أَدَبَنِي المَرجِعُ
نور الهدى ال جبر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نور الهدى ال جبر

إنَّ الإنسانَ عِبارةٌ عن قَضيةٍ قَد تولَدُ معه، وقد يكتسبُها في مُقتَبلِ العُمرِ، أو في وسطهِ مِن أهلِه وأقربائه، وقد يتعرّفُ عَليها عن طريقِ عابرٍ ما، أو موقفٍ ما، أو حادثٍ معين، وقَد يبحثُ عَنها ويتعبُ في البَحثِ. وفي كُلِّ الأحوال لا يجبُ أنْ يكونَ بِلا قضية؛ لأنَّ العيشَ من دُون قضيةٍ هَدرٌ للأيامِ، وَفَناءٌ، والمَوتُ معها بقاء.
أنا غُفران، في السادسة والعشرين من العمر، أعيشُ معَ عائلتي حياةً عاديةً، مِن الطبقةِ المُتوسطةِ في مُجتمعنا. وفقَني الله (تعالى) لأدرسَ الصيدَلةَ في إحدى جامعاتِ العراق.
ذات مَرةٍ أُقِيمَ مُؤتمرٌ ذو طابعٍ دِيني في الجامعةِ التِي أدرسُ فيها بمُناسبةِ مولدِ الإمامِ علي (عَليهِ السلام)، ولطالما أحببتُ الفعالياتِ التي تُقيمُها الجامعةُ وكُنتُ حَريصةً على حضورِها، وبصورةٍ عامة كنتُ مُتفاعلةً مع هكذا نشاطات.
حضَرتُ الحفل أنا وجمعٌ من صديقاتي، الذي افتُتِحَ بآياتٍ من القرآنِ الحكيم، بعدَها ارتقى المنصةَ شيخٌ مُعَمَّمٌ...، ولا أُخفيكُم أمرًا لم أكُنْ حينها مُهتمةً أو مُتعمقةً بالأمورِ الدِينيةِ، وكان تديُني سَطحيًا نوعًا ما، يقتصِرُ على إقامةِ الواجبات المُحتّمة كالصومِ والصلاة، ولا أعرفُ الكثيرَ من الشخصياتِ الدينية ومنهم الشيخ الذي ارتقى المنصة..
كان شيخًا معروفًا بينَ أوساطِ الجمهور لكنّي لم أكنْ أعرفهُ! تَرنَّمَ بأبياتٍ في مدحِ الأمير علي (عليهِ السَّلام)، واسترسلَ في بحثٍ حولَ السماحةِ والعفو. لم أكنْ مُصغيةً ولا مُنتبهةً لِأَغلبهِ، إلا أنّهُ ضَرَبَ مَثَلًا عَلِقَ في عقلي وشردَ ذهني بهِ لثوانٍ، قال: (خُذوا مَثَلًا، سماحة المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني: مرجعٌ كبيرٌ ولهُ ثقلهُ، نراهُ مُهَاجَمًا من قِبلِ عددٍ ليس بالقليل! من شتى الجهات، حاولوا تسقيطه وبثّ الإشاعاتِ عنه، بل وشتمَه حتى، هل تعلمون ما كان ردُّهُ عليهم؟! سامحَهم، وأبرأهم الذِمّةَ، ودعا لهم بالرحمةِ والمغفرة! وهذهِ حقيقةٌ أقرَّ بها كُلُّ المقربين منه).
حدّثتُ نَفسي قائلةً: هل يُعقَلُ أنّ هناكَ شخصًا يفعل هكذا؟ أوليسَ هوَ إنسانًا مِثلَنا ينزعجُ ويغضبُ عندَما يتمُّ المساسُ به، والتعرُضُ إليه؟ لا أعتقدُ أنّ كلامَ الشيخِ صحيحٌ، فبالنهايةِ المرجعُ الأعلى شخصيةٌ معروفةٌ، وكُلُّ شخصيةٍ تُريدُ أنْ تُحَسِّنَ صورتَها أمامَ الإعلام....
كانَ ذلك حدثًا عابِرًا، انتهى المهرجانُ وانتهى الدوامُ وعُدتُ إلى البيتِ، وأنا أجلسُ في غُرفتِي وأتصفَّحُ في هاتفي، خطرَ في ذهنِي أنْ أبحثَ في مُحرِّكِ البحث (گوگل) عن السيّدِ علي السيستاني فكتبتُ اسمه، ظهرَتْ لي عنهُ معلوماتٌ عادية في (الويكيبيديا) اسمهُ، دراستهُ، مؤلفاته، مركزه الديني. ولكن مما أثار استغرابي أنّي لم أجدْ له مقاطعَ فيديو كثيرة! فليسَت لهُ لقاءات! صوره قَليلةٌ ومعدودةٌ، ليسَت لهُ مقابلاتٌ أو ما شابه.. فقلتُ في نفسي: أيُّ إعلامٍ ذاك الذي يُريدُ المرجعُ الأعلى تحسينَ صورتِه أمامَهُ؟! أيُّ حديثٍ غَبيٍ حَدثتني به نفسي؟!
واصلتُ البحثَ عنه، واجتهدتُ في ذلكَ، على مستوى الهاتف، والدي، عمّي، إحدى الصديقات التي كانتْ قريبةً منّي. وفي كُلِّ مَرةٍ كان يظهر لي تساؤلٌ جديدٌ، استغرابٌ ما حولَ أمرٍ ما، شُبهةٌ أثارَها حاقدٌ هنا، وادّعاءٌ لَفَّقهُ كاذِبٌ هناك:
لماذا لا يظهرُ إلى الإعلام؟
هل ينطقُ العربيةَ بشكلٍ فصيح؟
يستأجرُ بيتًا بمساحةِ ٧٠م وهو بتلك المكانةٍ الاجتماعية؟!
لا يُريدُ من العراقيين شيئًا سوى أن يراهُم سعداء؟!
لا يريدُ منَ العراق سوى موضعِ قبرٍ يُدفَنُ فيه؟!
أنا خادمٌ لَكُم ومن يقبلُني هو المُتفضل؟!
غرقتُ في بحرٍ عميقٍ من الأسئلةِ والأجوبةِ والاستفساراتِ والدهشةِ، سألتُ الكثيرَ مِن أصحابِ الاطلاعِ والرأي، وقرأتُ كتابَ (الرحلة العلاجية)..
حتّى كانَ المرجعُ عليٌ الحُسيني السيستاني الخطوةَ الأولى نحوَ سُلَّمِ التعرُّفِ على المذهبِ بصورةٍ أعمق والتوغُلِ في حياةِ الأئمةِ (عليهم السلام) ومواقفِهم ورواياتِهم ومبادئهم، كانَ الخطوةَ الأولى نحوَ معرفةِ إمامِ زمانٍ؛ من ماتَ ولم يعرفْهُ ماتَ ميتةً جاهلية..
بل وكانَ الخطوةَ الأولى نحوَ طلبِ الكمالاتِ، والالتزامِ بالواجباتِ والإتيانِ بالمُستحبات..
وفي غضونِ ثمانية أشهر، وصلتُ إلى قناعةٍ تامّةٍ، تغيّرتُ بسببها تغيُّرًا كبيرًا لاحَظهُ كُلُّ مَن حَولي؛ فلم أعُدْ أميلُ للغوِ الحديث، ومعاشرةِ السُفهاءِ ومخالطتِهم، انضبطت أعمالي التعبُّدية كثيرًا، وتقرّبتُ من الكُتُبِ النافعةِ وقراءتِها جدًا، وأخيرًا وجدتُ نفسي بعدَ كُلِّ هذا الضَياع.
وبعد هذا الوضعِ بأسابيعَ قَليلةٍ صدرت فتوى الجـهاد الكفائي من السيّدِ علي السيستاني (دام ظله)؛ فصقلتْ بروحي ما تعَلّمتُهُ منه من مبادِئَ وقِيم، وأثَبتتْ قناعاتي بأنَّ سماحتَه صمامُ أمنِ العراقِ وحافِظُ وحدتهِ وكرامتهِ..
أصبحتْ لديَّ رغبةٌ مُلِحّةٌ لأنْ أشاركَ في تلبيةِ فتوى سماحتهِ بطريقةٍ أو أخرى، وبعدَ عامٍ ونصف من انطلاقِها وفّقني اللهُ (تعالى) للعملِ ضِمنَ اختصاصِي في صيدليةٍ ما. وقد آليتُ على نفسي أنْ أُقدِّمَ العلاجَ مجانًا لجرحى القواتِ الأمنيّةِ والمُتطوعينَ الغَيارَى مِمّن لبّوا فتوى المَرجِع، لكن لم أشعرْ أنّي قُمتُ بكُلِّ ما عليَّ القيامُ بهِ، حتّى وضعَ اللهُ (تعالى) في طريقي (حَسَناً) الذي كانَ من زينةِ شيعةِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، ومن خيرةِ المُقلِدين لسماحة السيّدِ المرجع، إذ كانَ من أوائلِ المُلبّين للِفتوى المُباركة، ونالَ وسامَ مشاركتهِ في القتالِ حيثُ قُطِعَتْ أطرافُهُ السُفلى في سوحِ الوغى...
علمْتُ حينها أنّ ارتباطي به مشروعٌ إلهي، لقيامِ أسرةٍ صالحةٍ، فأصبَحَ لقبُ (زَوجة الجريح) يُغنِينِي عن كُلِّ أسمائي وألقابِي، رزقني اللهُ (تعالى) منهُ بِـ(علي)، الذي أراهُ الآن في حِجرِ أبيه شِبلًا حُسينيًا..
ها هُنا قَد انتهتْ قصّتي، ولكن لم تنتهِ قضيتي، وقضيةُ كُلِّ حُرٍ أبيّ، بل ستبقى هذه القضيةُ (طاعةُ المرجعيةِ العُليا) امتدادًا مُقدّسًا لطاعةِ المولى صاحبِ العصرِ والزمان (عجل الله فرجه)..
فللذي أدّبَني فأحسنَ تأديبي أقولُ: رأيتُ كُلَّ عُتمةٍ قد أنرتَها نورًا جَليًا، رأيتُ في صَمتِكَ العالي صدى دَويًّا، رأيتُ أنَّ صَمتَك قد أرعبَهم رُعبًا خَفيًا، رأيتُكَ شامِخًا كنخلِ العراقِ أبيًا، وصابرًا على جَهلِهم صبرًا سَويًا، ومُسامِحًا لكُلِّ حاقدٍ آذاكَ بَغيًا.. وَجدتُكَ زاهدًا تأسّيتَ بالمولى عَلي (عليه السلام)، أدّبتني يا سيّدي؛ فالشُكرُ لك، وسلامٌ عليكَ وعلى عِلمكَ؛ فإنّكَ الحقُّ القوي، ورحمةُ اللّٰه (تعالى) على ذاكَ المُحيّا البهيّ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat