صحراءُ قاحلةٌ، أرضٌ جرداء، لا زرعَ فيها ولا ماء، شدَّ إليها الرحال أبٌ وأمٌّ وطفلهما الوحيد، الذي انتظراه منذُ زمنٍ بعيد..
وهناك تركَ الأبُ الشفيقُ زوجَه وطفلَه الرقيق، وقفلَ راجعًا وهو يلهجُ: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ".
وما هي إلا لحظاتٌ حتى كوتْ شمسُ الحجازِ الحارقةُ الأمَّ ووليدَها، وأضرَّ بهما العطش، فانطلقتْ تسعى بحثًا عن الماء في تلك الصحراء، وكُلُّها ثقةٌ بربِّ الأرضِ والسماء الذي اختار لها هذا البلاء، وإذا بربِّ العالمين يُكافئُ تلك الأمةَ المُطيعة المُضحية، فيفجرَ بئرَ زمزم ويتدفقُ الماءُ كأغلى هدية.
وتأتي الطيورُ وتصيرُ أرض التضحياتِ مهوى الأفئدة، ويكبرُ الصغيرُ، ويشتدُّ عودُه ويتألقُ شبابُه، وتكبرُ أحلامُ الأمِّ الصابرة فيه...
ويأتي الأبُ من جديد؛ ليرى عظيمَ صنعِ الله (تبارك وتعالى) بعبادِه المُخلصين، وأوليائه المُضحين، فيرفع القواعدَ من البيت بمعيّةِ ولدِه الذي تركَه قبلَ سنين.
وتأتي لحظةُ اختبارٍ أخرى لم يُخفِ القرآنُ هولَها حتى أسماها البلاء المبين، تلك اللحظةُ التي رأى بها الأبُ أنَّ عليه أنْ يضحيَ بفلذةِ كبدِه وحلم عمره على مذبحِ الحُبِّ الإلهي، "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ".
ما أروعه من عبدٍ قد تشرَّبَ الحُبَّ والطاعةَ من أبيه لينجحَ في هذا الاختبار العسير كما نجحَ أبوه وأمَّه من قبل.
ويمسكُ الأبُ الشفيقُ السكينَ ليضعَها على رقبةِ ولدِه ليحزَّ بها جلدَه الرقيق، ليُسكِتَ أنفاسَ الأمل الذي انتظره طويلًا، لحظةٌ شديدةٌ عسيرةٌ مرّت على الأبِ وابنِه أظهرا فيها منتهى الطاعةِ والحُبِّ والتفاني والإيثار والإخلاص.
ولكن شاءتْ إرادةُ الله (تعالى) أنْ تفقدَ السكينُ خاصيّةَ الذبحِ تمامًا كما فقدتِ النارُ خاصيّة الإحراق منذُ سنين خلتْ عندما كانَ الأبُ يخوضُ أصعبَ اختبار. ويأتي النداءُ الإلهي مُفعمًا بالبشائر: "...وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ *سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".
قصةٌ نذكرُها في كلِّ أضحى، لتنطلقَ العقولُ والقلوبُ بالتفكرِ والتأمل في معانيها وأسرارها وألطافها.
وهي قصةٌ تعنينا جميعًا، فقصةُ تضحيةِ نبيّ اللهِ إبراهيم (عليه السلام) بولده إسماعيل (سلام الله عليه) وصبر أمِّه هاجر، لم تكنْ يومًا للتسليةِ والترفيه، وإنّما لأخذِ الدرسِ والعبرةِ والتنبيه.
إنَّ هذه القصة تنطقُ فتقول:
إنّ الابنَ هو رمزٌ لأغلى ما يُمكِنُ أنْ يملكَه الإنسانُ في الحياةِ، كيف لا وهو فلذةُ الكبد، وقطعةٌ من الروح والجسد، تتعلقُ به القلوب والألباب، ويُخاضُ من أجلِه في غمراتِ المِحَنِ والصعاب، فيا تُرى كيفَ استسهلَ النبيُّ إبراهيم (عليه السلام) ذبحَ ولدِه؟
وما هو الشعورُ الذي خالجَه عند إمرارِ السكينِ القاطع على رقبته؟
وكيف استسلمَ الابنُ لإرادةِ ربِّه وخالقه؟
وكيف استقبلتِ الأمُّ كلَّ ذلك؟
حقائقُ ينبغي أنْ نُمعنَ فيها النظر، ونطيل فيها التأمّل والتفكر، لنرى سرَّ التسليم والصبر.
إنّه الحُبُّ الإلهي الذي ملأ شغافَ القلوب النقيّة الطاهرة، هو الذي يجعلُ كلَّ عسيرٍ يسيرًا، فيهونُ الفقدُ وتصغرُ التضحيةُ، ويعظمُ الخالقُ (عز وجل) فتُفدى له كلُّ الأشياءِ مهما كانت نفيسةً عزيزةً.
واليوم ونحنُ نعيشُ أجواءَ عيدِ الأضحى المُبارك الذي يُذكّرُنا بقصةِ التضحيةِ والفداء، ويرسمُ لنا صورةَ الحُبِّ الأوحد لله (تعالى) وإيثارَ طاعتِه ورضاه في الشدِّة والرخاء، ألا يجدرُ بنا أنْ نقفَ مع أنفسِنا وقفةَ تأملٍ لنتساءلُ:
تُرى هل ضحّينا بإسماعيلنا؟
هل نحرنا على مذبحِ الحُبِّ الإلهي كلَّ تعلقاتِنا؟
هل أفرغنا قلوبَنا لخالقِنا؟
هل حبُّه وقربُه ورضاه هو المُسيطر على أفئدتِنا؟
هل رضاه هو مُنانا وغايةُ آمالِنا؟
تُرى هل نستطيعُ الانتصارَ على النفسِ كما انتصرَ إبراهيمُ وإسماعيلُ وهاجر؟
هل يُمكِنُ أنْ نضحيَ بالمحبوباتِ والمرغوباتِ وكلِّ المُتعلقاتِ من أجلِ المحبوبِ الأكبر؟
أسئلةٌ ينبغي أنْ نُكرّرَها في كلِّ عامٍ، ومع كلِّ ذكرى أضحى، لنرى أينَ نحن؟ وفي أيّ طريقٍ نسيرُ؟ وما هو موقعُنا على خريطةِ الحُبِّ الإلهي؟ لنُكمِلَ بعدَها المسيرَ على بيّنةٍ من أمرِنا إنْ شاءَ اللهُ (تبارك وتعالى).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat