قوس المصالح يجتمع مع قوس الاستراتيجيا
علي بدوان
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
علي بدوان

أدت التفاعلات المتتالية لأحداث الشرق الأوسط، لوقوع اصطفافات إقليمية ودولية حادة، حيث تصدرت كل من روسيا والصين الشعبية ومعهما إيران والبرازيل وجنوب افريقيا والهند صف القوى الدولية الرافضة لسياسات واشنطن والغرب الأوروبي عموماً.
البعد الجيوستراتيجي
وعلى ضوء تلك التفاعلات، باتت العلاقات المشتركة بين كل من بكين وطهران تملك بعداً مزدوجاً، يتعلق بالمصالح ذات البعد الجيوستراتيجي من جانب مع حدوث الانكسار التدريجي للأحادية القطبية في العالم، وهو الانكسار الذي بدأ للتو مع استخدام كل من موسكو وبكين للفيتو المزدوج مؤخراً ولمرتين خلال ثلاثة شهور في إطار مجلس الأمن الدولي أثناء نقاش ملف الأزمة السورية، وبالمصالح المشتركة الاقتصادية والنفطية على وجه الخصوص من جانب آخر.
فالتحالف بين بكين وطهران ينبع في بعده الجيوستراتيجي انطلاقاً من تقديرات الصين التي تتخوف من اللعب الأميركي والغربي في (خواصرها) الرخوة في إقليم التبت وفي إقليم (تشينغ يانغ) ذي الغالبية الإسلامية الذي تقطنه قومية (الايغور) حيث تقع الأراضي الإيرانية على مسافات ليست بالبعيدة عن الإقليم المذكور الذي يشهد توتراً عرقياً من حين لآخر، ومحاولات انفصال تقودها جماعات تنتمي لقومية (الايغور). كما ينبع من حقيقة الصراع المختفي تحت الجمر المتقد بين الكتل الدولية الكبرى في ظل الأزمات الاقتصادية التي استطاعت الصين أن تنجو من مفاعيلها ومضاعفاتها حتى الآن، وان تواصل صعودها الاقتصادي بوتيرة جيدة نسبياً، وان توسع حجم مدخراتها النقدية بالعملات الصعبة. وبالطبع فان هذا لا يلغي حرص بكين على إدامة علاقات متواصلة مع الولايات المتحدة بلغة الحوار والدبلوماسية.
ومن استنسابات البعد الاستراتيجي في علاقات بكين وطهران، تكمن حقيقة الموقف الصيني الدبلوماسي الحساس في التعاطي مع الملف النووي الإيراني، وتعطيل بكين عملياً لجزء كبير من مفاعيل الضغوط والعقوبات الدولية التي سعت الولايات المتحدة لاستصدارها تباعاً لثني ايران عن متابعة نشاط برنامجها النووي، حيث ظلت ايران ولعقود ثلاثة ماضية والى الآن عملياً تزود الصين بالنفط وتوفر لها موطئ قدم في توازنات الشرق الاوسط، وهو موقف قابلته بكين بإحباط الجهود الأميركية التي هدفت لعزل و معاقبة طهران.
وفي هذا السياق، فان تقديرات مغايرة تنحو للقول بأن حسابات التعاون والتفاضل القديمة بين طهران وبكين قد تتغيّر وقد تنتهي في ظل تزايد حدة الاصطفاف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بشأن ملف ايران النووي. فبكين (حسب أصحاب الرأي إياه) لا تسير في لقاء جيوستراتيجي خطير ومكلف إلى النهاية ولا تضع نفسها في فوهة المدفع بمواجهة العالم بأسره من أجل ايران أو حتى غيرها.
وبالمقابل فان الرد على الاستنتاج الوارد أعلاه بسيط وسهل، فالصين في الظروف الصعبة الماضية وفرت غطاءاً لإيران، فكيف بها الآن مع تصاعد الموقف الروسي في مواجهة السياسات الدولية للإدارة الأميركية تجاه القضايا الساخنة في العالم. فالصين ترفع من منسوب موقفها وفق وتيرة ارتفاع الصوت الروسي، خصوصاً في هذا الوقت بالذات الذي تبدو فيه بشائر ومخاضات أولية لولادة تعددية قطبية جديدة في العالم، وكسر للقطبية الأحادية التي قادتها الولايات المتحدة منذ تفكك الاتحاد السوفياتي السابق وانهيار حلف فرصوفيا بداية العام 1990 .
الصين والنفط الإيراني
أما في البعد المتعلق بالمصالحة الاقتصادية والنفطية المشتركة، فان بكين بحاجة ماسة لتنويع مصادر النفط المستورد إليها، حيث تعتبر جمهورية الصين الشعبية دولة غير منتجة للنفط عملياً، حيث إنتاجها من أراضيها محدود قياساً لكميات استهلاكها الداخلي. وتتركز حقول الإنتاج الداخلي للصين الشعبية في منطقة تيانجين قرب بكين وفي مقاطعة تشينغ يانغ غربي الصين.
كما تعتبر جمهورية الصين الشعبية دولة مستهلكة للنفط، إذ تحتاج كل يوم إلى أكثر من ستة ملايين برميل من النفط السائل المكرر، تستوردها بشكل أساسي من ايران وانغولا وبعض دول الخليج وليبيا، فيما تحتاج إلى كميات ضخمة موازية من الغاز الطبيعي الذي تستورده أساسا من روسيا الاتحادية.
وتشير المعطيات الحكومية الصينية المنشورة مؤخراً، بأن ارتفاعاً ملحوظاً سجل على الطلب على النفط في الصين، في بلد تزداد فيه معدلات النمو باضطراد ولو كان متأرجحاً في بعض الأحيان لأسباب عالمية تخص الاقتصاد العلمي وليس اقتصاد الصين وحده من عام لآخر، فقد نما الاقتصاد الصيني بنسبة (8,9%) بالربع الأخير من العام الماضي 2011 . وانطلاقاً من ذلك فقد ارتفع الطلب على النفط في الصين لمستوى قياسي جديد في ديسمبر الماضي 2011، بمعدل وسطي بلغ (9,64) ملايين برميل يومياً، بزيادة قدرها (0,4%) عن مستواه قبل عام مضى، وارتفاعاً من معدل وسطي قدره (9,5) ملايين برميل يومياً في نوفمبر الماضي 2011 . وبشكل عام فقد نما الطلب على النفط في الصين بنسبة (6,8%) مقارنة مع قفزة بلغت (12%) عام 2010 .
إن الصين الشعبية ثاني اكبر مستهلك للنفط على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، حيث أظهرت المؤشرات والتقارير الحكومية الصينية المنشورة أن متوسط استهلاك النفط بالصين عام 2011 بلغ (9,24) ملايين برميل يومياً بزيادة قدرها (590) ألف برميل يومياً عن المتوسط المسجل عام 2010 والبالغ (8,65) ملايين برميل يومياً.
إن الصين تستورد حاليا نحو (21%) من إجمالي صادرات النفط الإيرانية التي تبلغ (2,5) مليون برميل يومياً، فيما تصدر إيران نحو (18%) من نفطها الخام إلى عموم دول أوروبا, التي أصبحت بذلك ثاني أكبر مستهلك للنفط الإيراني بعد الصين. فيما تستورد اليابان نحو (240) ألف برميل يومياً من النفط الإيراني.
إن سياسة الصين النفطية تقوم على مبدأ تعددية المصادر، وتجنب الاعتماد على مصدر واحد خشية الوقوع في مطب الاحتكارات النفطية أو التحكم بالأسعار، ولذلك فهي تعارض وعلى طول الخط ما يحاك ضد ايران على صعيد منعها من تصدير نفطها وحرمانها من ثرواتها الضخمة في سياق الضغوط الغربية عليها إزاء برنامجها النووي للاستخدام السلمي للطاقة النووية، لذلك تعارض الصين العروض التي قدمت إليها بإغراءات معينة وبتخفيض للأسعار مقابل وقف تدفق النفط الإيراني إليها.
كما أن النفط الإيراني له أولوية من جانب الصين نظراً لأمرين اقتصاديين، أولهما قرب ايران من الصين عموماً وبالتالي توفير كلفة إيصال النفط إليها. وثانيهما جودة النفط الإيراني وانخفاض نسبة الرصاص فيه.
في هذا السياق، فان جهود الولايات المتحدة لإحكام الحصار على ايران، والضغط على بعض دول العالم لوقف استيراد النفط الإيراني والاستعاضة عنه بنفط دول غير ايران لن يجدي نفعاً مع دولة كبرى كالصين التي تحترم اتفاقاتها التجارية وعلاقاتها الاقتصادية، كما تحترم نفسها كدولة كبرى مقررة في الخريطة السياسية الكونية وبالتالي فهي ليست دولة ملحقة أو تابعة. فالصين دولة مستقلة ذات سيادة، ومن المستحيل أن تتبع الولايات المتحدة بخطوات عمياء، كما أن كافة التبادلات التجارية بين الصين وإيران تستند إلى المعايير القانونية الدولية للمعاملات، وليس هناك أي انتهاكات.
وعند الحديث عن العلاقات النفطية بين الصين وإيران، فان العلاقات الاقتصادية بين البلدين على غاية من الأهمية بشكل عام، حيث ازداد التبادل التجاري بين البلدين خلال العام الماضي 2011، بنسبة تقارب (55%) ليصل لأكثر من (45) مليار دولار، بزيادة مقدارها (16) مليار دولار مقارنة مع عام 2010 . وبذلك باتت الصين أول شريك تجاري لإيران، خاصة وأنها تشتري منها كميات كبيرة من النفط، في حين لم تتجاوز قيمة التبادل بين البلدين أربعمائة مليون دولار قبل خمسة عشر عاماً. وعلى هذا الأساس فان سياسة العقوبات الاقتصادية على إيران التي تريدها الولايات المتحدة تنعكس سلباً على المصالح الاقتصادية الوطنية والإستراتيجية للصين، فإيران مصدر نفطي هام للصين وللشركات الأجنبية المتعاقدة وأكبر سوق للصادرات الصينية.
وعليه، إزاء العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد إيران لإجبارها على وقف تطوير برنامجها النووي للاستخدام السلمي، أعلنت الصين أكثر من مرة معارضتها للعقوبات الأحادية الجانب التي تبنتها الدول الغربية مستهدفة القطاعين المالي والنفطي في إيران، داعية في الوقت نفسه لتسوية الخلافات الدولية عبر الحوار والمشاورات.
وخلاصة القول، إن للصين مصالح عميقة مع ايران لها علاقة بالجغرافيا والصراع الكوني الدائر في ظل التحولات الدولية المتسارعة على صعيد إعادة رسم خرائط القوى في العالم. كما تعتبر الصين أكبر شريك تجاري لإيران (بدلاً من الاتحاد الأوروبي)، وأكبر مشتر للنفط الإيراني، وأكبر مستثمر أجنبي في ايران التي تحتل المرتبة الرابعة في تصدير النفط في العالم، وهي ثالث أكبر مصدر للنفط للصين، حيث تمتلك إيران مصادر متعددة ورخيصة من النفط والغاز تشكل أهمية كبرى لاستهلاك الطاقة في الصين. ومن مصلحة الصين الاحتفاظ بعلاقات ودية والتعاون مع طهران.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat