أنَسقة " المفهوم " ... أنَطقة " المعلوم " في أخطاء " أمجد توفيق " الذهبيّة
حسن عبدالحميد
حسن عبدالحميد
تنوء محمولات القص و سواند السرد في مجموعة " أمجد توفيق " القصصيّة " الخطأ الذهبي " الصادرة بطبعتها الأولى بداية العام /2021 عن منشورات " الصحيفة العربية " ببغداد ، ضمن ممكنات الوعي الوافد - قصداً - لإختراق النسق السردي بتواثباته الدراجة و مألوفياته الجاهزة ، بالكثير و المثير من معاول الحث و الحرث في أراضٍ بِكر من حيث شواخصها التحليلية و التعليليّة ، سعياً لسحب إكتساب " المفاهيم " المتوقع إنّها معروفة ، أو بما يلامس شغاف البديهيات ، بل العادي من وجة نظر المتعالين ، في عموم مناحي نقدِهم للأعمال الأدبيّة ، أو الفكرية حتى - أنساق معانٍ و تعريفات بتدقيقات فلسفية ، و رؤى حدسيّة تحيل تلك المفاهيم - منذ بدء الشروع بتوالي قراءة قصص المجموعة - التي تربو على أثنتي عشر قصة بحاصل تفرعات بعض منها مرفقة بعناوين أخرى - شدّها وجع تناسقي ، ما برح يتماهى على منوال براعة إيقاع عزف و نزف شديد الرضوخ لمحامل كبت وتأني حذر ، وعميق تأسي وسخط على ما حصل و يحصل و إحتمال حصوله وفق منبئات و تناوب توّجسات و إختبار هواجس ، سارت على نحو هلامي ، نجدها تتحدّ لتتحدى أثر السائد بإرباك الموروث المتناسل من مضغات التداول وأرحام التكرار ، في وقت يستقر المسعى لدى الكاتب بمعابر السير على خطى نحته لتلك الأنساق المُتبعِة صوب محاولات تعليق و خلق مقاصد تأمليّة وذهنيّة متطوّرة ، أمست تبدو أكثر عمقاً و قرباً وهي تباغت لتجتاح عالمنا المرئي و المحسوس و من أضحى منها مندرساً في تشئيواءت ما أوجد " أمجد" من عوالم و مناخات و تصوّرات وتعليل رؤى و مقاصد وما نتج بحكم تقادم الأزمنة و إختلاف الأمكنة ، و توالي الظروف و توافد الأحداث التي عاشها عراق متواليات الأزمات و مخلفات الحروب و ما يدنيها مقتاً و شراسةً و جنوح مظالم و جور خسارات لم تَعدّ تُعدُ أو تُحصى .
تتسق جدارة فحص وجدية رصد " القاص " عبر مرقاب قابيلياته و تجلياته الراميّة إلى تُرجم أفاق فلسفته للموت بوصفه " سكون " فيما الحياة " حركة " وتصدير اليقين على إنه مزدوجة من " سكون و موت " ، يقابله الشك - بحثيث دأب و تكثيف - من حيث كونه " حركة و حياة " ، تنشط توافدات ضخه لسلسلة من أسئلة مسننّة - و التي ألفنا متشابهات لها في أعمال الكاتب الأخرى - تسلّلت سبباً تحريضيّا و تداولياً في مرامي أفاقه الأبعد من مجرد " أسئلة " و لتشكيل - بالنتيجة - مساند و دفاعات ، بل منصات إطلاق ما أنفك يُنشِؤها قدراً تصويبياً مُحكماً ليكون قادراً على ليّ أذرع الحقيقة و تفتيت لمّ شمل التبريرات و التحشيدات من تلك التي يتكأ عليها السياسي ، أو من يدانيه منزلة صنع منزلقات و تعميات من شأنها أن تديم من دواعي و ممكنات وجود أرباب الحيلة و الدهاء المتراكم خبثاً ، هؤلاء ممن يرددّون معادلة عبارة قذرة تناي بالقول ؛ " على العُلا ... حتى و لو على الخازوق " .
و يبقى السؤال ... شاباً
لعل ذلك يتضح لنا منذ أول إستهلال له كان قد عتّم عليه القاص بيافطة كُتب عليها ؛ " الإجابات تقتل السؤال ... الجسد يقتل الرصاص " ، ثم يرفقها ب" شهادة ضاحكة " و بعدها " حُرقة السؤال " لتليه محتويات ثلاث صفحات مطويّة عليها أثار دماء وُجِدت في أحدى جيوب قتيل لا يحمل أوراق تعريف أو هوية ، راح ضحيّة معركة دارت رحاها في قلب مدينة " بغداد " تلك المطوّات التي أصبحت من حصة الطبيب الذي أختاره الزمن و باركته الصدفة حيال نقله مع من تعرّض لجرّاء تلك المعركة الحامية الحافلة بالكثير من القتلى و الجرحى إلى المستشفى التي يخدم فيها الطبيب الذي لم يشعر برغبة في قراءة محتويات المطوّيات - بداية الأمر - بل آثر التحديق في فراغ المكان الذي كان فيه .
نعم تكفي فضح عناوين ما حملت تلك الأوراق الثلاث وهي على التوالي " سكرة العذراء / إعادة درس / إنتحار شجرة غار" لنعرف حجم ما كان يسكن الضحية من صدق و عمق مشاعر و رهافة أحاسيس ، و دقة تصويب حين نراه ما يقول عن تلك الشجرة المنتحرة ؛" إنها تدفع ثمن صدقها ، و الصدق عندما يكون نقياً ، أصيلاً فإنه يصبح وجهاً آخر للموت " .
أثار فينا القاص رغبة التفرّس بقراءاة تلك الأوراق بعد أن هام بها حيرة و شكوكاً سابحة في مويجات أسئلة ، شاء لها أن تكون خميرة لتوالي ما جاء " أمجد " ينهل منها ، دون عناء إنتظار أو مجرد ملمح ظفر بإجاباتٍ ، إن لم تكن قد أضحت هي " أي الإجابات " موّلدة لأسئلة أخرى تنمو و تتوالى كاشفة عن حقيقة مرارة الإحساس بالخيبة و اللاجدوى أمام ما يجري و يحدث بسبب نزق و منزلقات الإحتلالات وآليات صناعة الموت و مشتقاته ، الموت الذي بات - بحسب توصيف القاص - " فرداً مضافاً للعائلة العراقية " كما إنه " لايمنح أحداً حق التجربة " و يعني به - إيضاً - الموت ، ربما بحجم ما تعالت به صرخة " ريتشارد الثالث " حين دوّت هاتفة في سياق حوار مسرحية " شكسبير " لتقول؛ " سأقتل الموت " .
تراسلت مداليل القصص مع بعضها من خلال ثقة تصويب فوهة وعي الكاتب مع رسوخ قناعاته و أواصر خبرته المزدحمة بالفواجع و أصداء فوضى النكبات ، و كيف يكون ترحيل الأجوبة بهوادج أصحابها و حوادي " جمع حادي " مواكبها التي لا تستطيع غير أن تترك أو تخلّف رغوة ذلك الإحساس الدائب على تذوّق طعم مرارة الخذلان و تجرّع لذوعة تكراراته في نفوس الناس وأفواههم ، بل و حتى في ذخائر لوائح التأريخ المُتخمة صيتاً و إدمانا بذات الفجائع و النوائح المعروفة و المترسخة بعموم أشكال الترهيب وغيرها من محصلات التخويف ، بحكم تبني الظروف و الوقائع و سوء الأحداث الملفوفة بجميع رايات الموت ، من حيث هو من يسهم في صناعة الطغاة ، وهو من يجعل الناس أشراراً .
نقاوة الرفض
يحدث أن تكون الأسئلة في أعراف و قناعات " أمجد توفيق " - في الكثير من أحوالها و ملامحها - قادرة على إحراج الحقاىق أو نسفها، بتعميق مساراتها و مياسمها ، بما قد يعاكس رؤية " أدونيس " بخولص زعم وصفه لمجريات ذلك الزمن ؛ " الذي تتقدّم فيه الإجابة و ينهزم السؤال " ، كما كنتُ قد أثرتُ مثل ذلك في متن مقال سابق عن راوية أمجد " الساخر العظيم " الصادرة / 2018 .
شاء أن أنتحلت هذه المجموعة - بجملة نواهلها - صفة الوعظ ، و حفلت تحتمي حزناً و أسىً بدرئية الحكمة ، التي لا مناص غير إستنهاض مآثر الرفض ، بمثل ما كان يرى و يعتقد " بيكاسو " من عدم وجود نقاوة كليّة كما في قوة الرفض ، كما و قد شّكلت الحرب برأي القاص " فردوساً للموت " أضحت تتحاو فيه خلجاته بعد أن تلامعت دماً و دمعاً جرّاء فتك ما يجري و يدمي خواطره المبللة برذاذ وعي متقدم ، حتى بات يبتكر لمهماته لغة تغزل تفاسيره على منوال ما يجد من مقتربات و تعليلات و عناد دفاعات جهدت تقاوم الموت ، و ترى مقتربات للحرب ، بما تناوله " أمين معلوف " بقوله ؛ " مرّت الحرب ... من هنا ... ولم يسلم منها بيت ، أو تسلم منها ذكرى ، حتى الموت نفسه يبدو لي ملطخاً مشوّهاً " ، في و قت يُحيي " أمجد توفيق " مكتسباته الدلالية و حفر معانيه على صخور ذلك الوعي المرتبط بالحياة و الوجدان ، بالشعر و العاطفة و زخات المطر ، تلازمني بعض عباراته كما ظلٌ يلاحق ظلٍ ، حين لنكاد نسمع بما كان يقاوم الموت و الخوف و الحرب و الضجر المضني على أوتار هكذا إنثيالات ؛ " الصورة لا تمتلك مصداقية الثبات " و " للمطر طعم قبلة في لحظة ذوبان ، و حين ينقطع المطر لفترات طوال ، كان العذر جاهزاً بأن يستمطر قبلاتها " ، وغيرها الكثير- الأثير من محافل الدفاع عن تشوّهات الصور القاتمة ، بالممكن من نسق الوهج المستطاع كأن يناور بالافصاح بهكذا قول ؛ " أن لكل شجرة سّراً ، يكتشفه من له قلباً جسوراً " ولعل الكثير من عقلانية الروح يسمو - نهاية المطاف – بعد أن ينمو يتوارد و في مصدات دوام إنتصارها على المستحيل .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat