صفحة الكاتب : عبير المنظور

التنمية البشرية في الفكر المحمدي 
عبير المنظور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 في ظل تهافت شعوب العالم حول مفاهيم التنمية البشرية في عصرنا الحاضر ومحاولة اكتساب المهارات وتطوير الذات ومراجعة الكتب والمؤلفات والدراسات وإقامة الدورات والندوات والمحاضرات الكثيرة في هذا المجال، إلا إن هذه المفاهيم والسبل لتطوير الموارد البشرية قد جاء بها رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله) ووضح مبادئها وأسسها وعمل على إرساء قواعدها في المجتمع الجاهلي منذ مئات السنين وبأساليب بسيطة جدا تحاكي حركة الوعي في المجتمع آنذاك وإن كانت المسميات مختلفة بعض الشيء إلا إنها تصب في نفس المعنى.

علم التنمية البشرية يسمى أيضا بعلم تنمية الموارد البشرية مع وجود فارق بسيط، وعلى العموم فالتسميتان واحدة لأنهما تعتمدان على التنمية بشكل أساسي فعلم التنمية البشرية عام يشمل جميع جوانب الحياة لمختلف فئات المجتمع ويعتني باﻹنسان لكونه جوهر عملية التنمية، أما علم تنمية الموارد البشرية فهو متخصص أكثر ويهتم بفئات محددة من أجل زيادة الإنتاج وتحسينه كالموظفين والمدراء وغيرهم .
والاصطلاح اللغوي للتنمية البشرية فيه لبس لغوي على العامة فأصل التنمية من الفعل (تنمّى) بتشديد النون وهو من النميمة
ونمّيت -بتشديد الميم- الحديث تنمية: إذا بلغته -بتشديد اللام- على جهة الإفساد
ونمَيته -بفتح الميم- نمْيا -بسكون الميم-: على جهة الإصلاح(1)
ولجهل العامة بألفاظ اللغة العربية الفصيحة توهموا أن المصدر (تنمية) من الفعل (نما) من الزيادة والنمو والرفعة والذي مصدره نموا ونماءً(2) وليس تنمية كما تقدم.
وعلى كل حال لا يهمنا المعنى اللغوي الدقيق بقدر ما يهمنا المعنى الاصطلاحي المعاصر للتنمية البشرية وهو تحفيز وتدريب قدرات الإنسان من خلال توفير البيئة الملائمة لتنمية القدرات والخبرات والسلوكيات والطموحات لكل فرد من أفراد المجتمع من جميع جوانبه بما يضمن وعي المجتمع لإمكانياته الفردية والجماعية ورقيه حاضرا ومستقبلا.
وقد عمل على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال اعتماده على أهم مادة أساسية في دينه وهو الإنسان، فدين اﻹسلام هو دين اﻹنسانية يهدف في اﻷساس إلى صناعة الإنسان بما هو إنسان وتطوير قابلياته وقدراته وتسخير كل إمكانياته المتاحة لخدمة المجتمع -كالمجتمع الجاهلي مثلا- الذي ارتقى كثيرا بهذه الخطوات الجبارة والتي أحدثت فيه تغييرا ملحوظا في النهج والفكر والسلوك عن طريق استخدام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدة محاور منها:
تطوير الذات واستثمار القدرات والطاقات البشرية في عملية زيادة الإنتاج.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألته؟ فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. فقال الرجل: ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إن رسول الله بشر فأعلمه. فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطبا ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر.
فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (صلى الله عليه وآله) فقال النبي (صلى الله عليه وآله) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. (3)

نلاحظ في هذا الحديث كيفية تحفيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرجل للتفكير واستثمار الطاقات البشرية الكامنة فيه بالاعتماد على النفس، وبالتالي زيادة الإنتاج والعطاء والانطلاق من حالة الاكتفاء الفردي إلى الاكتفاء المجتمعي العام، مغيرا بذلك النظرة العامة لمجتمع ما قبل الإسلام الذي كان مجتمعا تسوده الطبقية.
فالمقدرات الاقتصادية من التجارة وغيرها كانت تدار من قبل طبقة الأثرياء والوجهاء ويعمل عليها الرقيق والعبيد لتحقيق مصالح تلك الطبقة، أما طبقة الفقراء من الرعية فقد كانت ترزح تحت نير الفقر والعوز، ولهذا كان المجتمع استهلاكيا لا يقدر قيمة العمل والانتاج ، فكانت أرزاق الطبقة الفقيرة المعدمة تأتي إما من تسخيرهم للعمل لصالح الأثرياء مع الرقيق والعبيد، أو من خلال الحروب وشن الغارات على القبائل الأخرى لأجل الحصول على الغنائم.
بينما حاول الرسول (صلى الله عليه وآله) بناء مجتمع إسلامي على أسس رصينة باستثمار الطاقات البشرية وتقدير قيمة العمل والجد والاجتهاد لا بالإغارة والسرقة ولا بالقعود وبذل ماء الوجه بالسؤال والاستعطاء مهما كانت الظروف صعبة على الأفراد عليهم مواجهتها بالعمل والصبر والتقوى وفي السيرة النبوية شواهد كثيرة في هذا المجال.
ومن محاور التنمية البشرية التي عمل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتعزيزها في أفراد أمته هي مسألة تهذيب الإنسان لملكاته النفسية وضبط نفسه عن الهوى.
ولعل أهم ما يرمز لذلك هو (حفظ اللسان) فاللسان يوضح أول ردة فعل للإنسان من غضب أو حزن أو فرح. ولأن الكلمة في الإسلام لها وزن وقيمة وحساب، جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): يعذب اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول :أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به سيئا من الجوارح قال: فيقال: خرجت منك كلمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وانتهك بها الفرج الحرام وعزتي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك.(4)
وعنه (صلى الله عليه وآله): (نجاة المؤمن في حفظ لسانه)(5)،
وجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك فقال: يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك فقال: يا رسول الله أوصني فقال : احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.(6)

وفي هذه الأحاديث تذكرة نبوية عظيمة لمن طلب النجاة في الدنيا والآخرة فهو (صلى الله عليه وآله) يؤسس بذلك إلى منهج ضبط النفس وعدم الانفلات، فالانضباطية هنا ليست سهلة على الفرد مطلقا وإنما يحتاج حفظ اللسان إلى مهارات وتدريبات مستمرة لاستحصال هذه الملكة وبالتالي تعزيز هذه القيمة لدى الفرد، وهو عينه ما يدعو إليه بعض مدربي التنمية البشرية في عملية تطوير المهارات الفردية عن طريق التحكم بالحواس والسيطرة عليها.
وفيما يخص حاسة النطق (حفظ اللسان) فحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة وكل ما هو شائن ويستحب إطلاقه في الكلمة الطيبة التي تعتبر في الإسلام صدقة والاصلاح بين الناس وغيرها والتي تقابلها في مصطلحات التنمية البشرية الحديثة فن الحوار والتفاوض والإقناع، وفي انضباط الحديث بهذه الأمور وتطوير القابليات على التحلي بها سنصل إلى ما يسمى بمعرفة الأنماط التمثيلية للبشر- وتسمى الانظمة التمثيلية أيضا وهي آلية استقبال المعلومات عن طريق الحواس الخمس ومعالجتها ومن ثم برمجتها على هيئة إما صور (نظام بصري) أو أصوات (نظام سمعي) أو مشاعر وأحاسيس(نظام حسي)- ومحاولة اعتمادنا عليها في تطوير قابلياتنا في الحوار مع الطرف الآخر بما يتناسب ونمطه التمثيلي فنحفظ بذلك ألسنتنا من الزلل والخطأ ،ولا يخفى التأثير الإيجابي لصفة حفظ اللسان بهذه الكيفية من الفهم والدقة في تحليل المعلومات قبل النطق بها على المجتمع وأفراده.

وركز رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيرا في مسيرته التنموية لأمة الإسلام على نقطة مهمة جدا للفرد وهي مسألة (مداراة الناس)
ويقصد بها في الإسلام: ملاينة الناس وحسن محبتهم واحتمال أذاهم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله وخلق يداري به الناس وحلم يرد به جهل الجاهل.(7)
وقال (صلى الله عليه وآله): من عاش مداريا مات شهيدا.(8)
وعنه (صلى الله عليه وآله): مداراة الناس صدقة.(9)
وقال (صلى الله عليه وآله): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش.(10)
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق...)(11)
وقوله (صلى الله عليه وآله): (.... أعقل الناس أشدهم مداراة للناس.....).(12)
وبالتأمل قليلا في كمِّ الأحاديث أعلاه عن مداراة الناس وغيرها الكثير التي حفلت بها مصادر الكتب الحديثية يتبين لنا التأكيد النبوي على أهمية هذه الصفة عند الفرد، ومن الواضح ان اكتساب هذه الصفة ليس بالأمر الهين، وكما قيل: رضا الناس غاية لا تدرك .
ومن هنا يتبين أن على اﻹنسان أن يعمل على نفسه ويطور من قدراته وإمكانياته في ملاينة الناس وتحمل أذاهم.
إنه لعمري من أعظم جهاد النفس خاصة في عصرنا الحالي في زمن اختلطت به الايديولوجيات وتعددت فيه اﻷفكار والتوجهات داخل المجتمع الواحد مع الأخذ بنظر الاعتبار اانفتاح الكبير على المجتمعات وتأثير العولمة في تغيير الأفكار والسلوكيات في المجتمع، وفي مداراة الناس بالإضافة إلى عظيم أجره وجزيل ثوابه الذي ذكرته الأحاديث النبوية المتقدمة.
إلا إنه ينظم المجتمع من خلال تدريب الأفراد على التحلي بالذكاء الاجتماعي لخلق مجتمع متعاون متراحم وانعكاسه الإيجابي على اﻷمة من هدوء وانسجام بين الأفراد بعيدا عن الصراعات واانقسام الداخلي.
إننا لا ننكر وجود الخلاف في التوجهات والأفكار داخل المجتمع الواحد ولكن بمداراة الناس فيما بينهم نستطيع احتواء هذا الخلاف كل ضمن دائرته مع احترام الرأي الآخر، فإن هذا حتما لا يؤدي الى الفرقة والتناحر والاختلاف، ومن خلال
وبلحاظ ما تقدم نستطيع القول: بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ارتكز في عملة التنموي لأفراد اﻷمة على عدة أسس منها:
1-تمهيد الأرضية الصالحة للعمل التنموي في المجتمع من خلال نبذ الايديولوجيات والأفكار الجاهلية المقيتة البعيدة عن روح الإنسانية والفطرة وزرع الأفكار والمفاهيم الصحيحة وتثبيتها شرعا وخلقا وسلوكا وتطبيقا.
2-العمل على ركنين مهمين في تركيبة الإنسان :
أ-الركن المادي :
ويعمل أساسا على العقل البشري بتطوير الأفكار فيه إلى مشاريع وأعمال مادية على أرض الواقع تضمن تقدم المجتمع وازدهاره مع التأكيد على قيمة العمل وإتقانه والإنجاز في أحاديث وسلوكيات الرسول (صلى الله عليه وآله).
ب-الركن المعنوي :
ويعمل أساسا على إصلاح سريرة الإنسان وتهذيب صفاته النفسية وبالتالي خلق فرد متوازن نفسيا يستطيع السيطرة على حواسه وانفعالاته الداخلية ويستطيع تصحيح اخطاءه.
3- توفير بيئة مثالية للأفراد في التعايش مع اﻵخر لتحقيق اهدافهم وصناعة جيل واعي يتحمل مسؤوليته في بناء المجتمع وعلى كافة الصعد.
4- التفكير الاستراتيجي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبعاد هذه التنمية البشرية لأمة الإسلام واستمراريتها مستقبلا ما بقيت محاولات اكتساب تلك المهارات والملكات النفسية والتحلي بالفضائل قائمة في المجتمع كإيديولوجيات تنموية لها جذورها الدينية والعقائدية والفطرية والإنسانية.

وكنتيجة منطقية لما سبق فان التنمية البشرية في الاسلام التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله) لو طبقت بحذافيرها والتزمت بها الأمة سنصنع أمة تعتمد على التطوير الذاتي والاجتماعي ونصنع مجتمعا منتجا لا استهلاكيا ، مجتمعاً يقدر جيدا استثمار تلك الطاقات البشرية في زراعة الوعي في الأمة وصناعة الحضارة وهو ما نحتاج إليه في هذا المقطع الزمني الذي تمر به أمة الإسلام.
________________________
(1) المحيط في اللغة ج2 ص477
(2)راجع العين للخليل الفراهيدي ج2 ص201
(3)الكافي ج2 ص139 ح7
(4)مستدرك الوسائل ج9 ص15
(5)الكافي ج2 ص114 ح9
(6)الكافي ج2 ص115 ح14
(7)الكافي ج2 ص116 ح1
(8)روضة الواعطين ص454
(9)مشكاة الأنوار ص218
(10) الكافي ج2 ص117 ح2
بحار الأنوار ج72 ص440
(11)بحار الأنوار ج74 ص145
(12)الأربعون حديثا للعاملي الجرني ص47


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبير المنظور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/17



كتابة تعليق لموضوع : التنمية البشرية في الفكر المحمدي 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net