بلوغ ذروة الانتشاء والشعور بالأمان بين قلوب دافئة و احضان ناعمة سيطرت غفوة اعقبها ارتداد بالذاكرة وصحوة من ذلك الحلم الوردي.
ما بين صحوة وحنين لتلك الايام رفع كفه ماسحا قطرات دمع حملت الم الشوق نحو سنوات استقرت في ذاكرة الماضي وبين تضارب بالشعور وتوتر ارتفعت ملامح الوجه معبرا عن رغبة بيضاء لان يعيش الانسان ناصع القلب والفطرة كتلك التي يحملها الاطفال بعد ان اضحى ما حوله بارزا انيابه يفترس كل من مضى عبر دائرة النظر.
حسرات واهات اهتزت في الجوف بعد تلك الحادثة والترجل منها قسرا مع التنبيه بعدم العودة الى تلك المحطة وبينما تغفو العينان لتعيد الهدوء الى الجسد لمع برق في الخيال واخذ يدغدغ الذاكرة مغريا اياها ويلوح من بعيد بورقة انيقة، سرق بنظره عنوانها واذا بها تحمل امل الشباب وعنفوانه وما دار في حرب فترة غزو الشهوات، كان حينها رخو المشاعر لين العاطفة، فترة انقضت ومرّت كالسحاب هي بعدد سني العمر لها امتداد طويل ولكنه لم يمتلك الوقت لتدوينها وتوثيقها واحتواء كل جزيئاتها، حقبة الحركة الدائمة وريعان العمر فيها افرغ ما بجعبته ما بين انس ولعب مع الخلان ارتحال دائم، اعتلى مظهر الجمال جثته وتجمل بجلباب الشباب واخذ يغوص في مسير العمر بين استثمار للوقت واهمال، فجأة سمع صوتا ايقظه التفت على يمينه واذا به الهواء مقتحما الشرفة ضاربا بعصاه نافذة الغرفة، اعاد ترميم الموقف محكما غلقه، بعدها لحظة تأمل وقوفا..! انطلقت نظرات مركزة نحو الكرسي المضطرب وتساؤلات منتظمة افرزتها حقبة من سنوات الوعي والادراك والتفكير المنطقي في رؤية الاشياء حوله، بدأ الم في الرأس وكانه يخاطب ذاكرته مطرقا ابواب العمر لوهلة من الوقت حتى اخذ الاستقرار يعم جسده بعد موجة الالم حتى وصوله الى صحوة الموقف فاذا بنداء من اعلى سماعة قطار العمر ينوه بالمحطة الحالية، يشعر الان بسكينة وهدوء ووسط تلك الاجواء يرى نفسه امام مجموعة من الاختيارات ينظر اليها بتمعن وحرص كبير فيما سوف يتخذه من قرارات، تتفتح امامه نوافذ الحكمة في انتقاء الامور الا انها تصيب في هدفها غالبا واحيانا تكون غير مدروسة، نتيجة طبيعية تنسجم مع تكوين النفس الانسانية التي لا تتصف بالكمال المطلق فيها.
انفجر ضوء خافت سرق نظره واذا به مصباح الغرفة وقد صدم بصعقة كهربائية اردته تالفا، اتجهت الانظار نحوه واعتلت المحيا تقاسيم الاسف بعد ان قضى المصباح عمرا طويلا وهو يشع وينير زوايا الغرفة وبعضا من الامتار باتجاه النافذة، اصبح الجو مظلما بعد فقدان النور ولكن الوقت متأخر لا صلاحه، فضل العودة الى مقعده الذي بدأ به تخيلاته الحالمة التي اوصلته الى فتات العمر حيث الوهن والبياض الذي اعتلى هامته واخذ يرى بنظرات جافلة نحو الاعلى مستدركا حاله متسائلا عن الوصول بعد سفر طويل هل يمكن ان يعود قطار الزمن بالعمر الى اوائله لتدارك الاخطاء ام الاتجاه ذهابا لا اياب فيه، وما بين المٌ المَ به اسدل الجفنان ستاريهما وسقط في بئر النوم العميق على امل الاستيقاظ مع شروق شمس يوم جديد.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat