في ظروف عصيبة مرت بها رسالة السماء، هناك حيث احتدام الصراع مع جاهلية الأرض يوم انطمست معالم الإيمان بوثنيات الأهواء، يوم كان المسلمون قلة مستضعفة يواجهون بنور الرسالة فراعنة الشرك والكفر من الأعداء، في ذلك الزمن الذي تُوأد فيه النساء، وتقتل دفنًا وتنتهك حقوقها جهرًا دون حياء...
في هذا الجو المفعم بالتحديات والبذل والعطاء، كانت مكة تتألق بالنور، ويغمر نبأٌ عظيم بلطف الله تعالى قلب سيد المرسلين بالبشر والسرور، فتنتشي الحياة له بالبهجة والحبور، لِمَ لا وقد شارف قمر الرسالة على التألق، وأذِن لفجر بزوغ الزهراء (عليها السلام) بالسطوع والحضور؟!
أتت البتول فاطمة (عليها السلام) وبشر ميلادها الأزهر البشرية بميلاد جديد، سيكون فيه الخير عميمًا؛ إذ سيترعرع في حجر الهدى سادات الورى، ويستمر ألق الرسالة من فناء هذا البيت السعيد.
نعم، فأنوار الزهراء(عليها السلام) في بيت النبوة تلألأت، وفي أحضان خير الأنبياء نمت وتألّقت، ومن معين روحه الفياضة تشربت فأشرقت، عاشت وترانيم الرسالة لا تغادر شفتيها، وعشق الولاية يسكن بين أضلعها، وهمّ الإسلام يملأ حياتها، ترجمته: همةٌ عالية في نصرة نبيها ومن بعده إمام زمانها، ووقفةُ انقطاع وتبتل في محراب صلاتها، وحنانٌ غامر وسكينةٌ ومودةٌ ملأت بها أركان بيتها، ووعيٌ وبصيرة في تربية أولادها، ورسالةُ علم وتنوير وتكامل لكل نساء عالمها، وسفرُ ولاء ووفاء وفداء وارتقاء للآتين من بعدها، خطّتْه بأنامل صبرها وجهادها وتضحيتها، وغذته من معين روحها في ليالي شوقها وانقطاعها وتبتّلها، وسقته من ماء زمزم حبها لخالقها ونبيها وإمامها...
لذا فحينما تحين ذكرى ميلادها، وتطرق بالبشرى قلوب شيعتها ومحبيها، لا بد أن تكون ذكراها لنا دعوة لوعي الإسلام، واحتضان الرسالة الغراء للنبي وآله الكرام (عليهم جميعًا من الله تعالى أفضل الصلاة والسلام).
لا بد أن تكون الذكرى مبعثًا لنتنسم عبق الإيمان، ونلتف بشوق الباحث عن السمو حول آيات القرآن، ونحتضن بلهفة المشتاق تعاليم الدين؛ لنتسنم ذرى المجد بالعبودية الحقة لرب الأكوان.
لابد أن نتخذ الزهراء (عليها السلام) قدوة ومنارًا نستنير بهديها، ونقتفي أثرها، ونتتلمذ في مدرستها، ونتلقف بشغف كل كلماتها ومواقفها، لنرسم طريقنا في الحياة بالاستضاءة بأنوارها، والاستلهام من مسيرتها، والاستنارة بهديها.
فهيا لنعقد العزم ولنعاهدها في ولادتها التي ينبغي أن تكون ولادة لنا جميعًا بأن نتخذها أسوة نتأسى بها لا سيما في:
1- علاقتها بخالقها الذي ملأ حبه كل كيانها:
فحينما نطالع سيرتها العطرة، ونتأمل في مضامينها النيرة، نرى أنّ آثار محبتها لله تعالى تتجلى في كل زاوية من حياتها المنورة، لذا ينبغي أن نتعلم منها هذا الدرس المهم ونعي جيدًا أنّ أساس الارتقاء هو حسن الصلة برب السماء، والأُنس بساعات التهجد واللقاء.
2- علاقتها بنبيها (صلى الله عليه وآله):
الذي رعته بكل وجودها ونذرت له كل ساعاتها، ففي سيرتها صور فريدة لعلاقة مثالية جمعتها بأبيها ونبيها (صلى الله عليه وآله)، فلم يكن أحد أحب إليها منه ولم يكن أحد أقرب إليه منها، حتى أنه لقبها لفرط رعايتها وحبها بأم أبيها، وفي ذلك درس ينبغي أن نتعلمه منها (سلام الله عليها)، فقد تجلى حبها له في إيثاره على كل محبوب، واتباعه وامتثال أوامره في كل أمر واجب أو مندوب، ونصرته في حياته ومماته ونشر فكره وهديه وإيصال صدى كلماته إلى كل الأرواح والقلوب.
3- علاقتها مع زوجها وبإمام زمانها:
فالمتأمل في حياتها الزوجية، يرى قصصًا تنبض بالرؤى الإسلامية للحياة الأسرية المثالية، والعلاقة الإيمانية النموذجية، التي جسدت فيها السيدة الرضية، سلوك المرأة الأكمل، وبيّنت من خلالها الطريق الأمثل لرضا الله (عز وجل)، بدءا من تيسير مهرها، مرورًا بجهادها على شظف العيش وصبرها، وانتهاء بتقديم روحها فداء لإمام زمانها.
فكل حياتها لوحة مطرزة بالعبر والدروس، الكفيلة ببناء الحياة السعيدة والارتقاء بالنفوس، ويكفي أن نعلم أن الأمير (عليه السلام) كان يقول عنها: ".. لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان" وفي ذلك درس عظيم لكل من تبحث عن السعادة والهناء، وترغب في أن يكون بيتها جنة وأرفة الضلال تغمرها ألطاف السماء، وتباركها تعاليم الأنبياء والأولياء، فما عليها إلا حسن الاقتداء بالسيدة الزهراء (عليها من الله تعالى أجمل السلام وأزكى الثناء).
4- علاقتها بأولادها:
فالمطّلع على سيرتها المباركة مع فلذات أكبادها، يرى صورة الأم المثال، ومن تُحمد في خصالها الخصال، فلقد أطعمتهم حب الله تعالى ورسوله والإسلام، وسقتهم مع اللبن تعاليم الدين وسير الأنبياء والمرسلين العظام، فكان نتاج التربية الفاطمية، أن يبذل الأبناء الكرام أرواحهم الزكية، لتخضرّ شجرة الدين بتضحياتهم ودمائهم القدسية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat