مازلت اذكر الأصوات الرهيبة للقنابل التي تساقطت على مدينتي وأنا أحاول أن اعبر الجسر الذي كان أشبه بشيخ يأسف لهذا الأمر ...ولم يكن الخوف ينتابني لأنني في تلك اللحظة كنت أرحب بالموت إيمانا مني بضرورة أن يبقى المنتفضون في المدينة دون أن تبقى فارغة !! لكن ينتابني شيء يحتم علي ذكر الحقيقة مصورا جذورا للانتفاضة كانت عند طلاب الجامعات في العراق حين انتفض الطلاب ضد الطاغية في إفشال المعسكرات فكانوا أول الذين ضحوا في عام 1986 والتي قليلا ما يفطن لها المؤرخون والتي دفعنا ثمنها فصلا وتسويقا إلى الوحدات العسكرية ...!! ومن بقايا ذاكرتي فاني أتذكر ما كتبته في واحد من (أعياد ) القائد المزعوم حين أخرجونا طلابا من الكلية بالقوة للاحتفال بميلاد القائد المزعوم وقد كانت الصواريخ تضرب بغداد إذ سقط بعضها بالقرب من كلية الآداب !! فكتبت
شعبان تلعب فيهما زمر ٌ
ورؤوسنا كالثمر تقتطف !!
والقائد الموهوب يعجبه
ميلاده والشعب ينقصف !!
لقد دفع ثمن الانتفاضة الطلابية شباب اذكر واحدا منهم حين فصلوه إذ جمع كل لوحاته مع هوية كلية الفنون الجميلة واحرق نفسه مع اللوحات فكانت مأساة كبيرة ...وكنا قد سجنا في سجن ديالى لأسبوع في سجن ينام فيه المعتقلون وهم وقوف !!وكان واحد من أساتذة كلية الشريعة قد سجن معنا !!وكان طالب في كلية الطب قد فصل معي لأراه بعد أن انتهت الشدة بالنسبة لي مجنونا في شوارع بغداد وكان في الخامس من كلية الطب واسمه عامر ،ولقد بكيت بمرارة لهذا الشاب الجميل الذي كان أمل أسرته المنتظرة لمستقبله ،اذكر ذلك لاعتقادي أن الانتفاضة في عام 1991 كانت لها ممهدات حقيقية دفع ثمنها مناضلون بصمت دون أن يلتفت لهم المؤرخ ،
وها أنا أتذكر القصف العشوائي على مدينتي الهندية وكان معي الرسام حسن البراك في بيت أهلي الذين غادروه إلى الحلة حيث استمر القصف من الساعة الحادية عشر ليلا إلى الخامسة صباحا !! فلم نجد بدا من الهرب إلى البساتين التي صدت عنا بعض الاطلاقات النارية حيث سقط بعض سعف النخيل على رؤوسنا !! وبقينا أكثر من ثلاثة أيام ننام في أحضان البساتين حيث تنكر لنا بعض الناس ممن خدمناهم وأسعفناهم في مستشفى الهندية لأننا رأينا أفضل شيء نقوم به من الناحية الإنسانية هو علاج من أصيبوا بالقصف واذكر فتاة مصابة بالرأس كانت من بغداد ...وكان الأطباء قد هربوا ولم يبق إلا طبيب واحد اجبر على علاج المصابين وقد حاول احدهم أن يضربه بسكين منفعلا إلا أننا امسكنا بيده وأخذنا منه السكين !!!
وعندما هربنا إلى البساتين ..كنت قد رأيت في أعماق البساتين امرأة حافية القدمين في وضع صحي متعب ..فتحدثت مع امرأة ريفية أكرمتنا عنها وقد تقيأت ...قلت لها امضي لتلك المرأة فنحن لا نعرف كيف نسعفها أو قل كنا محرجين لكوننا رجالا من إسعافها فقامت المرأة الريفية بواجبها وأظن أن هذه المرأة أصبحت بعد هذه السنين المريرة في منصب مهم ...كانت هاربة من القصف هي الأخرى ولقد هربت باتجاه نهر الفرات مع البساتين كما فعلنا ..!! ثم اختفت عنا ولا ندري أين صفا بها الدهر حتى أنني أصابني بعض الحزن على مصيرها خاصة بعد دخول الجيش للمدينة !!
لقد كتبت قصيدة طويلة على أنغام القصف الوحشي !!ونحن في بيتنا بحي الجمعية اذكر منها ساخرا من الطاغية
لبيك
لا شريك لك
في الحكم
لا شريك لك
في السوط
لا شريك لك
لبيك أن الشعب لك
قنابل
قنابل ..
.قنابل
والجثث الحمقاء في المزابل .!!
لكن أسوأ ما أحزنني حين تنكر لنا من عالجناه في المستشفى فلم يوافق على المبيت في بيت أبيه الريفي وكان الأب متعاطفا معنا !!لكن والده الذي عالجناه منذ أيام رفض أن نكون ضيوفا في بيته ولقد عرفته من خلال حركة قام بها إذ كان مصابا متغطيا ببطانية وحين تحرك قليلا لمحت رجله المصابة التي لففتها بنفسي حين هرب العاملون والأطباء من المستشفى !!وزاد حزننا حين هربنا بمحاذاة النهر إذ قام رجل برفع بندقيته ورمينا حتى أنزلنا بالقرب من جرف النهر وكان خائفا من أن نأتي له بالشبهة !!!كما فهمنا !! فأطلق النار علينا .
قلت لصاحبي نزار أبو سنه ونحن في مقهى النهر :إن كل أسباب الثورة قائمة في العراق على غرار الثورة الفرنسية فالناس جياع والظلم أصبح على أشده بعد تصفية الأحزاب والتفرد بالسلطة (الحكم بالحديد والنار !!...ومرارة الهزيمة النفسية والحروب المستمرة ومطاردة أحرار الفكر ...وبعد مدة بسيطة حدثت الانتفاضة الشعبية التي حاول البعض تشويه وطنيتها بدس الطارئين واللعب بالأوراق !! ورأيت الدبابة يسوقها رجل شعبي !!وسمعت جوقات من المقاتلين بسيارات البيكب تردد هوسات شعبية منها (الما يطوع ... شيلة مرتة تلوك عليه ) كما سمعت من يردد هوسة تدل على الجوع تقول (كيلو الطحين بألف ...الله اكبر ينطوه بس للعرف ...الله اكبر وليحكم الأجنبي الله اكبر)...ورأيت أناسا متخاذلين يحاولون النيل من الحماس الثوري وأسوأ شيء لدى البعض ..كان عدم التنظيم والتحسب للطوارئ الاقتصادية والعسكرية ...ولقد نصحت احد الضباط في المكتبة التي كانت مقرا لاجتماع القوى الثورية ذات الخبرة والتجربة البسيطة بان قلت له بضرورة تنظيم القوى عسكريا وضرورة وضع خطة تحسبا لهجوم مرتقب وضرورة التحسب اقتصاديا لذلك فلم يسمح لي وأشعرني بالدونية .!!لكن الإعجاب الحقيقي يكمن في الشباب الثوري الصادق والراغب في الحفاظ على الممتلكات العامة والمخاطر بروحه في الدفاع عن المدينة على الأقل !!فرأيت من قتلوا على يد الجيش ولم يستطع الناس تغسيلهم ،فتم تغسيلهم بنهر الفرات على جرف النهر الحزين !!
وما زلت اذكر موضع الطلقات في ظهورهم العارية وكان صديقي نزار أبو سنه من اخلص الذين امنوا بضرورة التغيير ،ولقد حافظ على كتب المكتبة العامة من النهب وشارك بالسلاح للدفاع عن مدينته حتى إذا دخل الجيش هرب إلى بغداد ..وهناك سكن في منطقة شعبية هي (الفضل ) ولقد ذهبت إلى بغداد بعد شهر من الاطمئنان حيث لم يحدث شيء بالنسبة لنا بعد أن تعاملنا بهدوء مع الأحداث رغم قلقنا حيث اكتشفنا من كان يتلثم ويشخص الذين شاركوا بالانتفاضة وعندما وصلت إلى منطقة الميدان وكان الجو صيفا وجدته يجلس في مقهى مفتوح أمام مرأى الجميع !!فنصحته بعدم الظهور لان الأمن يتربص بالشباب ونصحته بالهروب إلى الشمال ومن هناك يتصرف ،إلا انه قابل نصيحتي بنوع من عدم الاهتمام ...وبعد مرور أشهر على ذلك اكتشفت وجوده في شقة بالحلة عند احد الأقرباء فلما علمت بذلك ذهبت له مخصوصا لا نصحه بعدم الظهور وعدم الثقة بمن حوله فلما دخلت الشقة وجدت الأمر بلا تحسب وانه يتعامل بلا أي تحوط امني فكررت عليه نصيحتي ..فلم يأخذ بها ..وبعد أسبوع أو أسبوعين لا أتذكر بالضبط سمعنا بمن قصف المنظمة الحزبية آنذاك ولم نعرف من فعل ذلك إلا بعد سنوات ..حيث ظهر نزار أبو سنة باسمه ضمن الذين ضربوا المنظمة مع شباب متحمس اذكر منهم شابا اسمه (كتاب ) وآخر اسمه أظن (علاء ) كان في كلية علمية ..!! وكانت الضربة بشجاعة وأظهرت تحديا كبيرا لنظام مستبد آنذاك واختفى الأمر غامضا حتى سمعنا باعتقال نزار أبو سنة ولم نعرف كيف اعتقل ومن الذي أوصلهم إلى ذلك إلا بعد سقوط النظام حيث حكى لي الأستاذ فريد ابو سنه عندما أشار إلى من نقل وقد تحدثت والدة نزار أو أخته عن قلقها على ولدها فاستدرجتها امرأة لتقول لها فيما بعد أين يسكن مطمئنة لها وهي تبث لواعجها ..فأرسلت ابنها الذي كان مرتبطا بالأمن أو كان مدسوسا لهذا الغرض فعرف العنوان ليذهب لزيارته وكان قد اخبر الأمن طبعا ليقبض عليه ...ثم يعدم فيما بعد ..وكان الحزن يغمرني وأنا أتذكر أياما وذكريات ثقافية مع هذا الشاب الثوري الذي كان صادقا بكل شيء والذي كانت دماؤه جسرا لعبور الثائرين على الظلم والظالمين ...ولسان حالي يردد
أتعلم أم أنت لا تعلم
بان جراح الضحايا فم ُ
أتعلم أن دماء الشهيد
تظل عن الثأر تستفهم !!؟
وهناك على جسر الهندية ظلت في ذهني صورة القصف المرعبة بالقنابل المتناثرة تقفز في ذاكرتي بين الحين والآخر وأنا اعبر جسرا مثل شيخ كبير يروي قصص الحكمة للعابرين !!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat